عقدان من الصراع الأمريكي الأفغاني، على وشك الانتهاء، بدروس قاسية وفاتورة سياسية واقتصادية باهظة، ستدفعها الولايات المتحدة بإعلانها نجاح التفاوض أو الاستسلام على وجه الدقة لحركة طالبان، والانسحاب بأكثر من 5 آلاف جندي، في إطار اتفاق مبدئي مع الحركة، لم يغير منه تعرض العاصمة الأفغانية كابول إلى تفجير ضخم، في مجمع سكني للأجانب، تبنته طالبان، وقتلت فيه 16 وأصابت العشرات بجروح، وكأنها تضغط لتمرير الاتفاق بالقوة، وتوضح موقفها: نحن أسياد الميدان، معكم أو دونكم.
كيف جرت المفاوضات؟
9 جولات من المفاوضات بين الأمريكيين وحركة طالبان جرت في قطر، انتهت إلى ضرورة أن يسحب الطرف الأول جنوده، مقابل التزام الطرف الثاني بألّا تكون أفغانستان قاعدة لجماعات متطرفة تستهدف الولايات المتحدة أو حلفاءها، وقبل الوصول إلى هذه اللحظة، كانت أفغانستان وعلى مدار سنوات، تشهد بشكل شبه يومي تفجيرات تستهدف الأجانب وكل الدوائر التي تتعامل معهم من الداخل.
مع استمرار الحرب، تآلف الجميع مع أصوات الرصاص والمفرقعات، لدرجة أن الحركة، لم تتنازل عن إحدى عملياتها التخريبية التي كانت مقررة قبل الوصول إلى الاتفاق ضد مجمع سكني للأجانب، في الوقت الذي كان يذيع الإعلام الأمريكي، وبوجه خاص قناة Tolo News التليفزيونية، مقابلة مع زلماي خليل زاد المبعوث الخاص للولايات المتحدة وكبير المفاوضين في أفغانستان، وهو يشير فيها إلى انتهاء الجولة التاسعة من المفاوضات بين الأمريكيين وطالبان، والتوصل إلى اتفاق من حيث المبدأ، لإحلال السلام في هذه البقعة الشائكة من العالم.
التفاوض الذي جرى لسنوات، كان يتم في غياب ممثلي السلطات الأفغانية الذين لم تعترف بهم حركة طالبان حتى الآن، ولا تعترف السلطة بهم في المقابل، واكتفت الإدارة الأمريكية بتطييب خاطر الحكومة المركزية، بأنها ستكون جزءًا من مفاوضات التسوية السياسية المستقبلية مع طالبان، رغم معرفتهم أن الحركة ترفض بشدة الالتقاء وجهًا لوجه مع المسؤولين الأفغان، وتعتبرهم عملاءً وخونةً.
يبدو أن تجاهل هذه التعقيدات، يؤكد أن القوات الأمريكية في أفغانستان البالغ عددها 14000 جندي، لم تعد قادرة على تحمل المتاهة الطالبانية، بعد 20 عامًا من الاستنزاف على جميع المستويات، لذا جاء الانسحاب الأول، يشمل إغلاق 5 قواعد عسكرية كاملة، خلال الأشهر الست المقبلة، بينما أوصلت طالبان رسالتها على الأرض من تفجير يوم إعلان المفاوضات “لن تحصل على السلام إلا بعد رحيلك”.
يقترح كبار مستشاري البيت الأبيض توسيع وجود وكالة الاستخبارات المركزية في أفغانستان بشكل سري، قبل خروج القوات الدولية وانسحابها من البلاد
وترفض الحركة الالتزام بالحد من العنف، وفق اتفاقيات الدوحة التي تمت برعاية ووساطة قطرية بين الجانبين، ويمكن القول إن البيت الأبيض أصبح لا يكترث بالواقع، بعدما صنع فكرته الخاصة عما بعد انسحاب القوات الأمريكية، إذ ترغب إدارة ترامب في تمكين وكالة الاستخبارات المركزية بـ”الحسنى” من طالبان بعد أن تخرج منها، رغم الأضرار المتوقعة من ذلك والمشكلات اللوجستية وخطر فقدان السيطرة على هذه المنطقة الخطرة من العالم، فمن المعروف أن قوات طالبان ستعود لسيرتها الأولى في التعامل مع الأفغان المختلفين معها، مما يؤجج الكراهية لأمريكا بين السكان الأفغان.
كما يؤدي هذا الانسحاب والتعامل الوثيق لتمكين طالبان إلى تشويه سمعة الولايات المتحدة والطعن في أهداف الحرب التي شنتها على مدار عقدين من الزمان، إذا كان الهدف بعد كل الدماء والدمار الذي تسببت فيه الحرب بدعوى تمكين الديمقراطية والتعددية في أفغانستان، العودة إلى نقطة البدء والتفاوض هربًا خلف الأبواب المغلقة، بعيدًا حتى عن حكومة كابول، ما يعني أن القوى العالمية تضع الشعوب ومصالحها في آخر قوائم اهتماماتها.
هذه الافتراضات، أشعلت الخلافات داخل الإدارة الأمريكية، كما هو عادة كل قرار حاسم، حسبما أشارت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، في تقرير لها وأوضحت أن هناك مخاوف تتعلق بماهية الدور المستقبلي لجهاز الاستخبارات المركزي CIA”” داخل الأراضي الأفغانية، إذ كان يقترح كبار مستشاري البيت الأبيض توسيع وجود وكالة الاستخبارات المركزية في أفغانستان بشكل سري، قبل خروج القوات الدولية وانسحابها من البلاد، وهو اقتراح اعترضت عليه قيادات وكالة الاستخبارات المركزية والمسؤولين العسكريين.
حققت طالبان نصرًا كاسحًا على الولايات المتحدة، فالخروج الأمريكي بهذه الطريقة، يعني فرض منطقها وتوسيع قاعدة شعبيتها بين أتباعها
بحسب الصحيفة الأمريكية، مديرة وكالة الاستخبارات المركزية جينا هاسبيل عبرت عن مخاوف لوجستية بشأن الخطة المقترحة لتوسيع عمل الوكالة قبل الرحيل، وأكدت لهم أن هناك خطرًا شديدًا على عملاء الوكالة، الذين حشدتهم من جميع الميليشيات لملاحقة عناصر طالبان والقاعدة وداعش، والتحول من دعم هؤلاء إلى دعم خصومهم يعني خطورة كبيرة على أفراد الوكالة الذين يراد منهم التوسع في الأراضي الأفغانية أولاً، كما حذر من عمليات انتقامية ضد الولايات المتحدة، وهي المخاوف التي رفض مسؤولو البيت الأبيض التعليق عليها، بعدما اتخذوا قرارًا نهائيًا بالعودة إلى طالبان لإنهاء أطول حرب في تاريخ الولايات المتحدة.
وعلى ما يبدو فإن وعي مسؤولي الاستخبارات يفوق مسؤولي البيت الأبيض، فلن يفرق عند طالبان، رحيل القوات العسكرية الأمريكية، والإبقاء في الوقت نفسه على ضباط المخابرات المركزية الأمريكية، فالمغادرة تعني لهم رحيل كل من له علاقة بالأمريكان، وإلا فالرسالة التي بعثوا بها من تفجير الأيام الماضية تكفي للرد على أي مناورة أمريكية للبقاء في أفغانستان لمحاصرة الحركة.
من ربح المفاوضات؟
حتى هذه اللحظة، حققت طالبان نصرًا كاسحًا على الولايات المتحدة، فالخروج الأمريكي بهذه الطريقة، يعني فرض منطقها، وتوسيع قاعدة شعبيتها بين أتباعها، بجانب أن أي اتفاق لن يكون هدفه نزع سلاح طالبان، سيعني بشكل آخر منحها السيطرة على أجزاء أكبر من أفغانستان، ومع عقلية الحركة العقائدية، ستعود أفغانستان وكرًا آمنًا للجماعات الجهادية كما كانت من قبل، وأغلبها يرى الولايات المتحدة عدوًا رئيسيًا، ولن يكون سهلاً إلزام طالبان بتعهداتها، بل سيكون من الصعب عودة القوات الأمريكية بطريقة دراماتيكية لمحاربة طالبان، إذا تعرضت مصالح واشنطن للخطر.
الطريقة التي تمت بها المفاوضات، التي لن تعطي الأمريكان أي ميزة، وستعني خروجهم مهزومين على جميع المستويات أمام نظام بدائي كطالبان، جعل تسعة من كبار الدبلوماسيين الأمريكيين السابقين، يحذرون على لسان مؤسسة المجلس الأطلسي، وهي من كبريات المؤسسات البحثية، من سقوط أفغانستان في براثن حرب أهلية شاملة، إذا سحب ترامب كل القوات الأمريكية من البلاد، قبل أن يتوصل مع طالبان إلى تسوية سلمية.
البيان الذي أصدرته المجموعة، أطرافها نخب دبلوماسية على علاقة بالأزمة، فمنهم خمسة سفراء أمريكيين سابقين في كابول، ومبعوث خاص سابق لأفغانستان ونائب سابق لوزير الخارجية، طالبوا فيه خليل زاد بالوضوح أولاً قبل الحديث عن تسوية، وتحديد فترة بقاء القوات المتبقية في أفغانستان، وما هي الشروط التي تحدثت عنها الإدارة الأمريكية، والأطر الموضوعية الكفيلة بإنجاحها، وما هو الضمان في إلزام حركة طالبان بمنع تنظيم القاعدة المتحالف معها منذ عقود أو الجماعات المتشددة الأخرى من اتخاذ أفغانستان منصة انطلاق لشن هجمات على مصالح الولايات المتحدة وحلفائها، وإلا لماذا دخلت طالبان الحرب إذن، إن كان يمكنها تسليم حلفائها قبل 20 عامًا، التي ما زالت ترفع السلاح من أجلهم ضمن أهم أهدافها!
ما يحذر منه الدبلوماسيون الأمريكيون، يؤكد أن هناك كارثة لا يعيرها ترامب اهتمامًا، وهي عودة الحرب الأهلية الشاملة التي عصفت بأفغانستان من قبل، ويبدو أن الرئيس الأمريكي لا يعرف أن أي حرب أهلية جديدة قد تكون توابعها كارثية على الأمن القومي الأمريكي، لأنها ستشهد على الأرجح استمرار التحالف بين “طالبان والقاعدة وستسمح للفرع المحلي لتنظيم الدولة الإسلامية “داعش” بتوسيع نفوذه أكثر من ذلك.
ما الذي أوصل ترامب إلى لحظة الاستسلام الكامل لـ”طالبان”؟
القصة بدأت منذ عام 2001، والهجوم الجنوني للولايات المتحدة على من أسمتهم آنذاك محور الشر، أفغانستان والعراق وإيران، بعد أقل من شهر على هجمات 11 سبتمبر، وفي الجزء الخاص بأفغانستان، كانت تستهدف إنهاء حكم حركة طالبان، وحشدت لهذه الحرب جيوشًا من مختلف دول العالم، وعلى رأسهم قوات حلف الناتو، ولكن كل هذه الحشود لم تستطع أن تبيد الحركة، بعد مرور أكثر من 18 عامًا على تلك الحرب، في ظل ضعف الحكومة الشرعية المدعومة أمريكيًا على ملء الفراغ الذي تركته طالبان، بجانب عدم قدرتها على المواجهة بجانب القوات الأمريكية.
في النهاية أدرك البيت الأبيض، في وجود عقلية رأسمالية تديره كترامب وتحسب لكل سنت يخرج من الخزانة، ماذا ستستفيد البلاد من التفاوض مع حركة طالبان لوقف الصراعات المسلحة، وانخرطت بالفعل في مفاوضات مباشرة منذ عام 2012، بدأت كمباحثات سرية بين الطرفين، في عدد من دول العالم منها السعودية والإمارات وباكستان وروسيا، لكن النتائج الأخيرة التي تكللت بالنجاح جاءت من العاصمة القطرية الدوحة.
لم تستغرق مفاوضات قطر بين الأفغان والأمريكان أكثر من 8 أشهر، ليتوافق الطرفان يوم 24 الماضي، على أطر اتفاق تاريخي ينص على إقامة مرحلة انتقالية في أفغانستان مدتها 14 شهرًا، مقابل تحقيق انسحاب أمريكي بأقل الخسائر السياسية الممكنة، وهو هدف صعب المنال، إذ لا بد لواشنطن الانصياع لمطالب حركة طالبان وتقديم تنازلات جوهرية، على رأسها وضع جدول زمني قصير للانسحاب، مع حد أدنى من التدخل في المستقبل السياسي للبلاد.
الخسارة الفادحة لأمريكا وسمعتها في مثل هذه الحروب، لا تمثل شيئًا لترامب الذي يحسب قراره بحجم التكلفة المادية لـ18 عامًا من الصراع، صرفت فيه الولايات المتحدة مبالغ خيالية للقضاء على طالبان، بلغت ما يزيد على تريليون دولار و4 آلاف قتيل أجنبي وعشرات الألوف من الجرحى والمعاقين، ولم تفلح في تحقيق أهدافها في النهاية، بل إن الحركة تسيطر الآن عمليًا على نحو 50% من مساحة البلاد، كما لم تنجح السياسات الاستخباراتية في تحشيد جهود التنظيمات الأخرى لمحاربتها.
أكثر ما تتمناه أمريكا حاليًّا من خلال هذا الاتفاق، وضع خطوط التقاء واضحة، بين طالبان وأمريكا، للقضاء على تنظيم داعش الذي تتخذه روسيا ذريعة لتوسيع نفوذها بأفغانستان، وبالتالي حال نجاح هذه الخطة، ستخرج القوات الأمريكية بانتصار كبير عجزت القوات عن تحقيقه في الميدان، وهو ما تدركه طالبان، لذا ترفض تقديم تنازلات جوهرية تتعدى الخطوط الحمراء للحركة.