جولة بوتين للسعودية والإمارات.. الاقتصاد ليس السبب الوحيد

butin

في زيارة هي الأولى له منذ 12 عامًا توجه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى العاصمة السعودية الرياض، اليوم الإثنين، في إطار جولة تشمل بجانب المملكة، دولة الإمارات العربية المتحدة التي من المقرر أن يزورها غدًا الثلاثاء.

الجولة تأتي بعد أربع سنوات على تدخل موسكو في سوريا التي حوّلتها إلى لاعب لا يمكن تجاوزه في حل قضايا المنطقة، كذلك في وقت تعاني فيه منطقة الشرق الأوسط من شروخات على مستويات عدة، لعل أبرزها التصعيد مع إيران وتفاقم الأوضاع في اليمن.

الزيارة وإن كان بعدها الأول اقتصاديًا بامتياز كما يتجلى في جدول الرئيس الروسي، الذي يشمل توقيع العديد من الاتفاقات الاقتصادية بين البلدان الثلاث، إلا أن هناك أبعادًا أخرى لا تقل أهمية عن الجانب الاقتصادي، خاصة أنها تأتي تزامنًا مع معاناة الجانب السعودي من حالة إحباط شديدة من الحليف الأمريكي الذي يواصل استنزاف أموال الرياض والخليج، مقابل أمن لم ينجح في توفيره مع استمرار الهجمات التي تستهدف المملكة.

توقيع 30 اتفاقية

وفق ما أعلنته موسكو فإن الزيارة ستشهد توقيع 30 اتفاقية بين البلدين، منها 10 اتفاقات استثمارية واقتصادية، في محاولة لإنعاش خزينة الاستثمارات بين البلدين التي لا تزال وفق كثير من المتابعين، متواضعة، رغم تأسيس صندوق مشترك بين صندوق الاستثمارات الروسية المباشرة والصناديق السيادية السعودية بحجم 10 مليارات دولار.

يسعى الجانب الروسي إلى تعزيز الاستثمارات المنحصرة في مجال البناء والتشييد لتضم قطاعات النفط والغاز والمنتجات الحلال، وذلك على أمل فتح العديد من النوافذ الاستثمارية الجديدة في أعقاب العقوبات الغربية المفروضة على البلاد من الغرب على خلفية عدد من الملفات منها ضم شبه جزيرة القرم الأوكرانية عام 2014، والحرب في الشرق الأوكراني، بجانب التدخل في الانتخابات الأمريكية 2016.

ويعد النفط واحدًا من أكبر الملفات التي يلتقي عندها النهج البراغماتي لكلا البلدين، خاصة بعد التقدم النسبي الذي تحقق في السنوات الأخيرة بفضل التعاون بينهما في هذا الملف، ففي مواجهة التراجع الكبير في أسعار النفط نهاية 2014 و2015، قاد البلدان اللذان يضخان معًا أكثر من ربع الإنتاج العالمي من الذهب الأسود، مفاوضات طويلة بين أعضاء منظمة “أوبك” والمنتجين المستقلين من خارجها.

وقد أسفرت جهود البلدين عن الاتفاق التاريخي 2016 الخاص بخفض الإنتاج، ما ساعد على رفع الأسعار، وتم تمديد الاتفاق أكثر من مرة، ويبدو أن اعتماد كلا الجانبين المفرط على عوائد النفط في ميزانيتهما، تزامنًا مع انهيار الأسعار بفترة تاريخية بالغة الحساسية، دفع الجانبين إلى الالتقاء عند نقطة مشتركة رغم الخلاف السياسي بينهما في كثير من الملفات.

لا يتجاوز حجم التبادل التجاري بين البلدين المليار دولار، فيما تقع المملكة في المركز الـ68 بين شركاء روسيا التجاريين، بحصة لا تتجاوز 0.25% من تجارة روسيا الخارجية

وكان بوتين قد أعلن أن شركة “سيبور- هولدنغ” الروسية، تدرس إمكانية بناء مجمع بتروكيميائي في السعودية باستثمار يبلغ أكثر من مليار دولار، وذلك خلال حديث له لبعض وسائل الإعلام الروسية والسعودية عشية زيارته للرياض، استعرض فيه العلاقات بين البلدين وآفاق تطورها.

وأضاف الرئيس الروسي “لا يزال أمامنا الكثير للقيام به في المجال الاقتصادي، لكن وتيرة التعاون جيدة، ففي العام الماضي نما التبادل التجاري بنسبة 15%، أما في النصف الأول من العام الحاليّ فقد ارتفع النمو إلى 28%”، مشيرًا إلى أنه تم إنشاء منصة استثمارية مشتركة بـ10 مليارات دولار لتمويل مشاريع مشتركة، وتم وضع مليارين منها قيد الاستثمار.

ولا يتجاوز حجم التبادل التجاري بين البلدين المليار دولار، فيما تقع المملكة في المركز الـ68 بين شركاء روسيا التجاريين، بحصة لا تتجاوز 0.25% من تجارة روسيا الخارجية، مقارنة بـ70 مليار دولار حجم التبادل التجاري بين السعودية والولايات المتحدة، هذا بخلاف حجم تجارة الأسلحة.

ورغم توقيع ما يقرب من 14 اتفاقية اقتصادية في عدد من المجالات على هامش زيارة العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز، لموسكو في 2017، فإن النتائج التي تحققت لم تكن مرضية، على الأقل للجانب الروسي، وهو ما يسعى لتعويضه خلال الزيارة الأخيرة.

مساعٍ لتعزيز التعاون الاقتصادي بين موسكو والرياض

التعاون العسكري

تعي موسكو جيدًا حجم العلاقات العسكرية بين الرياض وواشنطن، ورغم ذلك لم تفقد الأمل في نيل قسط من كعكة المليارات التي تنفقها المملكة على الجانب التسليحي، وهو ما ألمح إليه الروس سريعًا بعد أيام من انهيار المظلة العسكرية لحماية الخليج مع الهجمات على منشأتين لأرامكو في السعودية منتصف الشهر الماضي.

بوتين وإلى جواره الرئيس الإيراني حسن روحاني، ومن قلب العاصمة التركية أنقرة، شدد على جاهزية بلاده لمساعدة الرياض وتقديم الخبرات الفنية والتقنية اللازمة لتأمين حدودها، موضحًا “سيكون كافيًا أن تتخذ القيادة السعودية قرارًا حكيمًا كما فعل قادة إيران بشراء منظومة إس 300، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان بشرائه منظومة إس 400 للدفاع الجوي من روسيا، حينها سيكون بإمكانهم حماية أي منشأة في السعودية”.

خبراء أشاروا إلى صعوبة إقدام الرياض على هذه الخطوة خشية الغضب الأمريكي، كما أنه من المستبعد – على الأقل في الوقت الراهن – أن تحل روسيا بديلاً للولايات المتحدة في الاستئثار بالنصيب الأكبر من صفقات التسليح السعودية، وعليه يتوقع أن تقتصر الصفقات الروسية على بعض المركبات العسكرية والأسلحة الخفيفة، لكن الجانب الروسي يبقى مستفيدًا، لأن مجرد الحديث عن تصدير منظومات الدفاع الجوي إلى السعودية يعدّ ترويجًا مجانيًا للأسلحة الروسية.

البراغماتية التي تنتهجها روسيا ربما تكون السبب وراء تجنب بوتين الولوج إلى مناطق فض الاشتباك مع السعودية، خاصة أن تباين وجهات النظر بينهما حيال العديد من الملفات ربما تكون أكثر من النقاط المشتركة

الإستراتيجية الروسية في هذا الملف تذهب إلى ما هو أبعد من عائدات التسليح فقط، ففي يونيو/حزيران الماضي، وتزامنًا مع تصاعد حرب الناقلات التي حولت منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي إلى برميل بارود قابل للاشتعال في أي وقت، عرض المبعوث الخاص للرئيس الروسي، نائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف، مشروع رؤية طورته موسكو على مدى عقدين من أجل ضمان الأمن في الخليج.

بوغدانوف أشار إلى أن هدف بلاده من طرح الرؤية هو إنضاج الحوار بشأن مبادرة تنصّ على خمسة بنود، مقترحًا البدء في المشاورات الثنائية ومتعددة الأطراف وفي إطار مجلس الأمن الدولي أو جامعة الدول العربية أو منظمة المؤتمر الإسلامي ومجلس التعاون الخليجي، على أن تكون نتيجة هذه المشاورات تشكيل مجموعة عمل تقوم بتحضير مؤتمر دولي للأمن والتعاون في منطقة الخليج.

مناطق فض الاشتباك السياسي

البراغماتية التي تنتهجها روسيا ربما تكون السبب وراء تجنب بوتين الولوج إلى مناطق فض الاشتباك مع السعودية، خاصة أن تباين وجهات النظر بينهما حيال العديد من الملفات ربما تكون أكثر من النقاط المشتركة، لا سيما فيما يتعلق بالملفين، اليمني والسوري، هذا بخلاف الملف الحقوقي المشين الذي جعل المملكة صيدًا سهلاً لسهام النقد الدولية.

يمنيًا.. تسعى موسكو لعدم توجيه أي انتقادات مباشرة لانتهاكات قوات التحالف بقيادة السعودية في اليمن، ورغم التناغم السياسي النسبي بينها وبين طهران، فإنها ارتأت أن تكون بمنأى عن هذه المساحة الضيقة التي ربما تؤثر على مصالحها في المنطقة، حتى إن أثر ذلك على سمعتها الدولية.

سوريًا.. تغض روسيا الطرف عن موقف المملكة في سوريا، وذلك بعد خروج السعودية عمليًا من هذا الملف، تاركة الأمر بيد حليفها الأمريكي، وربما تشكل الزيارة الحاليّة فرصة للوصول إلى أرضية مشتركة بشأن هذا الملف فيما يتعلق بموضوع التسوية السياسية وإعادة الإعمار وعودة اللاجئين.

تأتي الزيارة الحاليّة ليعزز بها الرئيس الروسي حلمه في زعامة المنطقة بعد سنوات طويلة من الإقصاء

روسيا بعدما أعلنت الانتهاء من الجزء الأكبر من عملياتها العسكرية، والتحول تدريجيًا إلى الحل السياسي، فإنها اليوم باتت في أمس الحاجة، لدعم دول الخليج من أجل ضخ عشرات مليارات الدولارات في مشاريع إعادة الإعمار المكلفة التي لا تستطيع تحمّلها مع حلفاء النظام السوري.

إيرانيًا.. يشكل الموقف الروسي من طهران أحد أبرز العقبات أمام تعزيز فرص التعاون بين موسكو والرياض، ومع ذلك نجح الجانب الروسي في تمييع هذا الملف عبر بروز مناطق عدة للتوتر مع الحليف الإيراني في سوريا التي كان لها أثر إيجابي على مستقبل العلاقات الخليجية الروسية.

الدور الإقليمي الذي لعبه الروس خلال السنوات الأخيرة لا سيما في الملف السوري دفعه لأن يكون قبلة للعديد من القوى الإقليمية الساعية لتوسعة رقعة نفوذها في المنطقة، وكما كانت إيران صاحبة النصيب الأكبر من هذا التحالف فإن السعودية تسعى كذلك لإحداث حالة من التوازن مع موسكو خاصة في ظل توتير علاقاتها بين الحين والآخر مع إدارة الرئيس الأمريكي.

الرئيس الروسي وولي العهد السعودي خلال قمة دول العشرين

بوتين.. حلم الزعامة

في مقال له تحت عنوانزعيم الشرق الأوسط المفدى… فلاديمير بوتين!” استعرض الخبير الاقتصادي الدولي إبراهيم نوار، مساعي الرئيس الروسي لزعامة المنطقة، لافتًا إلى “أن منطقة الشرق الأوسط تبحث عن زعيم، وقد وجدته. ليس مهمًا أن يكون عربيًا أو غير عربي، من داخل المنطقة أو من خارجها، المهم أن يكون الزعيم قادرًا على توحيد الكلمة، وأن يجد فيه العالم من يتحدث إليه في شأن الشرق الأوسط، إذا كان هناك شأن”.

وأضاف نوار أن المنطقة وجدت في بوتين ضالتها المنشودة، فخلال سنوات قليلة منذ عام 2015 حتى الآن استطاع أن يجمع بين يديه أهم أوراق اللعبة السياسية في الشرق الأوسط. تمكن أولاً من إزاحة الولايات المتحدة من قيادة المنطقة، وأقنع ترامب بسحب قواته من سوريا، بادعاء أنه انتصر في الحرب على الإرهاب، ومن ثم فلا مبرر للبقاء، كما أقنع الأسد بأن بقاءه مرهون ببقاء الروس عسكريًا في سوريا، وتفاهم مع الإيرانيين في هذا الخصوص، ووجد أرضية واسعة لبناء تحالف قوي مع إيران يمتد من الخليج إلى شرق البحر المتوسط، ووجد طريقًا إلى السعودية من قناتي السلاح والبترول، ووجد طريقًا إلى الضفة من قناة أبومازن، وإلى “إسرائيل” من قناة مليوني مهاجر من أصل روسي.

وعليه تأتي الزيارة الحاليّة ليعزز بها الرئيس الروسي حلمه في زعامة المنطقة بعد سنوات طويلة من الإقصاء، ورغم العقبات التي تواجهه لا سيما على المستوى الداخلي الذي يعاني من جراح غائرة في مناطق عدة، فإن هناك إرادة واضحة في سحب البساط تدريجيًا من تحت أقدام الأمريكان، يساعده في ذلك هرولة الخليجيين للبحث عن البديل المحتمل والجاهز للحليف الأمريكي.