ترجمة وتحرير نون بوست
بغض النظر عن مآلات الصراع بين حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وإسرائيل، هناك شيئان مؤكدان، الأول: إسرائيل ستكون قادرة على الادعاء أنها انتصرت في المعركة، والثاني: أن دولة الاحتلال ستكون قد تعرضت لهزيمة استراتيجية ساحقة.
على المستوى التكتيكي، فإن نظام القبة الحديدية لصد الصواريخ الفلسطينية قد أبقى الخسائر بين الإسرائيليين إلى حدها الأدنى، وخفض بشكل كبير في الأضرار المادية التي تتسبب فيها صواريخ المفاومة، ربما ستستطيع الحملة البرية أيضًا أن تعطي إسرائيل بعض النتائج، فقد اكتشفت إسرائيل عددًا من الأنفاق وغير ذلك.
لكن كل هذا ليس نصرًا استراتيجيًا .. الحرب، بحسب تعريف كلاسويتز، هي استمرار للسياسة لكن بطريقة أخرى، تُخاض الحروب لإعادة تنظيم السياسة بطريقة يستفيد منها المنتصر ويتضرر منها المهزوم، وبذلك التعريف نُدرك أن الإسرائيليين فقدوا البصيرة تمامًا حين يتحدثون عن انتصار.
في الواقع، دولة الاحتلال لديها تاريخ من ادعاء النصر في الوقت الذي تعاني فيه من الهزائم: حرب أكتوبر 1973 هي خير مثال على ذلك، زعمت إسرائيل أنها انتصرت لأن قواتها أنهت الحرب على الجانب الغربي من قناة السويس مع القوات المصرية المحاصرة جزئيًا وراءهم، لكن الحقيقة أن مصر حققت نصرًا استراتيجيًا، كان هدف أنور السادات الاستيلاء على بعض الأراضي من أجل تحسين وضعه التفاوضي، واستعادة شبه جزيرة سيناء المحتلة، وفي النهاية .. حصل السادات على ما يريد.
قد يعتقد الإسرائيليون أن حماس لن تحقق أهدافها الاستراتيجية، خاصة مع الخسائر الإسرائيلية القليلة نسبيًا، لكن الإسرائيليين مخطئون للغاية! فهذا أبدًا لم يكن هدف حماس.
الهدف الاستراتيجي لحماس كان تحطيم شعور إسرائيل بأنها دولة طبيعية، فليس من الممكن أن توجد إسرائيل كدولة ديمقراطية مزدهرة في ظل ظروف صراعها المستمر، خاصة مع عدم قدرتها على الحفاظ على الوهم الذي تقنع به مواطنيها من أن حياتهم في فلسطين المحتلة تشبه بشكل ما حياتهم لو اختاروا أن يعيشوا في لندن أو باريس أو نيويورك، لقد دمرت حماس هذا الوهم.
هذا النجاح لحماس قد ينتج عنه عدد من النتائج، مثلاً: اليأس تمامًا من حدوث عملية سلام بين الإسرائيليين، وهو ما سيقود إلى هجرات يهود إسرائيليين إلى بلاد أخرى، لكن الأرجح أن نصر حماس سيزرع خلافًا جذريًا داخل المجتمع الإسرائيلي، اعتمادًا على تقويض الرواية الإسرائيلية عن عدالة القضية الصهيونية، فقد كان التماسك بين يهود إسرائيل حول تلك السردية هو الدافع الأساسي لتقديم التضحيات ومواجهة الأخطار التي تنطوي عليها الحياة في إسرائيل، بما في ذلك الخدمة العسكرية الإلزامية طويلة الأمد للجميع رجالاً ونساء، وعلى الرغم من أن تلك الهزائم الصغيرة لن تقضي على دولة الاحتلال، إلا أنها تعبر عن فوز كبير لحماس.
كانت إسرائيل منذ فترة طويلة حريصة على تقويض توسع نفوذ منظمات المقاومة الإسلامية التي ترى في إسرائيل عدوًا بشكل متزايد، الانتفاضة الأولى بشكل ما، أدت إلى إضعاف المقاومة العلمانية ومنظمة التحرير الفلسطينية لصالح صعود هائل للمنظمات الإسلامية مثل حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين، التهديد الذي مثلته حماس والجهاد الإسلامي أجبر إسحاق رابين وشيمون بيريز أن يحاولا إنقاذ عملية السلام مع ياسر عرفات، وكانت محادثات أوسلو التي – في حال نجاحها – كانت لتقضي على مشاريع المقاومة.
لكن الانتفاضة الثانية التي أعقبت ذلك بين 2001 و2004، وأودت بحياة أكثر من 1000 إسرائيلي من خلال موجات من العمليات الفدائية في قلب المدن الكبرى في إسرائيل، هو ما هوى بثقة الإسرائيليين في دولتهم ودعم قرارهم بالانسحاب أحادي الجانب من غزة، لقد كان الإسرائيليون يأملون أن تلك الخطوة ستكون تخفيفًا للغضب الفلسطيني، لكن هذا لم يحدث.
مستوى الصواريخ الذي كانت تُطلق من غزة على جنوب دولة الاحتلال، منذ انسحاب الإسرائيليين من القطاع لم يتسبب في أي اضطرابات في بقية مناطق إسرائيل، ولم تحصل حماس في تلك المرحلة على أي انتصارات استراتيجية، بعبارة أخرى، لم تؤثر هجمات حماس على المدن الحدودية في حياة معظم الإسرائيليين ولم تمنعهم من الذهاب إلى أعمالهم اليومية في نوع من النسيان أو التجاهل للأوضاع السياسية والإنسانية في الجنوب.
لكن هذه الجولة الجديدة من القتال، تسببت في اضطراب هائل، لقد أدت الصواريخ التي تُطلق من غزة إلى إطلاق صافرات الإنذار في تل أبيب والقدس وحيفا وبئر السبع، أي في كل المدن الكبرى في إسرائيل، وفي المدن الصغيرة أيضًا.
هذه الصواريخ لم تقتل أي شخص بشكل مباشر حتى الآن، لكنها أرسلت جميع الإسرائيليين تقريبًا إلى الملاجئ عدة مرات في اليوم، وبددت الوهم القائل بأن “ما يحدث (هناك) لن يؤثر على الحياة (هنا)”.
إن ذلك وحده كفيل بأن تعلن حماس انتصارها، لكن الحركة تتطلع إلى المزيد من الفوائد الاستراتيجية، أولاً: إن العدد غير المتناسب في حالة القتلى الإسرائيليين والشهداء الفلسطينيين يظهر إسرائيل، على الأقل في عيون الغربيين، على أنها المعتدية، على الرغم من أن الرواية الإسرائيلية تقول إن حماس هي من أطلقت النار أولاً هذه المرة.
ثانيًا: وجود القبة الحديدية واستطاعتها اعتراض العديد من الصواريخ، لا يشكل قصة صحفية جيدة! فلن يتحدث أحد عن إسرائيل إذن، وهكذا فإن العالم أجمع مهتم بما يحدث في غزة، أصدقاء إسرائيل في الغرب يقولون إن إسرائيل تُعاقب على استطاعتها حماية مواطنيها، بينما لم تفعل حماس ذلك، لكن لا مجال في الحروب للحديث عن “الإنصاف”، الأمر يتعلق فقط بتحقيق الأهداف الاستراتيجية.
وعندما نتحدث عن الاستراتيجية، يمكننا القول بكل أريحية: “حماس فازت بالفعل”.
لقد حطمت حماس الوهم بأن إبقاء الضغط على الفلسطينيين لن يكون ذو تكلفة على الإسرائيليين، لقد تأكد الإسرائيليون الآن أن حماس لو لم تكن قادرة على قتلهم، فإنها قادرة على إجبارهم على الدفع باهظًا، تلك الحرب أيضًا رفعت من أسهم القضية الفلسطينية عالميًا، وأكدت على الحقيقة بأن الفلسطينيين هم المضطهدون وأن الإسرائيليين هم المعتدون، هذا يمكن أن يؤثر لاحقًا في الضغط على إسرائيل من قبل الساسة، وبالتأكيد من قبل التحركات الاجتماعية عبر العالم والتي تهدف إلى عزل إسرائيل سياسيًا والإضرار بها من خلال المقاطعة الاقتصادية.
هناك إسرائيليون يعتقدون أن الهزيمة ستأتي مبطنة في علبة من الفضة وسينتهي الأمر بتفاوض كما حدث في 1973، على الرغم من أن السادات حطم أسطورة أن إسرائيل قوة لا تُقهر بعد الدعاية الهائلة التي بدأت منذ حرب 1967، لكن الأمر مختلف هذه المرة، فأهداف حماس مختلفة كثيرًا عن أهداف السادات، أراد السادات أن يفتح قناة السويس وأن تعود شبه جزيرة سيناء إلى مصر، لكن حماس تريد إزالة إسرائيل، وهذا الهدف يعني أنه ليس هناك مجال للتفاوض.
في نهاية المطاف، ربح الفلسطينيون هذه الجولة، كما فعلوا في الجولة السابقة من القتال في 2008، وإذا كانت إسرائيل تستطيع تقليل خسائرها بتعزيز تواصلها مع الغرب وتعزيز أمنها، لكن ليس هناك ما يمكن لدولة الاحتلال فعله لتغيير سلوك المقاومة وحماس.
المصدر: فورين آفيرز