يغيب مؤقتًا حديث القوة والحشود العسكرية عن واجهة المشهد في منطقة الخليج، وتحضر المبادرة الدبلوماسية بدخول رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان على خط التوتر السعودي الإيراني من باب تهدئة واضحة لإنهاء التوتر هناك أو التخفيف منه على أقل تقدير.
في هذا الإطار، يقود عمران خان وساطة من الوزن الثقيل بين إيران والسعودية، ويحذر من نتائج اندلاع أي حرب جديدة في المنطقة، أملاً في استضافة حوار بين الجانبين في إسلام إباد، فهل تنعقد المفاوضات بين الخصمين في العاصمة الباكستانية البعيدة جغرافيًا؟ وهل يكون عمران خان وسيط السلام في زمن ندرت فيه الوساطات التي تقبل بها الرياض؟ وهل يجيد بطل الكريكيت السابق اللعب على رمال متحركة في ملعب خليجي لطالما لعبت فيه سلطنة عُمان دور الوسيط المعتدل؟
على خط التوتر السعودي الإيراني
في ظل الحديث المتزايد أخيرًا عن وساطات دولية لجمع الرياض وطهران حول طاولة الحوار، تدخل باكستان بوساطة يُعوَّل عليها لنزع فتيل التوتر المتصاعد، في محاولة لبناء جدار من الثقة يؤسس لخطوط تفاهم بين البلدين، ويمهد لأرضية مناسبة لتخفيض حدة التوتر وحل الخلاف.
على السجاد الإيراني الفاخر، خطا عمران خان، يوم السبت، خطوات يباركها الرئيس الإيراني حسن روحاني والمرشد الأعلى على خامنئي، ويتابعها الآخرون من واشنطن إلى لندن، بينما لا تمانع الرياض، وترغب في أن يخطو بهما رئيس الوزراء الباكستاني بعيدًا عن شفا حرب لا يتحمس لها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
الترحيب الإيراني بمبادرة عمران خان لجهة الحوار جاء منه إعلان من طهران بعدم الرغبة في الحرب في الوقت نفسه إن رغبا بحدوثها طرف ما
“حرب إن اندلعت ستحرق الرمل بنفطه”، هكذا يحذر المتخوفون وبينهم عمران خان الذي قال: “ندرك جيدًا أنها قضية معقدة، لكننا نشعر أنه يمكن حل هذا الخلاف من خلال الحوار”، مشدّدًّا على أنه “ما يجب ألا يحدث أبدًا هو الحرب بين السعودية وإيران، لأن هذا لن يؤثرعلى المنطقة وحسب بل سيؤثر على كل الدول الشقيقة، وسيزيد الفقر في العالم، ويرفع أسعار النفط، وسيتحتم على الدول إنفاق المال على النفط الباهظ بدل الإنفاق على مواطنيها”.
ومن العاصمة الإيرانية طهران، تعهد خان بذل أقصى جهد ممكن لتسهيل إجراء محادثات بين الخصمين الإقليميين إيران والسعودية، مؤكدًا أن إيران والسعودية قدمتا الدعم لمبادرة الوساطة الباكستانية بين الرياض وطهران.
وفي مؤتمر صحفي مشترك مع روحاني، قال خان إن الهدف من الزيارة هو تسهيل العلاقات بين السعودية وإيران في خطوة أولى نحو حل الخلافات بينهما، وإن باكستان لا تريد أن ترى أي صراع جديد في المنطقة، وأعرب عن أمله في أن تستضيف بلاده مفاوضات سعودية-إيرانية لنزع فتيل التوتر بينهما.
لم يمانع روحاني، فرحَّب بضيفه الباكستاني وبمقترحه لجمع الإيرانيين والسعوديين على طاولة واحدة في إسلام أباد، واشترط وضع الخلافات كلها على طاولة الحوار المأمول، قديمها وحديثها، البعيدة والقريبة منها، من اليمن إلى حرب المضائق وناقلات النفط.
الترحيب الإيراني بمبادرة عمران خان لجهة الحوار تضمن إعلان طهران عدم الرغبة في الحرب إن رغب بحدوثها في نفس الوقت طرف ما، لكن روحاني قال أيضًَا إنه “يكون من الخطأ المطلق أن تعتقد دولة ما أنه يمكن أن تخلق حالة من عدم الاستقرار في المنطقة ولا تتلقى أي رد”.
مبادرة شخصية أم وساطة؟
فرضت الظروف نفسها أو صُنعت، وطغت أجواء هدوء إيجابي على مشهد التوتر الإيراني السعودي، في حين تسعى باكستان من الاستفادة من اللحظة، فتتفاعل معها طهران، لكن ترمي الكرة في ملعب الرياض، وتقول إن النوايا لا تكفي.
كما دفعت مراقبة التطورات إسلام أباد – كما بغداد – للسعي إلى لعب دور في حل ترسم طهران أُطرها له، وتتحدث الأخيرة عن تحالف أمل للسلام في مضيق هرمز، وحوار إقليمي يُوضع فيه كل شيء على الطاولة.
وبعد أن رصد عمران خان مواقف من إيران اعتبرها مشجعة، ستكون الرياض، هذا الثلاثاء، وجهته لإكمال ما وصفها بأنها مبادرة وليست وساطة، بمعنى أنها ليست بطلب من طرف محدد، وهو ما سارعت الرياض إلى تأكيده، نافية أي تصريحات متعلقة بطلب السعوديين التوسط مع طهران.
لعل رئيس الوزراء الباكستاني يحمل معه انطباعًا إيجابيًا ورسالة من الإيرانيين إلى السعوديين، يُؤمل منها أن تسعى في نزع فتيل التوتر وسط انخفاض في معدل التفاؤل
هنا تجدر الإشارة إلى تصريحات إيرانية نقلتها وكالة “مهر“، وذكرت فيها قبل قبل يوم واحد من زيارة خان إلى طهران، أن الوساطة التي سيبدأها رئيس الوزراء الباكستاني كانت بطلب سعودي لخفض حدة التوتر بين طهران والرياض.
هذه الرواية عاد المتحدث باسم الحكومة الإيرانية علي ربيعي ليؤكدها بقوله إن عمران خان نقل رغبة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان للحوار مع طهران، وذلك في وقت كانت طهران قد تحدث عن مثل هذه الرسالة في السابق دون أن تحدد الشخصية التي حملتها.
كما أكد عمران خان الشهر الماضي، على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، أن ولي العهد السعودي والرئيس الأمريكي طلبا منه التحدث إلى الرئيس الإيراني والقيام بدور وساطة من أجل تهدئة التوتر القائم في منطقتي الخليج، لكن رواية ترامب آنذاك كانت بأن خان هو مَنْ قدم عرض الوساطة، وقال عنه “هو يرغب في ذلك”.
من جهتها، استبقت وزارة الخارجية الباكستانية الزيارة بالتخفيض من سقف التوقعات عبر القول إن مبادرة خان عبارة عن مبادرة شخصية لضمان السلام في المنطقة، فهل إسلام أباد قادرة وسط هذه خلاف المسميات على تقريب المسافات بين الرياض وطهران؟ وما هو الموقف السعودي والإيراني من الجهود الباكستانية؟
لعل رئيس الوزراء الباكستاني يحمل معه انطباعًا إيجابيًا ورسالة من الإيرانيين إلى السعوديين، يُؤمل منها أن تسعى في نزع فتيل التوتر وسط انخفاض في معدل التفاؤل، وفي شأن هذا، لا يخفي “خان” قلقه من الصعوبات التي تتمثل في انعدام ثقة لا يمكن بناؤها من جديد بسهولة.
ويعد لقاء عمران خان وروحاني الثالث من نوعه، حيث أجريا مباحثات مماثلة خلال زيارته السابقة لطهران قبل 6 أشهر، فضلًا عن أن الرجلين التقيا على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك في سبتمبر/أيلول الماضي، لكن جميع المبادرات الماضية لم تحرك ساكنًا في الخلافات القائمة بين الرياض وطهران.
شروط الحوار.. ملف اليمن مفتاح الحل
مع اختلاف توصيف زيارة عمران خان إلى طهران والرياض، يبقى هناك مسعى للتقريب بين البلدين من أجل بدء حوار بينهما، وهو ما يطرح الكثير من لتساؤلات: هل إسلام أباد قادرة على تقريب المسافات بين الرياض وطهران؟ وما هو الموقف السعودي والإيراني من الجهود الباكستانية؟
ظاهريًا، تبدو المبادرة الباكستانية واضحة الأهداف، لكن أسئلة تطرح نفسها بقوة بشأن 3 نقاط، وتتعلق باحتمالات نجاح الوساطة وبدء الحوار وما تريده الرياض وطهران من هذا الحوار وسر التحول الكبير في الموقف السعودي.
صحيفة “تربيون إكسبرس” الباكستانية ذكرت أن كلاً من الرياض وطهران أبدتا تجاوبًا مع فكرة التفاوض التي حملها مسؤولون باكستانيون رفيعو المستوى في زيارات سرية لكلا البلدين سبقت تحرك عمران خان، ما قد يشير إلى أن المهمة جُهزت عوامل نجاحها قبل بدئها.
كما يبدو من حديث روحاني، فإن اليمن ليس فقط نقطة لمبادرة حسن نية، إنما هو مفتاح الحل والأساس لحوار بين البلدين
وفي حضرة رئيس الوزراء الباكستاني بدا التجاوب الإيراني واضحًا، إذ قال روحاني إن بلاده ستكون عونًا لباكستان في إعادة الأمن والاستقرار إلى المنطقة، وأضاف أن الحوار هو السبيل الوحيد لإزالة الخلاف بين دول المنطقة، لكنه اشترط وقف الحرب على اليمن أولاً وتقديم المساعدات للشعب اليمني.
وكما يبدو من حديث روحاني، فإن اليمن ليس فقط نقطة لمبادرة حسن نية، إنما هو مفتاح الحل والأساس لحوار بين البلدين، فبرأي طهران يمثل وضع نهاية لحرب اليمن بداية جديدة، وهي الحرب التي لم يعد فيها خافيًا العجز السعودي عن الحسم، بل والتحول في مجريات الأحداث لجهة الهجمات الحوثية على مواقع مهمة وحيوية في العمق السعودي.
كما أن حرب اليمن كمفتاح ليست وجهة نظر إيرانية فحسب، فالخارجية الأمريكية أعلنت سابقًا عن توافق بين نائب وزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلمان ووزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو على ضرورة الحوار كسبيل للحفاظ على الحوار كسبيل للحفاظ على استقرار اليمن ووحدته.
مستقبل الوساطة
إلى جانب الملف اليمني، تتزاحم الملفات بين طهران والرياض، ووصل التوتر في منطقة الخليج المتصاعد منذ شهور ذروته عند هجمات أرامكو والهجوم على ناقلة نفط إيرانية في البحر الأحمر، يوم الجمعة، في إطار حرب الناقلات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط منذ استهدف ناقلتي النفط في بحر عمان في الـ13 من يونيو/حزيران الماضي.
كان لافتًا تريث طهران في التعاطي مع استهداف ناقلة نفطها قبالة سواحل جدة، لكن إشارتها إلى أن “إسرائيل” تقف وراء مشاكل المنطقة في هذه الفترة تحديدًا يحمل معانٍ واضحة، فقد اعتبر الدبلوماسي الإيراني السابق أمير موسوي أن استهداف الناقلة الإيرانية يأتي في إطار تصعيد إسرائيلي في المنطقة لمنع التقارب بين إيران والسعودية.
تقول صحيفة “نيويرك تايمز” إن الرياض بدأت تبحث عن حل للصراع بنفسها، ولا تريد – في حال استمرار الوضع على ما هو عليه الآن – تحمل ضرابات مشابهة لتلك التي كلَّفت المملكة خسائر تُقدَّر بمليارات الدولارات
فيما حذرت أوساط أخرى من أن واشنطن ترى مصلحتها في تواصل الخلاف بين الدولتين، لتستمر في استنزاف أموال المملكة، وهو ما يؤكده تزامن الحدث مع إماطة اللثام عن نشر 3 آلاف جندي أمريكي إضافي ومعدات عسكرية متطورة في السعودية تلبية لطلب الرياض في تحقيق أمنها.
أمَّا ما تريده السعودية وسر تحول موقفها من التعامل كيفية مع إيران فتقول صحيفة “نيويرك تايمز” إن الرياض بدأت تبحث عن حل للصراع بنفسها، ولا تريد – في حال استمرار الوضع على ما هو عليه الآن – تحمل ضرابات مشابهة لتلك التي كلَّفت المملكة خسائر تُقدَّر بمليارات الدولارات.
التفسير الأكثر منطقًا لما جاءت به الصحيفة الأمريكية يكمن في هجوم أرامكو الأخير، وما ظهر بعده من عدم رغبة واشنطن في الرد على في الرد عسكريًا على إيران، وبالنسبة لابن سلمان، لم ينفع الصديق وقت الضيق، فعندما كان نفط إيران يحترق لم يكن الأمريكيون في مستوى هذه المرة.
ومع وجود ترامب في البيت الأبيض تغيرت مفاهيم الصداقة، فالرجل كان باهتًا، ولم يكن قاسيًا على إيران، فهو لا يريد أن ينفق الأموال من أجل حروب الآخرين، فبهتت الرياض، وباتت تائهة بين الحرب والسلام، الحرب أكبر منها والسلام يخجلها.
خلافات طهران والرياض تكبر من سوريا ولبنان إلى اليمن، وباتت تفرق بينهما حروبًا صغيرة لكنها مخيفة، من حرب المنشآت النفطية إلى حرب المضائق والناقلات، لكن الأكيد أن التوتر بين طهران والرياض معقد والملفات شائكة، ومن ثم يصبح الصعب التنبؤ بمصير مهمة عمران خان.
رغم ذلك، ليس حلمًا بالنسبة لرئيس الوزراء الباكستاني أن يجتمع السعوديون والإيرانيون تحت سقف واحد، فزيارات ابن سلمان إلى إسلام أباد ومعه المال ورجال الأعمال، غيَّرت رأي عمران خان في السعودية وحربها في اليمن، فهو من قال إن مقتل الصحفي يالسعودي جما لخاشقجي “أمر مؤسف، لكننا بحاجة إلى المال”.
وبات الرجل أقرب إلى الرياض، لكن لم يبتعد عن طهران خطوة واحدة، فبين بلاده وإيران خط أنابيب يدفئ العلاقات قبل أن يكتمل، بطول 2700 كيلومتر، وتنقل الغاز الإيراني إلى باكستان في زمن غاب فيه الحسم بالحرب وتتصادم فيه المصالح وتتصالح.