في مشهد خالف جميع التوقعات ظهر بشار الأسد في ١٧ تموز على شاشات التلفاز وهو يؤدي القسم الرئاسي لولاية ثالثة في قاعة تحت الأرض في القصر الجمهوري وسط إجراءات أمنية مشددة. ثم أتبع ذلك بمرسوم رئاسي قام بموجبه بتعيين السيدة نجاح العطار نائبة له، فيما يعني ضمنا إستبعاده لنائبه فاروق الشرع، الذي غاب عن مراسم أداء القسم، الأمر الذي يشير إلى أن النظام يعمل على إعادة ترتيب أوراقه الداخلية.
كيف إستطاع النظام السوري الصمود أكثر من ثلاثة سنوات في وجه الثورة الشعبية التي غطت أغلب الأراضي السورية، في حين لم يستطع رأس النظام التوجه للبرلمان الذي يقع على بعد خمسة كيلومترات من قصره لأداء القسم الرئاسي هناك كما نصت عليه جميع الدساتير في سوريا؟ وما دلالة التغييرات الأخيرة التي عمد لها النظام في سياق ترتيب أوراقه الداخلية؟
رغم خروج أغلب الأراضي السورية من تحت السيطرة المباشرة للنظام السوري، ورغم خسائره البشرية والمادية الفادحة، إلا أنه إستطاع عبر السنوات الثلاثة الماضية مراكمة العديد من عوامل القوة التي أحسن إستخدامها بنجاح مما أعطاه القدرة على الاستمرار حتى اليوم. وبالتالي فإن النظام السوري يسعى اليوم لإعادة ترتيب أوراقه داخليا للإفادة من إنجازاته بما يمكنه من مواجهة متطلبات المرحلة القادمة، والتي بدأت ملامحها تتضح، خاصة في ظل شعور النظام السوري وحليفه الإيراني بأن المرحلة الحرجة قد مضت وأصبحت خلفهم.
فمن مؤشرات مراكمة النظام لعومل القوة ازدياد قدراته باطراد على إستعادة زمام المبادرة على الصعيد الداخلي منذ بدايات العام الماضي من خلال التقدم العسكري وإستعادته للسيطرة والتحكم في المنطقة الوسطى، وكذلك من خلال سياسة الهدنات التي نفذها بنجاح نسبي في العديد من مدن الريف الدمشقي ثم في مدينة حمص، ومؤخرا في بعض مناطق حلب.
لا شك بأن الفضل الأول في ذلك يعود إلى الدعم التقني والعسكري غير المحدود الذي يصله من حلفائه، إيران والعراق وروسيا. فيما يلي تعداد لبعض أهم سياسات وإستراتيجيات النظام خلال السنوات الثلاثة الماضية:
- اعتمد النظام في تعامله مع الحاضنة الشعبية للثورة على سياسة الأرض المحروقة، التي سعت لمحاصرة المدنيين ضمن خيارات كلها سيئة: فإما الهجرة والتشرد أو التعرض للحصار القاتل أو العيش تحت خطر الإعتقال أو الموت العبثي. لقد استطاع النظام تثبيت معادلة مفادها أنه كلما طال أمد الحرب، كلما زادت خسائر الأهالي في المناطق الحاضنة للثورة مما سيحول المعركة إلى نوع من الانتحار البطيء. إن الثمن الباهظ للإستمرار في المقاومة يعني أن الثورة، وإن استطاعت الانتصار في نهاية المطاف، فإن انتصارها سيكون عند ذلك إنجازا عقيما، لأن هذا الثمن غير متكافئ على الصعيدين الفري والجمعي. فعلى الصعيد الفردي سيكون الثمن فقدان الأهل والأحبة وخسارة الأرزاق ومدخرات العمر. أما على الصعيد الجمعي فسيصعب تحويله إلى نتائج عملية تهيئ لمستقبل أفضل نتيجة للحالة المعقدة التي ستخلفها الحرب من تناحر طائفي وأزمة مهاجرين ومشردين وتهديم للبنية التحتية وضعف الدولة المركزية ونمو نفوذ الفصائل المسلحة المستقلة.
- إعتمد النظام في سياسته مع الدول الغربية على سردية واحدة لم يحد عنها منذ بداية الثورة، يقضي محتواها بأنه يحارب التطرف والإرهاب. ثم قام بنفسه بتهيئة الظروف التي مكنت من تحقيق نبوءته من خلال العديد من التكتيكات كان آخرها إفساح المجال لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا بالتوسع جغرافيا، ودعمه بشكل غير مباشر في معاركه من خلال القصف الجوي لخصومه في الشمال السوري. إن التمدد الأخير لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام منح النظام السوري اليوم الشعور بالطمأنينة لجهة إستمراره في أداء دوره الوظيفي دوليا كشريك في محاربة الإرهاب؛ خاصة في ظل أنباء تهجير مسيحيي الموصل ومصادرة أملاكهم، ورجم النساء في الرقة والطبقة، وكذلك في ظل ظهور التسجيلات على اليوتيوب لمواطنين غربيين يقاتلون مع تنظيم الدولة (مثل: أبو لقمان الألماني) وهم يحملون الرؤوس المقطوعة ويتهددون خصومهم. يسيطر هذا التنظيم اليوم على مايقارب ثلث مساحة الدولة السورية بحدودها المعروفة، بالإضافة للموصل ومحافظة نينوى والعديد من المناطق السنية في العراق. كما يشكل منتسبوه من الدول الغربية عامل قلق كبير لهذه الدول، التي تتخوف من عودتهم بخبراتهم الجديدة التي اكتسبوها في سوريا. هذه التطورات الأخيرة في العراق ساهمت في تنشيط قنوات التواصل الخلفية للنظام مع العديد من الدول الغربية من أجل تنسيق الجهود في مكافحة الإرهاب، حيث بات النظام هو الشيطان الأقل ضررا في نظر بعض هذه الدول. مما يعني أن سياسة حافة الهاوية التي دأب النظام عليها منذ بداية الثورة في سوريا صارت اليوم تؤتي ثمارها: أي الخلق المتعمد لخطر كبير لايمكن السيطرة عليه بشكل كامل ويخشى من عواقبه، بما يدفع الاطراف الدولية والإقليمية للجوء إلى النظام السوري عاجلا أم آجلا من أجل السعي للوصول إلى تسوية يكون النظام عرابها.
تتزامن هذه الأحداث أيضا مع تحقيق تقدم ملموس في التفاهمات الأمريكية – الإيرانية، تقضي بالتسليم لدور إيراني معترف فيه في المنطقة على حساب الدور التركي، وعلى حساب الشركاء العرب. يفسر النظام وحلفاؤه هذا الدور الإيراني على أنه الجائزة السياسية لصمودهم في الساحة السورية وكذلك لتدخلهم في العراق من أجل ضبط أزماته وحفظها ضمن نطاق حدوده ومنعها من الخروج عن السيطرة، الأمر الذي يمهد لمرحلة جديدة تقوم على التفاوضات حول توزيع الموارد وتقاسم النفوذ على مستوى المنطقة.
يسعى اليوم النظام السوري اليوم لإعادة ترتيب أوراقه داخليا بما يدعم موقفه بما يتجاوب مع متطلبات المرحلة القادمة. حيث سيكون التفاوض للوصول إلى حل سياسي في سوريا من خلال اتفاق إقليمي أوسع يشمل العراق وإيران هو عنوانها الأبرز. وفي هذا السياق يمكن فهم مايسمى بالانتخابات الأخيرة في سوريا. ويمكن تفسير العديد من القوانين والمراسيم التي سبقتها وتلتها.
ففي حين دعا وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو الأسد إلى تفويض كامل صلاحياته لنائبه فاروق الشرع، قام النظام قبل أيام (١٩ تموز) بطي صفحة فاروق الشرع عبر مرسوم رئاسي يقضي بتعيين السيدة نجاح العطار (٨١ سنة) كنائب مفوض للرئيس، حيث لا تشكل له السيدة الثمانينية أي تهديد يستحق الذكر، ولا يمكن أن تكون بديلاً يمكن الرهان عليه من أي طرف، بينما تم طرح أسم السيد فاروق الشرع كبديلا مقبولا دوليا ويمكن التوافق عليه مع المعارضة.
كما ظهرت السيدة العطار في مراسم أداء الأسد اليمين الدستورية لولاية ثالثة، وجلست إلى جانب أنيسة مخلوف، والدة بشار الأسد، في الوقت الذي تم فيه تغييب فاروق الشرع مقابل حضور رئيس مكتب الأمن الوطني اللواء علي مملوك، الذي تقول التسريبات بأنه سيتم تعيينه نائبا ثانيا لرئيس الجمهورية للشؤون الأمنية. أي أن النظام يسعى لإستبعاد أي وجه يمكن التوافق عليه أو يمكن أن يكون بديلا معقولا في المستقبل. يذكر أنه جرى خلال السنوات الثلاثة الماضية إستبعاد العديد من الشخصيات القوية التي لم تصطف بالكامل مع النظام، الأمر الذي كان ممكنا أن يهيئها لتكون بديلاً توافقيا مثل وزير الدفاع علي حبيب الذي رفض إستخدام الجيش في قمع المظاهرات. وفي نفس السياق يجري الحديث الآن عن الإعداد لحكومة جديدة لا تحمل تغييرا جوهريا، حيث ستضم في مجملها أسماء قديمة ولكن في مواقع جديدة، حيث يجري الحديث عن أسماء مثل حسان النوري، وبشار الجعفري، وربما تضم بعض الشخصيات من حزب قدري جميل الذي أدى دور المعارضة المعتدلة في الداخل من خلال حزبه “الإرادة الشعبية”. إلا أن الجديد في هذه الترتيبات هو ملأ المقاعد الأمامية للنظام بالشخصيات التي يصعب أن تكون مقبولة من طرف المعارضة السورية، كما أنها تفتقر مقومات تشكيل بديلا مقبولا يملأ موقع الرئاسة في سوريا.
لا شك بأن قدرة النظام على الإحتفاظ بتماسك مكوناته الرئيسية يعد إنجازه الأبرز والأهم خلال السنوات الثلاثة الماضية. إن نسبة الانشقاقت في المستويات الديبلوماسية والعسكرية العليا كانت محدودة للغاية مما أكسب النظام مظهر الكتلة المتماسكة التي يمكن التعويل والمراهنة عليها، مما شجع روسيا وإيران للاستثمار في دعمه سياسيا وعسكريا بقوة لافته. كما أن تماسكه هذا بدأ يشجع أطرافاً غربية أخرى لإعادة حساباتها من جديد أو يشجعها للتحالف معه، الأمر الذي افتقدته المعارضة على الطرف المقابل بشدة.
من المؤكد أن التطورات الأخيرة في العراق، بالإضافة إلى الإختراقات التي حققها النظام على الصعيد العسكري في حلب مؤخرا، أكسبته زخما جديدا وأعطته جرعة زائدة من الثقة والأمل بإمكانية إستعادة المناطق الخارجة عن سيطرته عسكريا؛ الأمر الذي عبر عنه رأس النظام بشار الأسد في خطاب القسم الأخير بالمجمل بأن نظامه باق ويتمدد.
فقد أظهر النظام العديد من النجاحات على المدى المتوسط والقصير. حيث أنه سيسعى خلال الفترة القادمة لتوسيع نطاق تجربة الهدنات التي طبقها بنجاح نسبي في مناطق الريف الدمشقي تحت مسمى “المصالحة الوطنية”. فقد إستطاع من خلالها تحقيق إختراقات مهمة عجز عن تحقيقها عبر العمل العسكري. كما أنه سيعمل على الإفادة من هذه النجاحات إعلاميا ودوليا، من أجل الترويج لقدرته على إعادة ضبط المناطق الخارجة عن سيطرته على المدى الطويل.
من غير المستبعد على المدى المتوسط أن نرى طائرات النظام السوري تقوم بقصف مواقع تنظيم الدولة الإسلامية والإشتباك معها في معارك مباشرة، حيث سيعني ذلك بأن الأطراف الدولية والإقليمية توصلت إلى تفاهم إقليمي مع إيران يقضي بإعتماد النظام كشريك في مكافحة الإرهاب.
ولكن على المدى البعيد يبقى استمرار النظام مرهوناً باستمرار الدعم القادم من إيران وروسيا بكافة أشكاله. مع العلم أن هاتين الدولتين تعانيان أيضا من توترات داخلية وأوضاع مالية تزداد صعوبة، في الوقت الذي تنتشر فيه جهودهم العسكرية في عدة ساحات متباعدة؛ الأمر الذي سيدخلهم في حالة إستنزاف على المدى البعيد، تؤدي بدورها إلى زعزعة هذه الأنظمة من الداخل وإضعافها. ولعل هذا هو المقصد الغربي الرئيسي من عدم السعي الجاد لإيجاد حلول سياسية للأزمة السورية.
كما أن إستمرار المقاومة والعمليات العسكرية للمعارضة السورية في محيط العاصمة دمشق رغم الحصار الخانق المستمر منذ سنوات يعد دليلا إضافيا على مدى هشاشة النجاحات التي يبني عليها النظام آماله. فرغم القبضة الأمنية والتفوق العسكري لصالح النظام، لم يجرأ بشار الأسد على أداء القسم الرئاسي إلا في قاعة مغلقة تحت الأرض في قصره المعزول عن محيطه. حيث تم سوق الحضور إلى قصره ضمن إجراءات أمنية مشددة إستغرقت ساعات عديدة، في تعبير ضمني عن مدى تدهور الوضع الأمني الذي يعيشه نظام الأسد ضمن العاصمة دمشق التي حولها إلى قلعة أمنية محصنة. إذ أن البرلمان السوري لا يبعد أكثر من مسافة خمسة كيلومترات عن قصره.
إن التاريخ يعلمنا بإن الدقائق الخمسة الأخيرة في حياة الأنظمة الديكتاتورية لا تشبه ما قبلها ويكون لها ما بعدها. فالنهايات التي لقيها القذافي ومن قبله صدام حسين وتشاوشيسكو تؤكد أن ركون المستبدين لمظاهر القوة ليست إلا وهما من الممكن أن ينقلب على أهله في أي لحظة. وكما يقول المثل الشعبي: “لو دامت لغيرهم ماوصلت لهم”.