تسع سنوات مرت على الثورة الليبية وإنهاء حكم معمر القذافي، سنوات عدة لم تكن كفيلة بأن تنعم خلالها البلاد بالاستقرار والرفاهية التي كان ينشدها الشعب، نتيجة الصراع بين أبناء الوطن الواحد لغايات مختلفة. صراع زادت التدخلات الأجنبية من حدته، حتى وصل الأمر بليبيا إلى أن تحولت لساحة نزاع إقليمي، تتصارع فيها قوى كبرى بمعاضدة جهات داخلية للحصول على امتيازات عدة يوفرها هذا البلد العربي المنكوب، دون أن يكون للبعض منهم أي اهتمام بمصالح الشعب الليبي.
في هذا التقرير لنون بوست، سنعرض معًا أبرز هذه القوى المتصارعة والهدف من وجودها في ليبيا في هذه الفترة الحرجة التي يمر بها هذا البلد الغني بالثروات الباطنية.
تركيا.. مساحة مناورة
اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين ليبيا وتركيا، الذي وقع في 27 من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أظهر مجددًا الصراعات الإقليمية في ليبيا، ورغبة كل طرف من أطراف هذا الصراع في الانفراد بالامتيازات التي توفرها البلاد، على أنه من الإنصاف القول؛ إنّ تركيا هي الدولة الوحيدة تقريبًا، التي تقدم دعمًا حقيقيًا للحكومة الشرعية المعترف بها دوليًا، وتجري تعهداتها معها بشكل علني وشفاف، خلافاً مثلًا لسلوك دول محور الثورات المضادة التي تدعم حفتر.
وتعمل أنقرة على حماية ليبيا من خطر التقسيم و”العسكرة” الذي يسعى له حفتر بمساعدة دول عربية وغربية لا هم لها إلا خراب هذا البلد العربي للسيطرة على مدخراته الطبيعية والاستفادة من موقعه الجغرافي، ودائمًا ما يؤكد أردوغان أنه داعم أساسي لحكومة الوفاق التي يقودها فائز السراج، وأن بلاده ستسخر كل إمكاناتها لما يصفه بـ”منع المؤامرة عن ليبيا”.
تسعى روسيا إلى إعلاء شأن حفتر في ليبيا، خدمة لأجندتها هناك، فهي تأمل في الحصول على امتيازات عسكرية وأخرى اقتصادية
ومؤخرًا، أبدى أردوغان، استعداد بلاده لإرسال عسكرييها إلى ليبيا، في حال طلبت حكومة “الوفاق الوطني” المعترف بها دوليًا ذلك، حيث قال في حديث لقناة “تي آر تي” التركية: “إذا أرادت ليبيا ذلك، فإن تركيا ستتخذ قرارًا بشكل مستقل، ونحن لن نطلب إذنًا من أحد بهذا الشأن، وتركيا مستعدة لتقدم أي دعم لليبيا”.
تدخل تركيا في ليبيا، لم يكن في صالح طرابلس فقط، بل لصالح أنقرة أيضًا، فالاتفاقية الأخيرة المبرمة بين البلدين مثلًا، ستمنح تركيا مساحة مناورة أكبر، تمكنها من زيادة نشاطاتها وتحركاتها على مستوى المنطقة، كما سيجعلها في موقع أقوى.
المرتزقة الروس
هذا الدعم التركي للسلطات الشرعية في ليبيا، يقابله دعم غربي وعربي لخليفة حفتر الذي لا يعترف بالشرعية الدولية، وتتهم قواته بارتكاب جرائم حرب في المعارك الدائرة بمناطق عدة من البلاد، خاصة في غربها وجنوبها.
ففي الوقت الذي أعلنت فيه تركيا استعدادها إرسال قوات عسكرية لحماية البلاد، قادت قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر هجومًا عسكريًا استهدف العاصمة طرابلس، بمعاضدة قوات عسكرية متعددة الجنسيات، ما يظهر نية كل طرف.
ضمن هذه القوات نجد المرتزقة الروس الذي يمثلون ويحمون مصالح بلادهم في ليبيا، ويرجع التصعيد الحاصل في ليبيا مؤخرًا إلى التدخل الروسي، فموسكو تطمح أن يكون لها النصيب الأوفر في الثروات الباطنية هناك وفي عقود إعادة الإعمار القادمة، وأيضًا في صفقات الأسلحة التي ينوي الجيش الليبي إبرامها بعد رفع الحظر الدولي عنه.
تشارك روسيا في الصراع الليبي بمرتزقة لدعم حفتر
هذا التدخل الروسي، زاد من حدة النزاع في ليبيا، حيث أوضح المبعوث الأممي غسان سلامة أن الدعم الروسي لقوات حفتر زاد زخم هجومه على طرابلس خلال الأيام الماضية، مؤكدًا أن القوات العسكرية الروسية التي “يطلق على أفرادها المرتزقة أو المتعاقدين الصغار” أسهموا في تغيير التوازن الإستراتيجي، ولفت إلى أنه منذ انضمام الروس إلى قوات حفتر استعاد الهجوم على طرابلس قوته.
وحذر سلامة من أنه إذا استمر هذا الأمر سيكون هناك “حمام دم والمزيد من الضحايا المدنيين، والمزيد من النازحين، والمزيد من المعاناة”، ولم يستبعد أن يسهم دخول قوات حفتر إلى طرابلس على نحو مفاجئ في عرقلة جهود الإعداد لمؤتمر برلين الدولي بشأن ليبيا.
وتسعى روسيا إلى إعلاء شأن حفتر في ليبيا، خدمة لأجندتها هناك، فهي تأمل الحصول على امتيازات عسكرية (قاعدة عسكرية في شواطئ ليبيا)، وأخرى اقتصادية (إعادة إحياء العديد من المشاريع المعطلة مع ليبيا)، وترى موسكو أن من شأن عودتها إلى ليبيا والمسك بزمام الأمور هناك إثبات حضورها في المنطقة التي تعتبر امتدادًا للنفوذ الغربي، في وقت يشهد فيه القرار الغربي بعض التردد.
دور مصري في تأزيم الوضع
التدخل الروسي في ليبيا، جاء بالتنسيق مع مصر التي تدعم بدورها خليفة حفتر على حساب باقي الأطراف المكونة للمشهد الليبي، ويأتي ذلك ضمن الاتجاه العام للسلطات المصرية بدعم موجة الثورات المضادة للربيع العربي.
التدخل المصري في ليبيا تمثل في إرسال عساكر لدعم وتدريب قوات حفتر وأيضًا معدات عسكرية على رأسها الطائرات المسيرة، فضلًا عن المدرعات والدعم اللوجستي الذي تقدمه لميليشيات حفتر.
تسعى باريس من خلال الملف الليبي إلى العودة لشمال إفريقيا والإمساك بزمام الأمور هناك، كما أنها تأمل في الحصول على النصيب الأكبر من السوق الليبية وتأمين أسواق مستقبلية لإصلاح اقتصادها المعثر
تسعى مصر من خلال تدخلها في ليبيا إلى تقويض كل مساعي رأب الصدع بين أطراف الأزمة الليبية، ما من شأنه تعزيز الانقسام السياسي وتغذية الصراع المسلح في البلاد، وتقول أوساط حقوقية ليبية ودولية إن دولة مصر ارتكبت جرائم حرب في ليبيا بموجب الاتفاقات الدولية.
فضلًا عن تقويض مساعي رأب الصدع بين أطراف الأزمة الليبية، تأمل مصر في الحصول على نصيبها من ثروات ليبيا، كما أن عينها على مناطق مخصصة منها واحة الجغبوب الليبية التي تدعي مصر ملكيتها لها.
الإمارات وهواية خرق القانون الدولي
التدخل في ليبيا لا يقتصر على هذه الدول، فنجد أيضًا دولة الإمارات، هذه الدولة لم تكترث بالقانون الدولي، فقد عرف عنها تقديم الدعم العسكري السخي لحفتر، حيث كشفت تقارير أممية خرق دولة الإمارات وبصورة متكررة نظام العقوبات الدولية المفروضة على ليبيا، من خلال تجاوز حظر التسليح المفروض عليها، وزيادة قدرات قوات حفتر الجوية بصورة كبيرة، الأمر الذي أدى إلى تزايد أعداد الضحايا في النزاع الدائر بليبيا.
وساهمت الإمارات في تفكيك ليبيا سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا، من خلال نهب النفط الليبي الذي يمثل عماد الاقتصاد الوطني، بمعية حليفهم هناك خليفة حفتر الذي لا يتوانى عن فعل أي شيء يضر بمصلحة بلاده ويصب في مصلحته الخاصة، وفقًا لعدد من الليبيين.
ويتأكد من حين إلى آخر، تحول دولة الإمارات العربية المتحدة إلى منصة إعلامية وسياسية وعسكرية تعمل خصيصًا لضرب ليبيا التي يطمح شعبها في التحرر من الاستبداد والقطع مع الأنظمة الشمولية الديكتاتورية الشبيهة بالنظام الإماراتي الحاليّ.
فرنسا.. سعي متواصل للمسك بزمام الأمور
ضمن هذه الدول، نجد أيضًا فرنسا، فرغم تأكيد هذه الدولة الأوروبية المتواصل على ضرورة الحفاظ على الاستقرار في شمال إفريقيا وبلدان الساحل، والخوف من تحول ليبيا إلى بيئة رئيسية حاضنة للتنظيمات الإرهابية المختلفة، تعمل فرنسا على دعم أكبر الميليشيات المسلحة في ليبيا، وهي قوات الكرامة التي تكن العداء لحكومة الوفاق.
وأوضحت العديد من التقارير الأمنية، مشاركة جنود فرنسيين وطائرات فرنسية مقاتلة إلى جانب ميليشيات الكرامة التي يقودها حفتر في العديد من المعارك التي قادتها في ليبيا، من ذلك معركة طرابلس ودرنة ومعارك الجنوب.
تقدم فرنسا دعمًا قويًا لحفتر
هذا التدخل العسكري الفرنسي المتنامي في ليبيا من شأنه أن يزيد من تعقيد العملية السياسية في هذا البلد العربي الذي يشكو من فوضى السلاح والإرهاب وتجارة البشر، ولم يكن دعم فرنسا لحفتر عسكريًا فقط، بل دبلوماسيًا أيضًا، فدائمًا تصر السلطات الفرنسية على وجود حفتر، وهو الذي يفتقد لأي شرعية، في الاجتماعات التي تحتضنها باريس لبحث سبل إيجاد حل للأزمة الليبية المتواصلة منذ سنوات.
تسعى باريس من خلال الملف الليبي إلى العودة لشمال إفريقيا والإمساك بزمام الأمور هناك، كما أنها تأمل في الحصول على النصيب الأكبر من السوق الليبية وتأمين أسواق مستقبلية لإصلاح اقتصادها المعثر، فليبيا تحتوي على ثروات هائلة من النفط وتقدر احتياطاتها بنحو 46.6 مليار برميل، وهي الأكبر في القارة الإفريقية.
إيطاليا والبحث عن نفوذ مفقود
ضمن هذه الدول، نجد أيضًا إيطاليا التي ترى في ليبيا منطقة نفوذ لها، فجغرافيًا لا تفصل ليبيا عن إيطاليا إلا أمواج المتوسط، وتاريخيًا كانت ليبيا أهم المستعمرات الإيطالية في إفريقيا حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، ولم تنقطع الصلات بين البلدين حتى عندما كانت ليبيا في عزلة جراء العقوبات التي فرضت عليها عام 1992.
وتعتبر ليبيا بالنسبة إلى إيطاليا، مجالًا حيويًا خاصًا وأرضًا خصبة لا يجب أن يكثر حولها الطامعون، لذلك تسعى إلى عدم تهميش دورها في العملية السياسية في ليبيا والحفاظ على مصالحها النفطية وضمان إدارة عملية مكافحة تهريب اللاجئين.
وترى السلطات الإيطالية، أن الحل الرئيسي للأزمة الأمنية والاقتصادية في بلادهم يكمن في التوجه نحو الضفة الجنوبية للمتوسط، وضمان موطئ قدم في دول المنطقة هناك على رأسها ليبيا والاستفراد بالثروات الطبيعية هناك.
العيون على النفط
انطلاقًا مما قلنا في الأعلى، نرى أن حقول النفط تعتبر أحد أهم بؤر الصراع التي تتنازع عليها هذه القوى الإقليمية، ويعتبر النفط مصدر الدخل الأساسي للبلاد الذي مثل قبل اندلاع الثورة الليبية 95% من عائدات الصادرات الليبية.
تمثل منطقة الهلال النفطي – التي تضم عدة مدن بين بنغازي وسرت (سرت 500 كيلومتر شرق العاصمة، كما أنها تتوسط المسافة بين بنغازي وطرابلس) – المخزون الأكبر من النفط، وتعتبر موانئ السدرة ورأس لانوف والبريقة الأكبر في ليبيا، حيث تصدر منطقة الهلال النفطي بليبيا نحو 800 ألف برميل يوميًا من نحو 1.5 مليون برميل يوميًا في الأوقات الطبيعية.
تمتلك ليبيا مدخرات نفطية كبيرة
هذه الدول المتصارعة تعمل على الاستحواذ على النفط الليبي عبر عملائها هناك، تنتج ليبيا حاليًّا أكثر من 1.05 مليون برميل يوميًا من النفط، وتأمل في زيادة ذلك والعودة إلى مستويات ما قبل ثورة 2011، حيث كانت تنتج نحو 1.6 مليون برميل يوميًا، غير أن هذا الإنتاج غير مستقر ومرتبط بالحالة الأمنية، فقد تراجع في مرات عديدة إلى 200 ألف برميل وصعد قليلًا لاحقًا إلى ما بين 400 و600 ألف برميل يوميًا.
أهم ما يميز النفط الليبي، غزارة الآبار المستخرج منها وقربه من موانئ التصدير، وتفيد تقديرات نشرت عام 2010 أن الاحتياطات المؤكدة من النفط الخام في ليبيا تقدر بنحو 46.42 مليار برميل، أي نحو 3.94% من احتياطي العالم، و6.36% مما تنتجه المنظمة العربية المصدرة للبترول (أوابك)، و4.87% مما تنتجه أوبك (الدول المصدرة للنفط).
هذا الصراع المتواصل بين هذه القوى على مدخرات ليبيا وباقي الامتيازات المتوافر هناك، من شأنه التأثير سلبًا على البلاد والشعب، خاصة أن أغلب هذه القوى لا هم لها إلا النفط والتحكم في القرار السيادي للبلاد، بعيدًا عن مصالح الليبيين.