شكلت الهجمات الأخيرة “الجوية الصاروخية” التي تعرضت لها منشآت نفط تابعة لشركة أرامكو السعودية هزة كبيرة للاقتصاد العالمي، وكيف لا وأسعار النفط الدولية تعرضت لإرباك كبير على إثر هذه الهجمات، وهو ما لم تشهده أسواق النفط العالمية حتى بعد قيام الثورة الإيرانية عام 1979 أو حتى بعد دخول القوات العراقية إلى الكويت عام 1990، فانخفاض نسبة إنتاج الطاقة العالمية عن 5% في يوم 14 من سبتمبر 2019، إلى الحد الذي دفع الولايات المتحدة الأمريكية وكوريا الجنوبية لاستخدام مخزون النفط الإستراتيجي فيما لو توقفت إمدادات النفط من السعودية، سيكون حدثًا لا يقل أهمية عن حدث 11 من سبتمبر 2001، لما سيحمله هذا التاريخ من تداعيات على المشهدين الإقليمي والدولي في الأيام القليلة القادمة.
ما الجهة الرئيسة التي نفذت الهجوم؟
رغم تعدد المصادر الإخبارية التي تحدثت عن وجود أكثر من طرف يقف خلف هذا الهجوم، فإن الذي لا يقبل الشك، أنه أيّن كان الطرف الذي يقف خلف هذه الهجمات سواءً كان الحوثيون أم حزب الله العراقي، فإن الغاية والهدف النهائي هو إيراني، فإيران أرادت إيصال رسائل متعددة للمجتمع الدولي من خلال هذه الهجمات التي يمكن وصفها بأنها تجاوزت الحد المتوقع من التصعيد مع الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في المنطقة، فهي عبرت عن ذلك مرارًا على لسان الرئيس حسن روحاني وقادة الحرس الثوري الإيراني بأن منع إيران من تصدير نفطها عبر مضيق هرمز سيقابله منع إيراني أيضًا.
نجحت إيران خلال الفترة الماضية بإقحام كل وكلائها ضمن دائرة صراعها مع الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في المنطقة، بدأتها بالحوثي واليوم تقحم المليشيات العراقية المرتبطة بها في دائرة هذا الصراع
وتكفي الإشارة إلى أن 17 هدفًا من أصل 19 كانت ضمن بنك الأهداف الإيرانية ضمن مجال شركة أرامكو تم تدميرها بالكامل، وتحتاج الشركة لأسابيع لإعادة تأهيلها، ما قد يضع الاقتصاد العالمي بوجه عام والسعودي بوجه خاص على المحك، وهو ما عبرت عنه صحيفة كيهان الناطقة باسم المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي في افتتاحيتها يوم 16 من سبتمبر بقولها “الهجمات الأخيرة وجهت ضربة قاصمة للعمود الفقري السعودي”.
إذ نجحت إيران خلال الفترة الماضية بإقحام كل وكلائها ضمن دائرة صراعها مع الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في المنطقة، بدأتها بالحوثي واليوم تقحم المليشيات العراقية المرتبطة بها في دائرة هذا الصراع، إذ تشير العديد من المصادر الإخبارية بأن مليشيا أنصار الولاية التابعة لحزب الله العراقي من يقف خلف إطلاق عشرات الصواريخ المجنحة من جنوب العراق باتجاه منشآت النفط السعودية، أضف لذلك أن إيران اليوم أخذت تعبر عن لهجة غير معتادة بالتصعيد، وتحديدًا مع قرب انعقاد اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك هذا الأسبوع، التي تترافق مع العديد من الأخبار التي تحدثت عن إمكانية لقاء الرئيس ترامب بالرئيس روحاني على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة.
إذ قال قائد القوة الجوية للحرس الثوري الإيراني الجنرال حاجي زاده عبر صحيفة جام جم الإيرانية في يوم 16 من سبتمبر 2019، إن الولايات المتحدة الأمريكية إذا أقدمت على الرد، فإن إيران حددت مجموعة من الأهداف التي سيتم ضربها، ومن بين هذه الأهداف قاعدة العديد في قطر وقاعدة الظفرة في الإمارات والأسطول الأمريكي في بحر عمان، وهو ما يعني تصعيد الأزمة من إيران، من أجل الجلوس على طاولة المفاوضات دون الاضطرار لتقديم تنازلات تذكر للجانب الأمريكي.
لماذا السعودية؟
مثلت سياسة المجابهة التي اعتمدتها السعودية حيال إيران، أبرز الأسباب الإستراتيجية التي دفعت إيران للتصعيد معها، فالسعودية تواجه إيران اليوم عبر ثلاث جبهات رئيسية: اقتصاديًا في العراق وعسكريًا في اليمن وسياسيًا في البحرين، ومن خلال هذه الجبهات سعت السعودية إلى تقويض النفوذ الإيراني في مناطق الشرق الأوسط الأخرى.
إيران تدرك جيدًا القيمة الإستراتيجية العليا التي تمثلها السعودية للاقتصاد والأمن الدوليين، ولذلك اختارت التوجه مباشرة نحو العمق السعودي هذه المرة، لتكون التأثيرات مباشرة، وإرغام المجتمع الدولي على أخذ التهديدات الإيرانية على محمل الجد، أي السعي لخلق صدقية ردع إيراني في مواجهة القوى الإقليمية والدولية التي تقف على طرف المواجهة مع إيران.
الهجمات الأخيرة سيكون لها تداعيات كبيرة على الداخل السعودي، والحديث هنا عن الاقتصاد ومشروع نيوم أو رؤية 2030
فالسعودية اليوم وعلى الرغم من امتلاكها أدوات الرد المناسب وتوجيه ضربة مؤثرة وتأديبية لإيران ومنشآتها النفطية، يبدو أنها غير عازمة على الذهاب منفردة لمواجهة تريدها إيران، ليس لتفوق إيران، بل لارتباط هذه المواجهة بحسابات سياسية تتعلق بالداخلين السعودي والأمريكي، وهو ما يريده الديمقراطيون في الولايات المتحدة الأمريكية أيضًا، من أجل زيادة هزائم ترامب أمام الناخب الأمريكي.
من ثم يمكن القول إن الفكرة الرئيسية التي تضمنتها المواقف السعودية والأمريكية عقب هذه الهجمات، هي بحث كلا الطرفين عن إجماع دولي لتأديب إيران، على غرار الحملة العسكرية الأمريكية ضد أفغانستان في أعقاب هجمات سبتمبر 2001، ولعل دعوة السعودية لفريق تحقيق أممي للمشاركة بالتحقيقات بشأن حيثيات الحادث، هي دعوة لتدويل القضية، ومن المتوقع أنها ستأخذ أبعادًا دولية أكثر حدة مع قرب زيارة وفد أمريكي برئاسة وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو إلى الرياض في الأيام القليلة القادمة.
إن الهجمات الأخيرة سيكون لها تداعيات كبيرة على الداخل السعودي، والحديث هنا عن الاقتصاد ومشروع نيوم أو رؤية 2030، فضلًا عن فرض المزيد من الضغوط على الميزانية الحربية للسعودية، والحديث هنا عن إمدادات الدعم اللوجستي للعمليات العسكرية في اليمن، ومن ثم فإن التداعيات ستكون كبيرة، والمستقبل سيكون كفيلًا بالإجابة عن التساؤل الرئيسي الآتي: هل ستكون السعودية قادرة على تجاوز تداعيات هذه الهجمات أم لا؟
ماذا تريد واشنطن؟
لا تزال تداعيات الهجوم على منشآت نفط تابعة لشركة أرامكو تتوالى، في حين قالت صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية إن واشنطن أبلغت الرياض أن المعلومات الاستخباراتية تفيد بأن إيران كانت مصدر الهجوم، ونقلت الصحيفة عن مسؤولين أمريكيين قولهم إن الاستخبارات تشير إلى أن إيران كانت قاعدة ذلك الهجوم، وواشنطن أبلغت السعودية بهذه المعلومات، إذ يدرس الجانبان الرد على ذلك الهجوم، وكتب ترامب على تويتر “تذكروا عندما أسقطت إيران طائرة مسيرة قائلة إنها كانت في مجالها الجوي بينما لم تكن قط (الطائرة) في الحقيقة على مقربة منه، تمسكوا بشدة بتلك القصة رغم علمهم بأنها كذبة كبيرة، والآن يقولون إنه لا علاقة لهم بالهجوم على السعودية.. سنرى“.
يمكن القول إن الولايات المتحدة الأمريكية قد تبحث هذه المرة عن سبب لتأديب إيران، وقد نكون أمام مشهدين لا ثالث لهما: نموذج مناوشات حزب الله -” إسرائيل” الأخيرة، أم نموذج العراق 1998
كان وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو قد حمّل إيران المسؤولية عن الهجمات على أرامكو التي تسببت في تعطيل نصف إنتاج السعودية النفطي المقدر بعشرة ملايين برميل يوميًا، في حين أشار ترامب “هناك سبب يدفعنا إلى الاعتقاد بأننا نعرف المرتكب، ونحن على أهبة الاستعداد للرد على أساس عملية التحقق، لكننا ننتظر من المملكة أن تخبرنا من تعتقد أنه سبب هذا الهجوم، وبأي أشكال سنمضي قدمًا”.
وفي سياق متصل، قال وزير خارجية بريطانيا دومينيك راب إن الهجوم على منشآت النفط السعودية “خطير وشائن وانتهاك سافر للقانون الدولي”، لكنه أضاف أن ثمة حاجة للوقوف على جميع الحقائق بشأن المسؤول عن الهجوم قبل الرد عليه.
يمكن القول إن الولايات المتحدة الأمريكية قد تبحث هذه المرة عن سبب لتأديب إيران، وقد نكون أمام مشهدين لا ثالث لهما: نموذج مناوشات حزب الله – “إسرائيل” الأخيرة، أو نموذج العراق 1998، بحيث يخرج الجميع منتصرًا من هذه المواجهة المحدودة، لتصاعد تكلفة المواجهة العسكرية الشاملة في منطقة الشرق الأوسط في الفترة الحاليّة، وعدم تمكن جميع أطراف الصراع من تحمل تداعياتها السلبية.