عاد اسم قائد قوات الدعم السريع السودانية، محمد حمدان دقلو “حميدتي”، للأضواء مرة أخرى بعد فترة من الخفوت النسبي، لكنه هذه المرة ليس لمنصب يترشح له أو وظيفة يتقلدها، وإنما لتوجيه اتهام جديد له بسرقة ذهب بلاده وتصديره لدولة الإمارات، وهو الذي انتقد قبل ذلك المسؤولين بأنهم “يأخذون ما ليس من حقهم”.
وفي الوقت الذي كان يسلط فيه الرجل سهام نقده لرجال الرئيس المخلوع عمر البشير بالتربح على حساب الشعب، كانت شركة تملكها أسرته تنقل سبائك ذهب بملايين الدولارات إلى دبي، متجاوزة بذلك كل القوانين واللوائح الداخلية المعمول بها في هذا الشأن، هذا ما كشفه تحقيق أجرته وكالة “رويترز” مؤخرًا.
التحقيق الذي استند إلى شهادة بعض المصادر داخل تلك الشركة كشف تواطؤًا كبيرًا بين البشير وحميدتي للسيطرة على أغلى موارد البلد الطبيعية، في صفقة يهدف بها الأول حماية نفسه وترسيخ أركان حكمه فيما هدف الثاني إلى تعزيز نفوذه المالي والعسكري، ليبقى الشعب وحدة ضحية الإفقار.
مجموعة الجنيد
وبحسب مراجعة فواتير الطيران وقسائم الدفع تبين أن عمليات بيع الذهب أغلى مورد طبيعي في السودان تتم عن طريق شركة تسمى “مجموعة الجنيد”، حيث أرسلت خلال آخر شهر من العام الماضي فقط ما قيمته نحو 30 مليون دولار من سبائك الذهب إلى دبي وهو ما يزن نحو طن.
وبعد المراجعة تبين أن الشركة مملوكة لشقيق حميدتي ويدعي “عبد الرحيم”، نائب قائد قوة الدعم السريع، كما أفاد عبد الرحمن البكري المدير العام للمجموعة، وذلك رغم نفي مكتب حميدتي أي صلة بينه وبين الشركة ذاتها، إلا أن المستندات التي حصلت عليها الوكالة الإنجليزية تناقض ذلك الادعاء بشكل كبير.
وفي لقاء مع البكري داخل مقر الشركة شديد التحصين أكد أن “الجنيد أبعد ما يكون عن قوة الدعم السريع”، إلا أنه ووفق المستندات التي كشفها فإن الشركة مسجلة باسم عبد الرحيم باعتباره المالك، وأنها صدرت الذهب لدبي في أواخر 2018، لكنه قال إنها قامت بذلك بناء على طلب من جهاز مخابرات البشير، ونفى أن تكون الشركة باعت الذهب للبنك المركزي بسعر تفضيلي.
يذكر أنه في لقاء لحميدتي مع هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) في أغسطس/آب الماضي تحدث بشكل مباشر عن امتلاك أعمال في قطاع الذهب دون أن يكشف المزيد من التفاصيل، وهي التصريحات التي أثارت حزمة من التساؤلات في الشارع السوداني وقتها بشأن مصير الذهب المستخرج من المناجم السودانية.
وعن الجهة التي كانت تتعامل معها الجنيد في الإمارات، كشف التحقيق عن شركة تسمى “روزيلا” ومقرها دبي، وبالتواصل معها أكدت أن المجموعة السودانية كانت لها تعاملات معها، وأشار مسؤول في الشركة إلى أن التعاملات بين الشركتين جرت لمدة ثلاثة أشهر في أواخر عام 2018، وقال البكري، مدير عام مجموعة الجنيد، إن روزيلا الشركة الوحيدة التي تعاملت معها المجموعة في دبي.
المواد السامة التي تستخدمها الشركة أثارت حفيظة السكان في كردفان
استخدام مواد سامة
الأمر لم يقتصر على تهريب الذهب للخارج وفقط، بل إن الشركة المملوكة لأسرة حميدتي كانت تستخدم الزئبق السام في استخراج الذهب مما ينطوي على خطر كبير على صحة العاملين في المناجم، بجانب التربة المتبقية المعروفة باسم “الكرته” ينقل بعضها بالشاحنات لمنشآت مجموعة الجنيد حيث تعالج بالسيانيد لجمع ما تبقى بها من ذهب.
استخدام هذه المواد السامة دفع السكان المحليين إلى مهاجمة الشركة أكثر من مرة، وفي أكتوبر/تشرين الأول أضرم سكان قرية تولادي في جنوب كردفان النار في مقر لمجموعة الجنيد واتهموا الشركة بنهب ذهبهم وتلويث تربتهم، هذا في الوقت الذي رد عليهم البكري مدير عام المجموعة قائلًا: “سكان جنوب كردفان يجب أن يشكروا الجنيد، على كل ما فعلته من أجل المنطقة”، وقدر قيمة الأضرار الناجمة عن حرق المقر بنحو 6 ملايين دولار.
وكان أنور الحاج رئيس منظمة الديمقراطية أولًا السودانية، وهي منظمة غير حكومية تدعو إلى الديمقراطية، قد بيّن “أن السيانيد أكثر خطورة لأنه يتسرب إلى التربة وتجرفه الأمطار ويقتل العديد من الحيوانات ويتسرب إلى مياه الشرب ويؤثر على الخضراوات في المنطقة”، فيما نشرت المنظمة تقريرًا في 2018 أكد وجود صلة بين استخدام المواد الكيماوية السامة في التعدين وزيادة معدلات الإجهاض وتشوّه الأجنة ووفاة المواليد.
تتفق تصريحات سابقة لرئيس غرفة مصدري الذهب في السودان بشكل كبير مع تقرير خبراء الأمم المتحدة بأن أكبر مُشترٍ فعلي للذهب السوداني هي الإمارات
معاملة استثنائية
كما هو معروف فإن البنك المركزي السوداني هو الجهة الوحيدة المخول لها الإشراف على صادرات الذهب ولا يوجد جهة أخرى تنافسها في هذا الاختصاص، وهو ما يثير التساؤل عن كيفية أداء مجموعة الجنيد هذه المهمة، غير أن مسؤولين حكوميين حاليّين ومسؤولًا سابقًا وعددًا من المصادر في صناعة الذهب، أكدوا لـ”رويترز” أن البشير سمح في بعض الأحيان لـ”حميدتي” بالتملص من هذه القاعدة، والسماح لمجموعته ببيع الذهب بعيدًا عن البنك المركزي.
دوافع استثناء كهذا لا تحتاج إلى عناء أو بحث، فقوة الدعم السريع التي يرأسها حميدتي ويقدر قوامها بعشرة آلاف جندي، كانت تمثل أداة البشير الأساسية في التخلص من معارضيه ووأد أي تحركات مناوئة له، حتى داخل الجيش نفسه، ومن ثم كانت تتميز بوضعية مختلفة عند الرئيس المخلوع.
ومن جانب آخر كشف مسؤولون عن اتفاق ضمني بين البشير والمجموعة، بمقتضاه تُسلم الجنيد بعض عائداتها من التصدير إلى الدولة لتمويل شراء الحكومة الوقود والقمح، وهو ما أكده مديرها العام الذي أوضح أن المجموعة تجاوزت البنك المركزي لمدة ثلاثة شهور فقط في أواخر عام 2018 بناءً على طلب من الرئيس ذاته.
عبد المنعم الصديق رئيس شعبة مصدري الذهب في السودان، أشار هو الآخر في تصريحات له إلى أنه حتى إذا باعت مجموعة الجنيد الذهب إلى البنك المركزي، كما هو من المفترض، فإنها حصلت على سعر تفضيلي، وهو ما نفاه البكري.
تهريب الذهب يتم من مطار الخرطوم إلى دبي مباشرة
التهريب عبر الخطوط الإماراتية
في تحقيق للصحفية السودانية هبة فقيري نشرته على موقع “الجزيرة” أشارت إلى مقارنة عقدها وزير الصناعة والتجارة السوداني السابق، موسى كرامة، بين كمية إنتاج الذهب المُعلَنة من حكومة بلاده عام 2015، وهي 70 طنًا، والمعلومات التي تحصّل عليها وأكّدت أن صادرات الذهب عبر مطار الخرطوم فقط إلى مطار دبي عبر الخطوط الإماراتية في العام نفسه بلغ 102 طن.
وأضافت الصحفية السودانية أن حديث الوزير بجانب تصريحات سابقة لرئيس غرفة مصدري الذهب في السودان تتفق بشكل كبير مع تقرير خبراء الأمم المتحدة بأن أكبر مُشترٍ فعلي للذهب السوداني هي الإمارات، حيث تشير تقديرات الصاغة والمعدنيين للإنتاج الفعلي من الذهب إلى ارتفاعه لكميات تتراوح بين 230-240 طنًا خلال عامي 2017-2018، في وقت كانت فيه الحكومة تتحدث عن إنتاج يتراوح بين 90-110 أطنان فقط، بمعنى أن الفاقد يتراوح بين 100-130 طنًا سنويًا.
“الحكومة ستعمل على إنهاء الاحتكار في قطاعات منها التنقيب عن الذهب” وزير المالية السوداني
وفي السياق ذاته يتهم الخبير الاقتصادي والأستاذ بكلية الاقتصاد والعلوم الإدارية بجامعة النيلين الحكومية الدكتور عبد الله الرمادي نافذين في السلطة بالضلوع في تهريب الذهب عبر مطار الخرطوم، مؤكدًا أنه حصل على معلومات موثقة من خبراء جيولوجيين بأن الإنتاج السنوي للبلاد يصل إلى 200 طن تُقدَّر قيمتها بما بين 7-8 مليارات دولار، وهو مبلغ كان يمكنه إنقاذ البلاد من شح سيولة نقدية واجهتها طيلة السنوات الماضية.
يذكر أن إنتاج السودان من الذهب ارتفع بمناطق إنتاج شملت 12 ولاية خلال أعوام (2015-2016-2017) بنسبة 20% من 73.4 طن إلى 93.4 طن، وكشف تقرير أداء وزارة المعادن للنصف الأول من العام الماضي 2018 أن إنتاج الذهب خلال النصف الأول من العام بلغ 63 طنًا اشترى بنك السودان منها 8 أطنان، وبلغ صادر الشركات 1.4 طن، لتصبح جملة صادرات الذهب 10.7 طن بقيمة 422.5 مليون دولار.
مواجهة الفساد
حالة من الجدل أثارتها تلك الأنباء التي تشير إلى سيطرة شركة حميدتي على سوق الذهب في الدولة التي يقبع عشرات الملايين بها تحت مستوى خط الفقر، حيث طالب الكثيرون بضرورة فتح تحقيق عاجل في هذه المسألة التي يضعها البعض على قائمة قضايا الفساد في البلاد.
الناشط السوداني عبد الخالق سعد، أشار إلى أن قائد قوات الدعم السريع كشف منذ البداية عن توجهاته الرامية إلى توسيع نفوذه عبر الارتماء في أحضان الإماراتيين، لافتًا إلى أن تخصيص دبي لتصدير الذهب لها لم يكن اختيارًا عشوائيًا، وأن ما يثار بشأن عدم وجود علاقة بين الجنيد والقائد العسكري حديث لا ينطلي إلا على السذج على حد قوله.
وأضاف سعد في حديثه لـ”نون بوست” أن بقاء حميدتي في السلطة حتى اليوم عقبة كبيرة أمام الانتقال المدني الديمقراطي لسودان ما بعد الثورة، مناشدًا التيارات الثورية والحكومة الحاليّة بتقليم أظافر القوى الموازية التي تشكل تهديدًا كبيرًا لأمن واستقرار البلاد وعلى رأسها قوات الدعم السريع التي وصفتها بأنها “خنجر في ظهر السودان الجديد”.
هذا الكلام يتفق مع ما قاله وزير الطاقة والتعدين السوداني، عادل علي إبراهيم الذي لفت إلى تحديات كبيرة أمام إصلاح قطاع صناعة الذهب، وقال إن الوزراء المتعاقبين تقاعسوا عن ضمان منح الامتيازات بشكل عادل وشفاف مما أدى إلى الفساد، مضيفًا أن هذه فوضى.
من جهته أكد وزير المالية إبراهيم البدوي، أن الحكومة ستعمل على إنهاء الاحتكار في قطاعات منها التنقيب عن الذهب، وهو المطلب الذي رفعه كثير من تجار المعدن الأغلى في البلاد وبعض الاقتصاديين الذين يرون أن “حميدتي” ومؤسسته رمزان لماضي البلاد القمعي والتفاوت الاقتصادي.
وفي المجمل تبقى الإمارات كلمة السر بالنسبة لصعود حميدتي وبروز نفوذه، سواء على المستوى السياسي عبر سياسة الاحتواء والدعم أو على المستوى الاقتصادي من خلال فتح نوافذ لاستيراد الذهب المهرب من بلاده في وقت يواجه فيه الشعب السوداني أوضاعًا معيشيةً سيئةً، وهو ما يفتح الباب مرة أخرى أمام أجندة أبناء زايد في السودان.