تتجه العلاقة بين القضاة والمسؤولين الحاليّين في الجزائر إلى مزيد من التوتر، في ظل حرب البيانات والاتهامات المتبادلة بين الطرفين ودخول القضاة في إضراب عام مفتوح، قبل شهر ونصف من الانتخابات الرئاسية المرتقبة، ما زاد مخاوف العديد من الجزائريين من الزج بالعدالة في دهاليز الصراع السياسي على السلطة.
إضراب مفتوح
آخر تجليات هذا الصراع، دخول القضاة في إضراب مفتوح بداية من يوم أمس الأحد، في قرار مفاجئ من نقابة القضاة، احتجاجًا على حركة تحويلات مست قرابة ثلاثة آلاف قاضٍ قبل ثلاثة أيام، وصفتها وزارة العدل بأنها تندرج ضمن محاربة الفساد.
طالبت نقابة القضاة بتجميد هذه الحركة السنوية، حتى إعادة دراستها بصورة قانونية وموضوعية من المجلس الأعلى للقضاء بعد استرجاع صلاحياته وبمشاركة النقابة ذاتها، معتبرة أن 24 من أكتوبر/تشرين الأول الحاليّ “يوم أسود في تاريخ القضاء، يكرس هيمنة الجهاز التنفيذي على دواليب السلطة في الجزائر”.
وجاء في بيان أعقب اجتماعًا طارئًا للمكتب الوطني للنقابة الوحيدة المعتمدة في البلاد (تضم نحو 6000 قاضٍ)، التالي: “إن تعدي وزارة العدل على صلاحيات المجلس الأعلى للقضاء الذي يمثل هرم استقلالية السلطة القضائية (…) الذي صادق على الحركة السنوية للقضاة بهذا الحجم مست نحو 3000 قاضٍ في وقت قياسي (…) يكرس هيمنة الجهاز التنفيذي على دواليب السلطة في الجزائر”.
وأضافت النقابة “وزارة العدل تعدت على صلاحيات المجلس الأعلى للقضاء عندما انفردت بإعداد الحركة (تنقلات وترقيات) السنوية للقضاة في غرف مغلقة”، وأشار القضاة إلى أن قرارات وزارة العدل بهذا الصدد تمت المصادقة عليها من المجلس الأعلى للقضاء.
وهاجمت النقابة ما قام به وزير العدل بلقاسم زغماتي، وقالت: “التسويق الإعلامي للحركة على أنها تدخل في إطار حملة مكافحة الفساد، فيه الكثير من المغالطات على اعتبار أن المشكلة أعمق، لأن الجميع يعلم أن المشكل في عدم استقلالية القضاء من حيث النصوص والواقع، ومن غير المعقول معالجة هذا المشكل بمجزرة طالت القضاة وعائلاتهم بعملية تدوير عشوائية وانتقامية غير مدروسة”.
هذه التطورات المتتالية في محاكم الجزائر تؤشر إلى دخول الصراع بين القضاة والسلطة التنفيذية في البلاد نفق مسدود
إلى جانب تجميد هذه الحركة القضائية، طالبت نقابة القضاة بالشروع فورًا في مراجعة النصوص القانونية الحاليّة التي تكرس هيمنة السلطة التنفيذية على السلطة القضائية، ودعت وزير العدل إلى الكف عن تعامله المتعالي مع القضاة وممثليهم، وتذكيره بأن القضاة ليسوا قطيعًا يُساق بهذه المهانة”.
وقاطع القضاة جميع الجلسات، حيث تأجلت القضايا المطروحة أمام المحاكم والمجالس والمحكمة العليا ومجلس الدولة، بما فيها الموجودة في المداولة، باستثناء الملفات الاستعجالية، كما امتنع القضاة عن التوقيع على شهادات الجنسية وصحيفة السوابق العدلية ومختلف الأوامر الأخرى، إلى غاية تلبية مطالبهم الاجتماعية والمهنية، وأعلنت النقابة أن نسبة الاستجابة للمقاطعة في يومها الأول بلغت 96%.
يذكر أن وزير العدل الجزائري بلقاسم زغماتي كان قد أعلن، الخميس، تغييرات غير مسبوقة في تاريخ القضاء بالبلاد لا في حجمها ولا في طبيعتها، شملت قرابة 2998 قاضيًا، “لتصحيح مظاهر مشينة” في القطاع، حسب قوله، وأشار الوزير حينها إلى أن التغييرات “بنيت على معايير موضوعية محددة سلفًا شملت الجميع، وهي مستمدة من عملية تدقيق وفحص دقيقين لواقع تسيير الموارد البشرية في القطاع لعقود من الزمن، وما أفرزته من مظاهر مشينة بعضها يثير الاشمئزاز وحتى التذمر”، دون ذكر توضيحات.
استقالة الوزير
فضلًا عن الرجوع عن هذه الحركة القضائية المفاجئة، طالب نادي القضاة (قيد التأسيس) بتنحي وزير العدل الحاليّ حافظ الأختام بلقاسم زغماتي، من منصبه، بسبب ما يصفه القضاة بالضغوطات الكبيرة التي يتعرضون لها في الفترة الأخيرة.
وقال القاضي سعد الدين مرزوق، الناطق باسم نادي القضاة في تصريح إعلامي: “المصلحة العامة لجهاز العدالة واستقلالية السلطة القضائية تقتضي رحيل الوزير الحاليّ وعدم تدخل الأمين العام والمفتش العام للوزارة في حركة القضاة مستقبلًا”، وكشف مرزوق ضغوطات كبيرة تُواجه القضاة الجزائريين في الأسابيع الأخيرة، وذلك قبل نحو شهرين من الانتخابات الرئاسية المقررة يوم 12 من ديسمبر/كانون الأول المقبل، التي يرفضها عدد كبير من الجزائريين.
جدير بالذكر، أن الرئيس الجزائري المؤقت عبد القادر بن صالح، أنهى في 31 من يوليو/تموز الماضي، مهام وزير العدل سليمان براهمي، وعين زغماتي، النائب العام بمجلس قضاء العاصمة، خلفًا له، كما أُنهيت مهام الأمين العام لوزارة العدل سمير بورحيل، وعُين مكانه محمد زوقار، خلال العملية ذاتها.
وشغل زغماتي، منصب النائب العام لمجلس قضاء الجزائر العاصمة، في مايو/أيار الماضي، خلفًا لبن عيسى بن كثير، الذي أقاله الرئيس المؤقت بن صالح، وسبق أن شغل زغماتي، منصب النائب العام بمجلس قضاء الجزائر في 2007 حتى 2016، حيث أقاله الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، على خلفية إصداره في 2013، مذكرة توقيف دولية بحق وزير الطاقة الأسبق شكيب خليل، في قضايا فساد.
إضراب “غير قانوني”
اعتبرت وزارة العدل هذا الإضراب، غير قانوني، حيث قالت: “القانون الأساسي للقضاة يمنع على القاضي القيام بأي عمل فردي أو جماعي من شأنه أن يؤدي إلى وقف أو عرقلة سير العمل القضائي، كما “يمنع” على القاضي المشاركة في أي إضراب أو التحريض عليه، ويعتبر ذلك “إهمالاً لمنصب عمله”، وأوضحت الوزارة أن قرارات النقل والتحويل التي مست القضاة والنواب العامين جرت “بإجماع أعضاء المجلس الأعلى للقضاء” الذي يرأسه رئيس الجمهورية وينوب عنه وزير العدل وهو من يقرر “تعيين القضاة ونقلهم وسير سلمهم الوظيفي” كما نص الدستور.
إلى جانب ذلك، أكدت وزارة العدل أن القضاة الذين يعتبرون أنفسهم متضررين من الحركة السنوية التي أقرها المجلس الأعلى للقضاء لهم الحق في تقديم طعونهم التي ستعرض على نفس المجلس في دورته القادمة المقررة شهر نوفمبر/تشرين الثاني المقبل وفق ما أفاد بيان للوزارة، ودعت الوزارة القضاة “إلى التحلي بروح المسؤولية نظرًا للظرف الحساس الذي تمر به البلاد وتغليب الحكمة والتبصر”.
مصير الانتخابات المقبلة
هذه التطورات المتتالية في محاكم الجزائر تؤشر إلى دخول الصراع بين القضاة والسلطة التنفيذية في البلاد إلى نفق مسدود، حيث يصر الطرفان على تمرير تصورهما لعمل القضاء في الجزائر في هذه الفترة الحرجة التي يمر بها هذا البلد العربي.
وتشهد الجزائر منذ 22 من فبراير/شباط 2019، حراكًا شعبيًا بدأ برفض العهدة الخامسة وفرض ابتعاد عبد العزيز بوتفليقة عن الحكم، وصولاً إلى المطالبة بابتعاد رموز نظام بوتفليقة عن الحكم ومحاسبتهم جميعًا على ما اقترفوه في حق البلاد.
تتجه خريطة الطريق التي فرضتها السلطات الحاكمة في الجزائر على رأسهم الجيش وقائد صالح، إلى طريق مسدود في حال تواصل إضراب القضاة
تتسم العلاقة بين الطرفين في هذه الفترة بتوتر كبير، فعلى مدار الأشهر السبع الماضية، ظل القضاة يطالبون باستقلالية القضاء، وحتمية تجسيد مبدأ “الفصل بين السلطات”، كما ركزوا على أنهم “لن يتلقوا أوامر بعد اليوم من نظام أكل خيرات البلاد”.
وركز القضاة على أن مرحلة ما بعد حراك 22 فبراير، تنتصر لعنوان كبير “استقلال السلطة القضائية”، بعيدًا عن “عهد السلوكات البالية التي جعلت القاضي أداة في يد السلطة التنفيذية يأتمر بأمرها ويلبي رغباتها”، على حد تعبيرهم.
يشار إلى أن نادي القضاة – وهو نقابة ظهرت مع الحراك الشعبي، تضم نحو ألف قاضٍ معارضين للنظام – أعلن انخراطه في الحراك الشعبي منذ بدايته، للمطالبة باستقلالية القضاء وإرساء دولة الحق والقانون، كما أنه كان أول هيئة قضائية ترفض ترشح بوتفليقة لعهدة رئاسية خامسة.
وتخشى السلطات الحاكمة في الجزائر مقاطعة القضاة لانتخابات ديسمبر/كانون الأول المقبل، وهو ما يعني استحالة إجرائها، حيث ينص قانون الانتخابات في البلاد على تعيين قاضٍ على رأس كل لجان محلية وولائية لمراقبة الانتخابات.
قاد قضاة الجزائر الاحتجاجات ضد بوتفليقة
سبق أن أعلن نادي القضاة في سابقة تاريخية مقاطعته الإشراف على تنظيم الانتخابات الرئاسية التي كان من المقرر تنظيمها في الـ4 من شهر يوليو/تموز، لتؤجل فيها بعد لعدم وجود مرشحين، وشكل نادي القضاة النواة الأولى للاحتجاج في السلطة القضائية، ونظم أول حركة احتجاجية منتصف أبريل/نيسان لمقاطعة هذه الانتخابات.
تتجه خريطة الطريق التي فرضتها السلطات الحاكمة في الجزائر على رأسهم الجيش وقائد صالح، إلى طريق مسدود في حال تواصل إضراب القضاة وإصرار غالبية من الشعب على رفض الانتخابات التي يصر حكام البلاد الفعليين على إجرائها في موعدها.
هذه الصراعات، عجلت بالزج بالعدالة والقضاة في أتون الصراع السياسي على السلطة في الجزائر، فالقضاة يرون أنفسهم مناصرين لحراك الشعب المناهض لرموز نظام بوتفليقة، فيما ترى السلطة أن القضاة تركوا عملهم الأصلي وتدخلوا فيما لا يعنيهم، غير أن المتأمل لما يحصل يرى أن احتجاجات القضاء تتنزل في إطار الحركة الاحتجاجية التي تعرفها البلاد منذ أشهر.