يقترب الموسم السياحي الصيفي في تركيا من نهايته بعد أن حقق أرقامًا قياسية على صعيد الزوار مقارنة بالسنوات الماضية، إذ زار تركيا في النصف الأول من العام الحاليّ وحده ما يقرب من 25 مليون شخص.
شكلت مدن ساحل البحر الأبيض المتوسط الوجهة الصيفية الأكثر جذبًا للسياح الأتراك والأجانب، وعلى رأس هذه المدن تربعت مدينة أنطاليا التي يمتزج فيها جمال ساحل البحر الأبيض المتوسط بجبالها وغاباتها الساحرة بالإضافة إلى قراها الساحلية التي يشعر السائح فيها باختلاف معمارها وأنماط حياتها عن بقية قرى الأناضول الأخرى، فهي أقرب إلى القرى الإيطالية أو اليونانية أو حتى القرى العربية المقامة على ساحل البحر الأبيض المتوسط.
يلازمك هذا الشعور على طول تجوالك في المدن والقرى الساحلية وصولًا لمدينة فتحية، إذ تكثر الإعلانات الترويجية التي تدعوك لزيارة قرية الأشباح التي تكتشف لاحقًا أنها كانت من أهم القرى والمراكز التجارية على ساحل المتوسط.
في البدء كانت المبادلة
لم تقتصر آثار عشر سنوات من الحرب على شكل التنظيم السياسي في بقايا الدولة العثمانية، بل امتدت تأثيراتها لتصل إلى أعماق المجتمع العثماني الذي أصيبت مكوناته بشروخ أصبح من المتعذر إصلاحها، الأمر الذي جعلها على سلم أولويات مؤتمر لوزان 1922 الذي بحث الأوضاع السياسية في هضبة الأناضول بعد انتصار الحركة الوطنية التركية، حيث تم التوقيع على معاهدة لوزان التي حددت شكل تركيا الحاليّ.
جاءت اتفاقية المبادلة كاتفاقية ملحقة بمعاهدة لوزان، نظمت بموجبها عملية ضخمة للتبادل السكاني بين الجمهورية التركية الناشئة والدولة اليونانية، فبموجب هذه الاتفاقية تم ترحيل ما يقرب من مليون ونصف يوناني من الأناضول إلى اليونان فيما تم ترحيل ما يقرب من نصف مليون تركي من اليونان إلى الجمهورية التركية.
ميناء مدينة أنطاليا، مجموعة من اليونانيين في أثناء انتظارهم القوارب لتقلهم إلى الطرف الآخر
واجه موقعو الاتفاقية إشكالية التعريف من التركي ومن اليوناني، فالسنوات الطويلة التي عاشتها الأقوام في الأناضول كانت كافية لمحو أي تمييز عرقي، ولحل هذه الإشكالية فقد تم اعتماد الدين كوسيلة للتفريق، فكل مسلم تم التعامل معه كتركي، فيما تم التعامل مع كل مسيحي كيوناني – باستثناء الأرمن الذين تميزوا عن اليونانيين -.
لم تكن آثار الاتفاقية سهلة كسهولة التوقيع عليها، فقد اضطر مئات الآلاف من السكان لترك منازلهم ومزارعهم وبيئاتهم التي اعتادوها والنزوح إلى بيئات جديدة واجهوا فيها الكثير من المصاعب والمتاعب.
ولتجاوز إشكالية الإسكان قامت الحكومة التركية بإسكان المهاجرين الأتراك في مساكن اليونانيين الذين رحلوا وكذلك فعلت الحكومة اليونانية، الأمر الذي أدى إلى تغيرات عميقة في التركيبة السكانية على طرفي ساحل الأبيض المتوسط.
مجموعة من السكان الأتراك المهاجرين الذين تم إسكانهم في أحد المساجد
قرية كاياكوي وما يتركه أهل المبادلة
رجوعًا إلى ولاية موغلا ومدينة فتحية التي يصادف السائح العديد من اللافتات التي تدعوه إلى زيارة قرية الاشباح، فهل حقًا هي كذلك؟
تقع قرية كاياكوي أو ليبسوس على بعد 8 كيلومترات جنوب مدينة فتحية في ولاية موغلا على ساحل البحر الأبيض المتوسط، يعود تاريخ القرية إلى العصور اليونانية الأولى، حيث استوطن سكانها في جزيرة تعرف باسم الجيميلار “Gemiler“، لكن قربها من الساحل جعلها عرضة لاستهداف القراصنة وغزواتهم، الأمر الذي دفع سكانها في ذلك الوقت إلى النزوح تجاه الموقع الذي تحتله القرية حاليًّا.
شهدت القرية خلال عصر الدولة العثمانية ازدهارًا اقتصاديًا بحكم موقعها الذي سمح لها أن تكون مركزًا تجاريًا يربط بين الجزر اليونانية والأناضول، حيث عمل أهالي القرية بالتجارة وزراعة الزيتون.
صورة تظهر ما تبقى من قرية كاياكوي
وبحلول القرن العشرين احتوت القرية على أكثر من 500 عائلة، وآلاف المنازل، ومدرستين وكنيستين مركزيتين بالإضافة إلى عشرات المحارب المنتشرة حول القرية، وتشكلت القرية من اليونانيين المسيحيين بالدرجة الأساسية إلى جوار عدد من الأقليات الدينية الأخرى وبعض المسلمين.
ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى بدأت الأوضاع الأمنية بالتدهور بين الطوائف والملل في عموم الأناضول، وجاء غزو اليونان لأراضي الدولة العثمانية وما رافقها من تجاوزات واعتداءات بحق السكان المسلمين في عموم الأناضول ليزيد الأمور سوءًا، فقد عصفت الحرب بسنين التعاون والتعايش بين هذه الأقليات.
ومع توقيع اتفاقية المبادلة بين الجمهورية التركية ودولة اليونان، تم إخلاء قرية ليبسوس من سكانها اليونانيين الذين تم ترحيلهم إلى الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط، وجريًا على إجراءات الحكومة التركية لإسكان السكان الأتراك القادمين من اليونان في القرى التي خرج منها اليونانيون، فقد تم جلب آلاف الأتراك القادمين من تراقيا الغربية لإسكانهم في القرية، لكن هؤلاء الأتراك لم يستطيعوا التأقلم مع المنطقة وممارسة الزراعة على أراضيها الوعرة، فقرر هؤلاء ترك هذه البيوت والتوجه إلى مناطق أخرى أكثر انبساطًا وملاءمة لأنشطتهم ومعاشهم، الأمر الذي أدى إلى أن تكون منازل ومنشآت القرية فارغة بلا سكان.
وبحلول عام 1957 تعرضت ولاية موغلا لزلزال أدى إلى تضرر جزء كبير من بيوت القرية ومرافقها، وبحلول عام 1987 قامت الحكومة التركية وفي إطار حملتها لتشجيع السياحة في المنطقة بافتتاح متحف خاص بالقرية ضم ما تبقى من مقتنيات وأدوات تعكس طبيعة الحياة التي عاشها سكان هذه المنطقة.
صورة تظهر ما تبقى من كنيسة كاياكوي
ختامًا لا يختلف حال قرية كاياكوي عن مئات بل آلاف القرى المنتشرة على أراضي الأناضول وتراقيا الغربية والجزر اليونانية وغيرها من المناطق التي تعرض سكانها للتهجير قسرًا بعد أن أعادت الحرب تعريف علاقتهم بمحل إقامتهم.
نال ساحل الأبيض المتوسط التركي الجزء الأكبر من التغير وذلك يرجع إلى أن الذين هجروا من تركيا فاق عدد من استقبلتهم الجمهورية الناشئة، كما أن المناطق الساحلية تاريخيًا كانت محط استيطان الفئات غير المسلمة التي أخرجتها اتفاقية المبادلة من هذه المناطق.
اليوم ومع اقتراب الذكرى المئوية لاتفاقية المبادلة، تحولت هذه القرى والمدن إلى معالم سياحية تستقطب آلاف الزوار من مختلف الجنسيات والأعراق، لعل جمالها وسحرها يحجب الوجه المؤلم لحكايات آلاف السكان الذين أضحوا بين ليلة وضحاها مهجرين على طرفي البحر الذي يأبى التخلي عن دوره التقليدي في سوق الناس إلى عوالم مجهولة، يدفعهم هول ما يعيشونه إلى استكشافها وخوضها لعلهم يجدون في الضفة الأخرى قليلًا من وطن.