يكبر أطفالنا في عالم افتراضي، مكتظ بملايين الأشخاص والمنصات والظواهر الرقمية، وبمختلف الأنواع والهويات والخلفيات التي لا حصر لها، مما خلق تحديًا جديدًا على الآباء والأمهات الذين يقلقون من تأثير هذا الفضاء على سلوكيات وتوجهات أطفالهم، مندفعين خلف فطرتهم في حماية طفلهم من جميع التجاوزات المحتملة في هذا الحيز، إلا أن عملية مراقبة أنشطة أبنائهم باتت أمرًا في غاية الصعوبة في هذا العالم الذي لا حدود له ولمخاطره.
فقد ذكر استطلاع لمركز بيو للأبحاث، أن 15% من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 12 و17 سنة ويمتلكون أجهزة ذكية، تلقوا صور عارية أو شبه عارية، ولا شك أن هذه الصور واحدة من عشرات المحتويات الأخرى التي لا يرغب الآباء لأولادهم برؤيتها أو التعرض لها أثناء تصفحهم شبكة الإنترنت، ويشمل ذلك التنمر الإلكتروني والتحرش وانتهاك الخصوصية.
ونظرًا لذلك، صممت الشركات التكنولوجية مجموعة من التطبيقات والبرامج التي تساعد الوالدين على متابعة تحركات أبنائهم الرقمية، وعلى الرغم من فائدتها في إبقاء الآباء والأمهات على إطلاع مستمر بتفاعلات الطفل وعاداته الافتراضية، إلا أنها في الوقت ذاته طرحت أسئلة جديدة عن حدود الأهل في المراقبة والمتابعة، سواء افتراضيًا أو واقعيًا، فمتى يجب أن يتوقف الوالدين عن المراقبة؟ ومتى يتحول هذا الفضول أو الغريزة الأبوية إلى تجسس مرضي وتدخل سلبي؟
هل يجب على الآباء التجسس على أطفالهم رقميًا؟
ذكرت دراسة، أجراها مركز بيو أيضًا العام الماضي، بأن 58% من أولياء الأمور (تتراوح أعمار أولادهم بين 13 و17 عامًا) ينظرون إلى رسائلهم أولادهم المراهقين، وسجلات مكالماتهم، بينما قال 60% منهم أنهم يراقبون المواقع والحسابات الإلكترونية التي يزورونها. وفي دراسة منفصلة لعام 2016، قال 16% بأنهم يتابعون تحركات أولادهم عبر تطبيقات مشاركة الموقع الجغرافي، كما يقول 55٪ إنهم يحدون من مقدار الوقت الذي يمكنهم الاتصال به عبر الإنترنت.
وبطبيعة الحال، أفادت هذه الأدوات التقنية الكثير من الأهالي الذين يحاولون حماية أطفالهم من السموم الرقمية التي تشمل المواد الإباحية والعنصرية والمضللة، وغيرها الكثير من المحتويات التي يمكن أن تأخذ بيد الطفل إلى عالم زوايا غير محببة ويؤثر على طريقة تفكيره وتصرفه بشكل لا يليق بسنه ولا بالمعايير التربوية والاجتماعية.
يمكن للأهالي إخبار أولادهم بأنهم إذا وفوا بمسؤوليتهم في الاعتناء بأنفسهم وبعيدين عن المشاكل والمحظورات، فلن يكون هناك داعي لمراقبتهم، ولكن إذا خالفوا هذا العهد والاتفاق، فمن الواجب التوضيح لهم بأنك ستفعل كل ما هو ضروري لحمايتهم، حتى وإن كان ذلك يعني تفحص هواتفهم
ولكنها في المقابل، قد تعود الأطفال على التخلي عن خصوصيتهم، كما قد تزعزع ثقتهم بأنفسهم وتعيق قدرتهم على الثقة بالآخرين أيضًا. في هذا الخصوص، يقول، مسؤول في المركز الوطني للتدريب على العدالة الجنائية لحماية الأطفال، جو لا رامي، بأن “وضع برامج التجسس على هواتف الأبناء ليس حلًا”، مشيرًا إلى إمكانياتها في هدم الثقة بين الطفل والوالدين.
في نفس السياق، يرى رامي بأنه ليس من العدل مراقبة الأطفال دون علمهم، ولذلك يصر على ضرورة شرح سبب مراقبته لتحركاته الرقمية ومتى ستتوقف عن ذلك، ومؤكدًا على أهمية الاستفادة من التقنيات الحديثة فقط لتقديم المساعدة لأطفالهم حين يحتاجونها، على اعتبار أنه في عمر معين، يحتاج الطفل إلى الانفصال عن والديه، والتمتع بخصوصية افتراضية وواقعية.
على سبيل المثال، يمكن للأهالي إخبار أولادهم بأنهم إذا وفوا بمسؤوليتهم في الاعتناء بأنفسهم والبقاء آمنين وبعيدين عن المشاكل والمحظورات، فلن يكون هناك داعي لمراقبتهم، ولكن إذا خالفوا هذا العهد والاتفاق، فمن الواجب التوضيح لهم بأنك ستفعل كل ما هو ضروري لحمايتهم، حتى وإن كان ذلك يعني تفحص هواتفهم وتفتيش غرفتهم والنظر في أدراجهم، وذلك حبًا لهم وخوفًا عليهم، فليس من حق الابن الاحتفاظ بأسرار عن الأهل ولا سيما تلك التي تهدد سلامته أو تعرض الأسرة للخطر.
كيف لا نضطر إلى مراقبة أبنائنا من الأساس؟
في هذا الخصوص، حاور “نون بوست”، إيناس خلف، مرشدة أهالي ومستشارة نوم الأطفال، التي أشارت في حديثها إلى مرحلة ما قبل المراقبة والحاجة إلى خوض هذه التجربة، مشيرةً إلى أهمية الحديث عن علاقة الطفل بالوالدين من البداية، لأن عملية المراقبة أو التجسس قد تحدث أحيانًا بسبب قلة الحوار والمشاركة بين الطرفين، ولذلك يتوجه الأهالي إلى التجسس كبديل عن التواصل.
وعلى هذا الأساس، توصي المرشدة خلف بضرورة وجود نقطة اتصال بينهما كنوع من الوقاية، ويعني ذلك أن يعرف الأهل كل تفاصيل وأحداث حياة الطفل اليومية، ولكي تأخذ هذه العلاقة شكلًا أكثر عمقًا، يُفضل أن يشارك الأهل تفاصيل يومهم وأفكارهم مع أطفالهم في المقابل، كمحاولة لتعزيز الروابط بينهم.
وتكمل خلف قائلةً: “كأم أو أب، حتى وإن لم يعجبني حديث الطفل، أحاول بقدر الإمكان تجنب انتقاده، وبالمقابل أحاول تشجيعه على مشاركتي بأمور أخرى وشكره على قراره في الحديث معي. فالفكرة أن يشاركني وليس ماذا يشاركني”. إلى جانب ذلك، تنوه إلى الفرق بين المراقبة والتجسس، إذ ترى خلف بأن هناك خيط رفيع بين الكلمتين، فالمراقبة -على حد قولها- يجب أن تكون دائمة ولا تنتهك خصوصيتهم أو تزعزع إيمانهم بأنفسهم أو بقدراتهم، وذلك محافظةً على استقلاليتهم وتحضيرًا لهم للعالم الخارجي وتحدياته ومخاطره.
الطريقة المثلى لمراقبته هي مصارحته بذلك بشكل مباشر والتعبير له عن الأسباب والدوافع مع التوضيح بأن ذلك كله من أجل مصلحته وبدافع الحب والخوف، وليس تجسسًا أو انتهاكًا لمساحته الخاصة، وذلك لاعلامه بأن الأهل موجودين بجانبه ومطلعين على أحداث حياتهم بالشكل المطلوب لحمايتهم وتعديل أخطائهم المحتملة.
وفي أثناء حوارنا الخاص مع خلف، سألنا المرشدة عن السن المناسب لمراقبة الطفل، وقالت: “ينتهي سن الطفولة عند سن الـ 18، ولكن كمجتمع عربي شرقي، يشعر الأهل دومًا بحاجة إلى توجيه أولادهم نحو مصلحتهم الشخصية، ولذلك لا تبدأ المراقبة أو تنهي عند سن معين، ولكن لا شك أن شكل المراقبة يختلف عند سن الرشد”. كما تلفت النظر إلى وجوب اتباع أشكال ذكية من المراقبة، بحيث لا تكون عقابية أو تشكيكية أو مزعزعة لأسس الثقة بينهم.
في الجهة المقابلة، ترى خلف أن الطريقة المثلى لمراقبته هي مصارحته بذلك بشكل مباشر والتعبير له عن الأسباب والدوافع مع التوضيح بأن ذلك كله من أجل مصلحته وبدافع الحب والخوف، وليس تجسسًا أو انتهاكًا لمساحته الخاصة، وذلك لاعلامه بأن الأهل موجودين بجانبه ومطلعين على أحداث حياتهم بالشكل المطلوب لحمايتهم وتعديل أخطائهم المحتملة.
ليس مسموحًا أيضًا التفتيش في رسائله النصية أو التصنت عليه، على الرغم من أن ذلك يحتاج إلى مقاومة شديدة لغريزة الأمومة والأبوة في حماية الابن، إلا أنها تؤدي إلى نتائج سلبية، لأن شعوره بانتهاك الخصوصية سيدفعه إلى الكذب
كما تذكر خلف أن عواقب المبالغة في المراقبة، وتقول: “لا ينبغي أن تأخذ المراقبة شكل التحقيق بين الشرطة والمتهم، لأن غياب المراقبة يدفع الأبناء إلى استغلال حريتهم ومساحتهم الشخصية بشكل سلبي ومنافٍ للأخلاق، وخاصةً في جيل المراهقة”، مؤكدةً على ضرورة عدم انتهاك الخصوصية، إذ تضرب خلف مثالًا على ذلك، تقول: “ليس مسموحًا أن يدخل الأهل إلى غرفة ابنهم دون طرق الباب أو الاستئذان، تحت أي مسمى كان”.
وتضيف بأنه ليس مسموحًا أيضًا التفتيش في رسائله النصية أو التنصت عليه، على الرغم من أن ذلك يحتاج إلى مقاومة شديدة لغريزة الأمومة والأبوة في حماية الابن، إلا أنها تؤدي إلى نتائج سلبية، لأن شعوره بانتهاك الخصوصية سيدفعه إلى الكذب، وذلك مع اختلاف نظرته للعلاقة التي تجمعه مع والديه، واعتقاده بأنه لا صداقة بينهما، ولذلك تنصح خلف بالمراقبة الأساسية والإلزامية التي تشمل مراقبة علاقاته الاجتماعية وأدائه المدرسي.