لا يمكن المرور على اسم مدينة حلب السوريّة إلا بذكر ثقافةٍ متنوعة وضاربة في الجذور، فمن مطبخها إلى آثارها مرورًا بلهجتها المميزة، وصولًا إلى ثقافتها التجارية، التي أكسبتها بعدًا دوليًا مهمًا. إلا أن درّة تاج ثقافتها كانت قدودها وأغانيها وصوت مطربيها الرخيم، الذي يبعث الآهات مع كل مقامٍ لصباح فخري أو نشيدٍ لحسن الحفار، لتبلغ أغنية “عالروزانا” بالصوت الحلبي الآفاق وتحفر لها اسمًا في ذاكرة الفن العربي الأصيل.
ومنذ أن حكم العثمانيون بلاد الشام، تطور الفن الحلبي ليصبح مستقلًا بنوعه ولونه وكلماته وصناعة لحنه، وساعد على ذلك كله الذائقة الفنية لأهل المدينة، وبرعت حلب بأنواع عديدة من الفنون والألوان إلا أن الطرب الملتزم متمثلًا بالقدود كان طاغيًا على غيره، ودخل الغناء في المدينة إلى كل بيت وبجميع مناحي الحياة دينيًا ودنيويًا، وكان للزوايا والتكايا الصوفية، دور كبير في تطوير الغناء في المدينة.
نشأة القدود
تُعرف القدود على أنها منظومات غنائية، غُنيت على ألحان موجودة بالأصل أي أنها بُنيت على قد، أو على قدر، وبهذا الصدد يقول الباحث عبد الفتاح قلعجي:، “كلمة قد تعني المقاس. فالألحان الدينية كانت تخرج من الزوايا الصوفية لتبحث عن كلمات فيها الغزل وفيها القضايا الاجتماعية، فيبقى اللحن الذي كان أساساً أنشودة دينية وتصوغ وفقه كلمات تدخل في الحياة اليومية فهذه على قد تلك ومن هنا نشأ القد”.
ولا يعتبر “القدّ” قالبًا موسيقيًا إنما يأخذ قالب اللحن الأصلي ويعمل على أساسه، فإذا كان المقطع موشحًا صار القد موشحًا وإن كان أغنية صار أغنية، ويقول قلعجي “نرى أن القدود اشتهرت بأسماء مؤلفيها وليس بأسماء ملحنيها (المجهولون على الغالب) فالذين ألفوا القدود هم شعراء لكنهم يمتلكون ذائقة موسيقية جيدة ومنهم من كان موسيقياً أيضاً”.
أما بالنسبة لمصادر نشأة القدود، فهي الموشحات الأندلسية والأناشيد الدينية، والموالد والأذكار بالإضافة إلى الأغاني والموشحات الأعجمية؛ تركية وفارسية، والأغاني الشعبية والتراثية ذات السوية الشعرية المتدنية، وبحسب الفنان عيسى فياض فإنه من الصعب معرفة الوقت الحقيقي لنشوء هذا اللون ولكنه يرجح أنه ظهر في منتصف القرن 18.
وارتباط القدود بحلب يتجلّى بسببين، أحدهما احتضان حلب للعديد من الفنون الموسيقية الوافدة إليها بسبب موقعها التجاري والفني الهام، والسبب الأهم وجود الإذاعة، وتعتبر إذاعة حلب من أقدم الإذاعات العربية، حيث أنشأت عام 1949، مما ساعد على توثيق وتسجيل العديد من تلك القدود ضمن وصلات الغناء التراثية التي سجلتها وبثتها بأصوات عدد من المطربين الحلبيين الكبار.
ومن الأصوات التي برعت في أداء القدود وأصبحت أيقونات في عالم الفن، الفنان صبري مدلل والمطرب صباح فخري والمنشد حسن حفار بالإضافة إلى أديب الدايخ الذي كان صوته لا يفارق بيوت سوريا.
ذاع صيت المدلل في مدينة حلب بجمال صوته وأدائه الفريد، حتى افتتحت إذاعة حلب ليذهب إليها ويكون له مكانًا بين أهل الطرب وأداء الفقرات فيها
صبري المدلل
“حين تصغي إلى غنائه، تحسبه تغريداً؛ إذ إنّ فيه من الإحساس باللحن ما يجعلك تحلّق رغم أنه أوتي صوتاً كامل الرجولة، واجتماع للقوة والمساحة والحسّ في صوت واحد يعدُ من النوادر”، هكذا وصف أحدهم صوت المنشد والفنان صبري مدلل الذي ولد في حلب عام 1918 من عائلة ملتزمة، وكان أبوه يصطحبه معه للمساجد وحلقات العلم.
في البدايات كان صبري تلميذًا في المسجد ليكتشف شيخه صوته الرخيم في تلاوة القرآن مما استدعى الشيخ بأن يسمح له الصعود للمأذنة ويطلق أذان الظهر من كل يوم، تتلمذ المدلل فنيًّا بمدرسة الشيخ عمر البطش الذي اشتهر بألحانه وموشحاته، وتعلّم منه أصول الغناء والتقاسيم، وعلوم الأوزان والمقامات وصار يأخذه معه إلى الحفلات الغنائية، للمشاركة بها، حتى صار المدلل يمسك الحفلات ويقودها.
ذاع صيت المدلل في مدينة حلب بجمال صوته وأدائه الفريد، حتى افتتحت إذاعة حلب ليذهب إليها ويكون له مكانًا بين أهل الطرب وأداء الفقرات فيها، إلا ان اختلاطه بالفنانات جعل أبوه غير راضٍ عن عمله، حينها لبّى صبري دعوة أبيه بترك الإذاعة، والتفت لتأسيس فرق الإنشاد والابتهالات الدينية، وأصبحت فرقته من أكثر الفرق شهرةً على مستوى سوريا، وأجرت العديد من الحفلات على مستوى العالم، توفي المدلل عام 2006 تاركًا تاريخًا من فخامة الصوت وحُسن الأداء.
صباح فخري
ولد صباح الدين أبو قوس في مدينة حلب عام 1933 في أسرة ملتزمة وأبوه قارئ للقرآن ومنشد، واكتسب لقبه الفني من الزعيم السوري فخري البارودي الذي دعاه للبقاء في سوريا وعدم السفر منها. درس صباح في أكاديمية الموسيقا العربية في حلب وانتقل إلى فرع الأكاديمية في دمشق، وتخرج من المعهد الموسيقي الشرقي عام 1948، ليكون قد أتمّ دراسة الموشحات والإيقاعات والعزف على العود، كان فخري في صغره مؤذنًا في جامع الروضة في حلب.
وكما المدلل فقد تتلمذ فخري على يد الشيخ عمر البطش، بالإضافة إلى الشيخ علي درويش، ومحمد رجب وعزيز غنام، وكانت أول عروضه الهامة في القصر الرئاسي السوري في عهد الرئيس شكري القوتلي، حاز صباح على شهرةٍ واسعة في العالم العربي، غنى فخري العديد من أغاني حلب التقليدية، والمأخوذة كلماتها من قصائد لشعراء قدماء.
قال الموسيقار محمد عبد الوهاب للمطرب الحلبي “مثلك بلغ القمة، ولا يوجد ما أعطيك إياه”، ومنح فخري جوائز عدّة كما أنه غنّى في عدّة أماكن مهمة كقاعة جائزة نوبل في السويد، وقاعة بيتهوفين في مدينة بون الألمانية، ودخل موسوعة جينيس كأطول وصلة غنائية تواصلت لمدة ساعات، في العاصمة الفنزويلية كاراكاس، ويعرف عن فخري عن تفاعله مع جمهوره بالرقص والحركات، ويقول فخري ، “الجمهور يلعب دورًا أساسيًا في إخراج القدرة الإبداعية لدى المؤدي”.
من أشهر أغانيه:يا حادي العيس، ومالك يا حلوة مالك، وخمرة الحب، وقدّك المياس، ويا مال الشام، وابعتلي جواب.
حسن حفّار
في ظهور نادرٍ بعيدًا عن الإنشاد والفن والطرب، خرج قبل أيام المنشد الحلبي حسن حفار في فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي من أمام قلعة حلب، بتواضع شديد وحسرةٍ على الفن “الضائع” كان يتكلم الحفّار وهو الذي لقبه أبناء مدينته “عميد المنشدين” أو “شيخ منشدي حلب”، ويقول إن الفن الذي تربّى عليه تغيّر في هذا الزمن وانحدر مضيفًا أن “الجيل الآن يريد السرعة والرقص فلا يُفهم من كلامهم لا هو موشح أو موال أو قدّ”.
مقابلة جديدة تسر القلوب وبضل أنت تاج راسنا الأستاذ الكبير الشيخ حسن حفار أطال الله بعمرو المدرسة الحلبية عمي أبو أديب الطيب العارفة
Posted by Mohamed Habib on Saturday, November 9, 2019
ولد حسن حفّار عام 1943 لعائلة ملتزمة دينية، من “عائلة شيوخ” كما عبّر مرة خلال تعريفه بنفسه، وبعد تتلمذه في المساجد أصبح مؤذنًا في الجامع الكبير في مدينته واستمر في ذلك لمدة استمرت 40 سنة. درس الحفَّار أصول الإنشاد والتجويد ومقامات الموسيقى العربية الكلاسيكية، إضافة إلى إلمامه بالتراث الغنائي الحلبي من قدود وموشحات وقصائد، وأسّس فرقته الخاصة من منشدين وصار يحيي الأمسيات في حلب، احترف الحفار الطرب عند عبد القادر الحجار وبكري الكردي، كما أنه عمل مع صبري المدلل وعبد الرؤوف الحلاق.
يقول المنشد عن نفسه: “تعلمت القراءة عند الشيوخ في الكتّاب فأنا أجيد القراءة ولا أجيد الكتابة، وهذا شيء نادر ربما لم تصدق، الشيخ الذي تعلمت عنده القراءة لم يكن يعرف التجويد”، ويضيف الحفار “عندما عرفت أنني أملك صوتاً جميلاً ومرغوباً عند الناس كان والدي رحمه الله يوصيني أن أبقى محافظاً على هذا اللون دون الانجرار إلى الآلات الموسيقية آنذاك”.
أجرى الحفار العديد من الحفلات خارج سوريا في فرنسا وتونس والمغرب ودول الخليج العربي، يعتز الحفار بنفسه كثيرًا ويعتبر أن اللون الذي يغنيه لا يفعله أحدٌ غيره، ويذكر: :بدأت أتعلم الموشحات وأرافق المنشدين، أستمع وأتعلم منهم إلى أن استمعوا إلي، اليوم لا يستطيع أحد تقليدي بقصيدة، ليس المقلد كالمقلد وإن قلد”.
أديب الدايخ
“راهب العشاق” و”زرياب” و”مطرب الملوك”، هذه ألقاب أطلقت على المطرب أديب الدايخ الذي ولد في حلب عام 1938، تعلم الدايخ من أبيه أصول الكلام والحفظ و القراءات السبع للقرآن الكريم بالإضافة إلى المراتب والتلاوة، إذ أن أبوه هو المقرئ محمد الدايخ الذي اكتشف موهبة صوت ابنه فدفعه لحفظ القصائد العربية القديمة التي تتناسب مع موهبته.
يقول الدايخ عن نفسه: “منذ الطفولة وأنا متعمق في القصائد الصوفية والغزلية وقد دعيت إلى إحياء حفلات القرآن على الرغم من صغر سني وضعف بنيتي آنذاك، فقد كانوا يضعون تحتي وسادتين حتى أبرز فوق المنصة وقد تمكنت من إبراز موهبتي إلى درجة اعتباري أعجوبة مدينة حلب”.
حفظ الدايخ ما يقرب من 10 آلاف بيت من الشعر، من العصر الجاهلي والأموي والعباسي، وحتى بعض الشعراء المعاصرين، يقول الشاعر اللبناني الشهير جورج جرداق متحدثًا عن صوت الدايخ: “صوت قادم من عمق الصحراء العربية، يستحضر قوة أداء زرياب والفارابي وكل أساطين الغناء في التاريخ العربي، ولذلك كانت مهارته تظهر عندما كان ينشد منفردًا أي بدون مصاحبة آلات موسيقية”.
والتزم الدايخ في غناء القصيدة ذات المعاني السامية وتعلّق بنغمة الحجاز، ويقال عنه “أنه يمتلك مساحة صوتية تغطي ثلاث أوكتافات، وكان من الذين يستطيعون الانتقال من النغمة المرتفعة الحادة إلى المنخفضة وهذا نادر من نوعه كما عرف عنه انتقاله من مقام إلى آخر ببراعة فائقة”، توفي الدايخ في عام 2001، وكانت آخر حفلاته في معرض دمشق الدولي.
ولم تقتصر الموسيقى الحلبية في أدائها على من سبق ذكرهم، إنما ذخرت المسيرة الفنية بعشرات المطربين والمنشدين، أثروا ثقافة القدود على المستوى السوري والعربي ونقلوا به إلى العالمية، إلا أن الخوف يكمن في كيفية الحفاظ على هذا الإرث وإحيائه ودعم الطاقات الشابة التي تبرع بأداء هذا اللون البديع، بعيدّا عن الالتفات إلى الفن الهابط والتجاري.