في الوقت الذي شارفت فيه تحضيرات مؤتمر برلين الخاص ببحث الحل في ليبيا على الانتهاء، قرّر اللواء المتقاعد، خليفة حفتر، الذي لا يعترف بالشرعية الدولية، التصعيد العسكري وإعلان ساعة الصفر لاقتحام العاصمة طرابلس التي تضم المقرات الرسمية للدولة ومقرات البعثات الدبلوماسية، بهدف تنفيذ أجندات حلفاءه، خاصةً بعد تأكيد تركيا على حماية ليبيا وإرسال قواتها العسكرية للقيام بذلك، في حال طلبت حكومة الوفاق ذلك.
المرة الرابعة
أعلن خليفة حفتر بدء ما وصفها بـ “عملية حاسمة” للتقدم نحو العاصمة الليبية طرابلس، حيث ظهر في كلمة متلفزة وهو يرتدي الزي العسكري، قائلًا: “دقت ساعة الصفر، ساعة الاقتحام الواسع الكاسح التي ينتظرها كل ليبي حر شريف، ويترقبها أهلنا في طرابلس منذ أن غزاها الإرهابيون واستوطنوا فيها بقوة السلاح”.
تعتبر هذه المرة الرابعة التي يعلن فيها حفتر بدء ساعة الحسم لاقتحام طرابلس منذ أبريل/نيسان الماضي. وقد كان حفتر شن حملة عسكرية واسعة في ذاك الشهر، بإيعاز من دول عربية على رأسها الإمارات ومصر، بهدف ما أسماه تحرير طرابلس من الجماعات الإرهابية.
إضافة إلى الدعم المصري، يحظى حفتر الآن بدعم كبير من قبل مئات من المرتزقة الروس، حيث ذكرت معلومات استخباراتية أن مجموعات مرتزقة روس تدعم قوات حفتر بالتدريبات
حينها ادعى حفتر قدرة ميليشياته السيطرة على طرابلس خلال 48 ساعة، إلا أنه فشل في ذلك طيلة 8 أشهر، رغم الدعم العسكري الكبير الذي يتلقاه من دول عديدة مثل مصر والإمارات وروسيا وفرنسا أيضا.
وقبل أيام قليلة، أعلنت الحكومة الليبية إفشالها مخططًا لقوات متعددة الجنسيات موالية لقوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر لدخول العاصمة طرابلس الجمعة الماضي. وقال المتحدث باسم قوات الحكومة الليبية محمد قنونو -في بيان- وصلتنا الأيام الماضية معلومات تفيد بأن القوات المتعددة الجنسيات تخطط الجمعة لدخول طرابلس. وأكد أن قواته تمكنت “من امتصاص الصدمة، واحتوت المسلحين في جيب صغير، قبل أن تشن هجومًا عكسيًا وتصعق الواهمين”.
ضوء أخضر مصري
أعلن حفتر التقدّم نحو طرابلس، رغم يقينه التام بفشله المؤكّد هناك، كما حصل في المرات السابقة، ولكنه جاء استجابة لأوامر مصرية في هذا الخصوص، حيث يتبيّن ذلك من خلال حديث الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، خلال منتدى أسوان للسلام والتنمية المستدامة في نسخته الأولى.
في أثناء هذا المنتدى، أكّد السيسي أمام قادة أفارقة، أن الصراع في ليبيا سينتهي خلال أشهر قليلة، واتفق مع توصيف اللواء المتقاعد خليفة حفتر لما يجري بليبيا بأنه صراع بين الأخيار الذين ينتمي إليهم حفتر والأشرار وهم حكومة الوفاق، وقال إن بلاده تحارب الإرهاب بليبيا نيابة عن العالم.
جاء تصريح السيسي بالتزامن مع نشر شعبة الإعلام الحربي التابعة لميليشيات حفتر فيديو لمن أسمتهم “قوة العمليات الخاصة باللواء 106 مجحفل”، إلى جانبهم مدرعات مصرية حديثة تظهر لأول مرة بحوزة قوات حفتر، من أجل السيطرة على طرابلس.
تعد المدرعات من طراز “Terrier LT-79” أحدث المشاريع المشتركة بين هيئة التصنيع المصرية وشركة “ذي آرمرد غروب” (THE ARMORED GROUP) الأميركية التي وصلت حديثًا إلى قوات حفتر في إطار الدعم المقدم من القاهرة إليها، من أجل إسقاط حكومة الوفاق المعترف بها دوليا.
عرضت مصر المدرعة “Terrier LT-79” ضمن فعاليات معرض الدفاع والتسليح إيديكس في ديسمبر/كانون الأول 2018 الذي أقيم في مركز المعارض بالقاهرة الجديدة في مصر. ويعتبر وصول هذا الدعم العسكري المصري لحفتر انتهاكًا جديدًا لقرار حظر التسليح المفروض على ليبيا من مجلس الأمن الدولي منذ عام 2011.
الدعم الروسي السخي
إضافة إلى الدعم المصري، يحظى حفتر الآن بدعم كبير من قبل مئات المرتزقة الروس، حيث ذكرت معلومات استخباراتية أن مجموعات مرتزقة روس تدعم قوات حفتر بالتدريبات، وتساعده في توطيد نفوذه العسكري عن طريق إمداده بقطع المدفعية والدبابات والطائرات دون طيار والذخيرة، وغيرها من أشكال الدعم اللوجستي.
إذ يستعين حفتر بهؤلاء المرتزقة الروس في إطلاق قذائف مدافع الهاوتزر، ما يعني أن مهامهم تجاوزت التخطيط والتدريب إلى المشاركة فعليًا في قصف العاصمة طرابلس، مقر الحكومة المعترف بها دوليًا بقذائف المدفعية، ومؤخرا ازداد استخدام حفتر للمدفعية في حربه على طرابلس.
أوضح وزير الخارجية والتعاون الدولي الليبي، محمد طاهر سيالة، -في حوار أجرته معه صحيفة لاريبوبليكا الإيطالية- أن التصعيد الجاري في ليبيا هو بسبب دعم المرتزقة الروس لخليفة حفتر في قصف طرابلس بشتى الوسائل، مشيرًا إلى أن هذا الأمر سيؤدي إلى وقوع ضحايا في صفوف المدنيين ومغادرة الآلاف من المهاجرين إلى السواحل الأوروبية.
مضاعفة الدعم المصري والروسي لحفتر ومنحه الضوء الأخضر لغزو طرابلس، من شأنه وضع حدّ لكلّ جهود السلام في البلاد، رغم تأكيد البلدين سعيهما إيجاد حل سياسي للأزمة
أردف سيالة حديثه قائلًا: “أنا أعيش في طرابلس ويعتقد الكثيرون أنه لا توجد إمكانية للسيطرة عليها، لكن الفوضى من الممكن أن تزيد من سوء الأحوال في المدينة، ولذلك فإن عامة الناس بالمدينة يتساءلون الآن: لماذا لا يقوم المجتمع الدولي الذي عمل على حماية المدنيين في عام 2011 بالشيء نفسه الآن؟”.
وبيّن سيالة أنه لا يمكن التعويل على ما يعلنه الروس بشأن دعمهم لمبادرات الأمم المتحدة، لأن المشكلة تكمن في المراوغة الروسية، فموسكو تعلن عن شيء وتقوم بأمر آخر مختلف تمامًا. يضاف إلى ذلك، ما ذكرته تقارير إعلامية مؤخرًا عن وصول آلاف المرتزقة الروس لمحاور القتال في ليبيا، دعمًا للواء المتقاعد في حربه ضد حكومة الوفاق المعترف بها دوليًا.
وضع حدّ لجهود السلام
مضاعفة الدعم المصري والروسي لحفتر ومنحه الضوء الأخضر لغزو طرابلس، من شأنه وضع حدّ لكلّ جهود السلام في البلاد، رغم تأكيد البلدين سعيهما لإيجاد حل سياسي للأزمة التي تعرفها ليبيا منذ سنوات عدّة والتي أدت إلى انقسام البلاد.
يأتي هذا الدعم السخي في وقت تستعدّ فيه برلين لاحتضان مؤتمر لبحث سبل حلّ الأزمة الليبية، وهو ما يعني أن مسار هذا المؤتمر لا يزال غير معبَّد، بعد تأجيله أكثر من مرة، ليصبح الموعد المفترض لعقده هو شهر يناير/ كانون الثاني المقبل.
من ناحية أخرى، يصرّ داعمو حفتر على العودة إلى محاولة الحسم العسكري، حتى يتمكنا من تنفيذ أجندتهم في هذا البلد الممزق والغني بالموارد الطبيعية، وتسعى تلك الدول إلى الاستحواذ على مدخرات البلاد الطبيعية وأيضا على عقود إعادة الأعمار. يكمن الهدف في هذا الإصرار على الحسم العسكري استباق أي تدخل تركي في ليبيا، فقد سبق وأن أبدى الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، استعداده لإرسال جنود أتراك إلى ليبيا إذا تلقى طلبًا من حكومة الوفاق الليبية برئاسة فايز السراج.
من الواضح أن ليبيا مقبلة على أيام صعبة، في ظلّ إصرار حفتر والدول الداعمة له على الحلّ العسكري بدل الحل السياسي للأزمة
ولا شك أن تلك الدول تخشى من تدخّل تركيا وإنقلاب موازين القوى لصالح حكومة الوفاق الشرعية، على اعتبار أن تركيا هي الدولة الوحيدة تقريبًا، التي تقدم دعمًا حقيقيًا للحكومة الشرعية المعترف بها دوليًا، وتجري تعهداتها معها بشكل علني وشفاف، خلافاً لسلوك دول محور الثورات المضادة التي تدعم حفتر.
وتعمل أنقرة بدورها على حماية ليبيا من خطر التقسيم و”العسكرة” الذي يسعى له حفتر بمساعدة دول عربية وغربية، لا هم لها إلا خراب هذا البلد العربي، للسيطرة على موارده الطبيعية والاستفادة من موقعه الجغرافي، ودائمًا ما يؤكد أردوغان أنه داعم أساسي لحكومة الوفاق التي يقودها فائز السراج، وأن بلاده ستسخر كل إمكاناتها لما يصفه بـ”منع المؤامرة عن ليبيا”.
ارتفاع عدد ضحايا هجوم حفتر على طرابلس
من جانبه، لم يستبعد المبعوث الخاص للأمم المتحدة لليبيا غسان سلامة -في حوار مع صحيفة الكورييري ديلا سيرا الإيطالية– على هامش مشاركته في مؤتمر حوارات المتوسط الملتئم في العاصمة الإيطالية روما “كبح الأعمال التحضيرية الجارية لتنظيم مؤتمر برلين الدولي حول الأزمة الليبية بسبب احتمال دخول مفاجئ لقوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر للعاصمة الليبية طرابلس”.
وحذر سلامة من أن عملية دخول حفتر لطرابلس ستؤدي إلى حمام دم ولحرب شوارع رهيبة مع احتمال وقوع مجازر لا توصف، ودمار في قلب المناطق الحضرية بالمدينة، مطالبًا بالتحرك بسرعة فائقة لفرض مسار السلام ووقف الحرب على الفور. كما أشار المبعوث الأممي بالقول “لسوء الحظ، أنا لا أستبعد أن تغيّر الحرب الدائرة في طرابلس الآن السيناريوهات المطروحة بسرعة كبيرة وأن تعمل على شلل جهود الأمم المتحدة الرامية للوصول إلى وقف لإطلاق النار في ليبيا”.
من الواضح أن ليبيا مقبلة على أيام صعبة، في ظلّ إصرار حفتر والدول الداعمة له على الحلّ العسكري بدلًا عن الحل السياسي للأزمة، ما من شأنه أن يزيد من خطورة الوضع في البلاد، ويفاقم حدّة المأساة التي يعاني منها الليبيين.