“يا حيف.. زخ رصاص على الناس العزّل يا حيف”، أغنية ألهبت حماسة السوريين مع أول صرخة حرية نطقوا بها، هذه المقطوعة الثورية التي غنّاها سميح شقير في بدايات الانتفاضة مارس/ آذار 2011 كانت تأسيسًا للفن الغنائي الثوري الذي رافق المتظاهرين والنشطاء والثوار في مختلف مراحل الثورة وتقلباتها، ولم تكن الأعمال الغنائية المرتبطة بالثورة والوطن ذات دور ثانوي، إنما كان لها محوريتها في دب الحماس وإشعال الأمل في زمن الخيبات المتكررة.
كانت الأغاني محركًا قويًا لعزم الشباب في المظاهرات، فكان لخروج الشهيد عبد الباسط الساروت هاتفًا ومغنيًا بين آلاف المتظاهرين بليغ الأثر في استمرارية الحراك، كما أن الأغنية الثورية ظلت مستمرة إلى الآن إلا أنها توسعت للشق العسكري والإنساني والإغاثي والتركيز على الثبات، ولامست بعض الأغاني الحالة الاجتماعية للبلاد، كما أن كثير من الأجسام أصدرت بعض الأغاني للدعوة للوحدة والترفع عن الخلافات فصارت منبرًا توجيهيًا بلون فني جميل.
ولما كان السوريون أهلًا للفن وإبداعه وكما كانوا يترنمون على القدود الحلبية والأغاني الشعبية، أصبحوا يترنمون بسماع أغنية ثورتهم وتمجيد الشعب والوطن وسرد المعاناة عبر المقطوعات المختلفة، وبدا جليًا تسخير الألوان الشعبية المختلفة في الغناء في خدمة الفن الثوري في كثير من المناطق والمدن، كما أصبح لكل منطقة أغنية ثورية تُشتهر بها وتذكر كفاحها ونضالها، وتخلد الإبداع الذي نبع من الشعب وثورته ويكتب ذاكرته بأصوات أبنائها. في هذا التقرير نذكر أبرز فناني الثورة وأغانيهم التي اشتهرت بين السوريين.
الأغنية الأولى
أهدى الشاعر والمطرب السوري سميح شقير أغنية “ياحيف” في بدايات الثورة السورية لشهداء مدينة درعا وأطفالها الذين كانوا أول من انتفض في وجه نظام الأسد، وعُرف عن شقير أغانيه الحماسية كـ “إن عشت فعش حرًا” و”سقط القناع”، فكانت أغانيه الثورية مقطوعات خالدة جالت كافة البلدان العربية وصارت لحنًا يُردد على الألسنة، وعن “ياحيف” يقول شقير: “المشاهد التي رأيناها في الأيام الأولى صدمتني، فخرجت معي يا حيف خلال ساعتين، بعد تدقيق بشكل كبير حول صحة ما يحدث، لأن الموضوع خطير جدًا”.
يضيف المطرب السوري: “أمسكت العود وخرجت الكلمات وخرج اللحن، وفي اليوم التالي مباشرةً قمت بتسجيلها ورفعها على موقع يوتيوب على الإنترنت.. لنستيقظ في اليوم التالي على أعداد مشاهدة خيالية للأغنية، وأيضًا التقطها الناس في الشوارع والساحات والمظاهرات وحتى المساجد.”
ولم يقتصرغناء شقير للثورة السورية فقط إنما تعدّاها ليغني للربيع العربي وموجاته بكافة مراحلها، إذ أنه غنّى لثورة السودان التي أطاحت بحكم عمر البشير، وأطلق أغنية جديدة، تحت اسم “الفرح السوداني وقال شقير على صفتحه في الفيسبوك “أغنيتي الجديدة المهداة إلى الشعب السوداني العظيم، مع كل الاعتزاز والحب”، مشيرًا إلى أن الأغنية من كلماته وألحانه وغنائه”.
سكابا يا دموع العين
مشى وصفى المعصراني المطرب الثوري السوري بمسار انتفاضة الشعب، ولم يغب عنه أي حدث من حوادث الثورة إلا وغنى له منذ بداية الحراك في درعا، يقول المعصراني “تملّكني الغضب عندما رأيت دماء أهل درعا تسيل ووجدت نفسي أؤلف وأغني درعانا تنادي، لأنفّس عن ألمي، خصوصاً وأنا أرى بعض السوريين يتابعون حياتهم في شكل عادي فيما تنتهك مدينة سورية أخرى”. ومن هنا بدأ المعصراني يسرد تاريخ الثورة بصوته وألحانه.
واشتهر المعصراني في سوريا بأغنيته “سكابا يا دموع العين سكابا على شهداء سورية وشبابا”، التي لازمت المظاهرات وملازمة للثوار حتى اليوم، والمعصراني لم يكن بعيدًا عن جراح أهله السوريين رغم أنه يعيش في التشيك منذ عام 2000، في الوقت الذي يغنّي فيه بعض الفنانين المقين بسوريا لمن قتل الشعب وأهانه، ويعتبر وصفي أن “المتظاهرين هم من صنعوه كمغنٍّ للثورة، فبعد نشر الأغنية الأولى راسلني الكثيرون منهم طالبين مني أن أستمر، نظراً إلى الفراغ الذي خلّفه وقوف غالبية الفنانين السوريين مع النظام”. أحيا المعصراني الكثير من الاحتفالات المناصرة للثورة السورية في الخارج في أوروبا وبعض البلدان العربية، وتُضاف أغانيه إلى الذاكرة الإبداعية للثورة السورية التي تخلد الحراك والانتفاضة، ومن أهم أغانيه “أصابع نصر”، “حلم الشهادة”، “شدو الهمة”.
يا سوريا لا تسجلينا غياب
في عام 2011 ومع اندلاع الثورة السورية كان المطرب السوري الصاعد خاطر ضوا مقيمًا في القاهرة بغرض الدراسة، إلا أن ضوا لم يتأخر باللحاق في ركب الثورة ولكن من مكانه، فسخّر حنجرته وإمكانياته للتعبير عن شوقه للعودة إلى بلده والمشاركة بالحراك الثوري وغنّى “يا سوريا لا تسجلينا غياب”، ويقول ضوا: “الشباب في الثورة عملوا معجزات في الداخل، فكان لا بد أن نساندهم ونكون صوت الذين لا يصل صوتهم إلى سوريا، وأن نعبر عن أحلامنا أيضاً في تغيير النظام؛ لأنه طالما نظام البلد عقائدي فهذا يعني أنه ليس هناك مساواة أو عدالة”.
وفي غمرة ما حصل في الثورة من خيبات وانتكاسات وعودة سيطرة النظام على الكثير من المفاصل يعتبر ضوا أن الأغنية أبقى من النظام ويوضح أنه “طالما أن هناك أغاني تصدر عن فنانين كل يوم فهذا انتصار للأغنية والثورة. وما دمنا قادرين على الغناء والعزف وطرح عناقيد الموسيقى، فهذا انتصارنا ليس على النظام السوري ومن يدعمه، بل على كل من يريد مسح سوريا شعباً وأرضاً من الخارطة.. سوريا أغنية عصية على السكوت”.
وكان ضوا قد أنتج ألبومه الغنائي الأول في عام 2014 بعنوان “نحنا طلوع الشمس” يضم تسعة أعمال غنائية تحاكي الثورة السورية، والحنين إلى دمشق، واشتهر ضوا أيضًا بأغنية “شو بيقربك حمزة” والتي استلهمها من الطفل حمزة الخطيب الذي قتله النظام السوري تحت التعذيب في معتقلاته.
وإن جيتك يمّا مستشهد زغردي
نشأت الكثير من الأغاني الثورية السورية نتيجة للإبداع الذي تفجر من رحم الثورة لتظهر مواهبٌ جديدة خلال المظاهرات التي أخذت طابعًا صوفيًا، فتصنع ممن يقود الهتافات مطربًا يصبح لصوته لحنًا ومعنىً وثورة كما كان الشهيد عبد الباسط الساروت الذي ألهب صوته الأنفس وأشعل الحماس وكتب بصوته الثورة في أسفار الخالدين، ويّكر أن الساروت لم يكن مطربًا أو مغنيًا إنما كان حارسًا في أحد فرق كرة القدم.
ولم يحتج الساروت للتكلف بأغانيه وأشعاره وهتافاته فكانت سهلة وبسيطة تعبّر عن الحالة وتحكي القصة بلهجته الصلبة فلم يحتج في كثير من الأحيان إلى مؤلف أو ملحن، فاستقى من الأغاني الشعبية والدارجة الكثير مما قال وصدح ولعلّ استشهاد الساروت أعاد لأغانيه حضورها ووجودها لتبقى تاريخًا يحكي السيرة ويروي السردية، حتى أنه في أحد أغانيه خاطب أمه بأنشودة تدعوها للصبر عن تلقيها خبر استشهاده.
ومن أبرز ما غنّاه الساروت هو أغنية “جنّة يا وطنّا” بعدما غيّر بعض مفرداتها وحمل أسماء مدن سورية، وهتف عبد الباسط لكل المدن وغنّى لكل الأحداث المختلفة التي عاصرها حتى أصبح صوته أيقونة، كما أنه في آخر أيام حياته لم يقف عند الثورة السورية فغنّى لمصر وحيّا ثورتي السودان والجزائر، “جتنا الجزاير ثايرة.. بها الحراير سايرة، الخرطوم صاحت حاضرة.. ونقوم إيد بإيد”.
أبو ماهر صالح وأحمد القسيم
من الغوطة الشرقية خرج “منشد الثورة” أبو ماهر صالح وغنى بكافة أحوال الثورة، ولكن غنائه تميز بلونه الخاص من المواويل والأهازيج والزجل، وعاصر صالح الثورة بكافة مراحلها كما أنه غنّى لكافة المناطق مما جعله يشتهر على المستوى السوري بشكل كبير، فيما شارك المنشد بأحد المسلسلات التي خرجت من الغوطة الشرقية أثناء حصارها، وكان دوره مغنيًا ومنشدًا.
ولاختلاف المواضيع التي يغني بها قال المنشد أبو ماهر صالح: “جسدت أحداث الثورة في سوريا بصوتي كأيام حصار الغوطة الشرقية واقتتال الفصائل وتصريحات عباس النوري ضد القائد صلاح الدين الأيوبي، واختفاء وسام الطير، وغيرها من الأحداث، لأقوم بتأليف أغانٍ من رحم الواقع السوري، وتندرج هذه الأعمال كشكل من أشكال الحراك السلمي الذي قام به الشباب السوري”، وأضاف صالح “لم نصل بعد إلى درجة الاحترافية في هذه الفنون الجديدة، بسبب قلة الدعم والتمويل وعدم وجود منظمات راعية لمجال الفن، إلا أن الأخير له جمهور واسع”.
واشتهر الصالح يوم تهجيره من الغوطة الشرقية باتجاه محافظة إدلب إذ أن وسائل إعلام النظام أثناء ركوبه في الباص تجمعت حوله لتأخذ منه تصريحًا حول التهجير ودعوته للبقاء في الغوطة تحت ظل قوات النظام، لكنه قال: “بس لقيت أنو سوريا للجميع مو لبيت الأسد أنا برجع”.
وفي الطريق ذاته ظهر المطرب الحوراني أحمد القسيم الذي غنّى ثورة درعا وأعطاها من صوته القوي، ونال القسيم شهرته على مستوى سوريا بعد أن كان معروفًا ضمن محافظة درعا من خلال إحيائه لحفلات الأعراس في حدود المدينة الصغيرة، وصار اسم القسيم يرتبط بالانتفاضة السورية بعد أغنية “عيني عليها”، وازداد تألق القسيم المغني الشعبي، بسبب موقفه المعارض للنظام السوري، كما أن أغاني القسيم رافقت كل جولات الجيش الحر ومعاركه ضد النظام وتشتهر أغانيه بالحماسة العالية وسردها لحكاية الثورة الأولى، فيما وضعت الأغنية الشعبية الثورية ثقلها بين الشعب لسهولتها وكونها ذات لون غنائي معروف ومستخدم في مناسبات مختلفة.
اشتهرت الثورة بفنونها المتعددة وليس آخرها الغناء والموسيقى التي استقت إبداعها من انعتاق الكلام وتفجر الإبداع، فكانت إلى جانب فنون عديدة أدواتٍ لتخليد التضحيات وسرد الحكايات، لكي لا تُطمس الثورة بالتقادم فتبقى هذه الأغاني كما بقيت أغاني الانتفاضة الفلسطينية تحفر في ذاكرتنا بطولات الانتفاضة وتضحياتها، ولتظل هذه الأغاني في المقام الأول تمجد الإنسان وحريته وتحكي واقعه ومأساته بعيدًا عن التطبيل بأغانٍ رخيصة للقائد وحاشيته.