لم يتوقع المشاركون في المسيرات التي لا يتجاوز عددها العشرات في التاسع عشر من ديسمبر 2018 بمدينة عطبرة السودانية، أن حراكهم سيكون الشعلة التي توقد شموس الثورة في البلاد بأكملها، وما أن تنقضي خمسة أشهر كاملة إلا ويسقط نظام عمر البشير بعد ثلاثة عقود كاملة من الانفراد بالحكم.
أمال عقدها المتظاهرون وطموحات داعبت خيال الثوار طيلة العام الماضي، آملين أن يكون حراكهم الذي كُلل بالاتفاق التاريخي بين المجلس العسكري، ممثلا عن الدولة، وقوى الحرية والتغيير ممثلة عن الثورة، أول الخيط نحو دولة مدنية ديمقراطية متطورة، قادرة على احتواء أبنائها على أسس العدالة والتنمية والمساواة.
وبعد عام كامل مضى على تلك الثورة التي تمثل علامة فارقة في مسيرة قطار الربيع العربي الذي انطلق عام 2011، بات السؤال الأكثر حضورًا على ألسنة الشارع السوداني: هل تحقق ما كنا نأمله؟ هل حققت الثورة أهدافها فعلا؟ هل التزمت حكومة عبدالله حمدوك التي خرجت من رحم الثورة بالوعود التي قطعتها على نفسها بداية ولايتها؟.. أسئلة نسعى في هذا التقرير الإجابة عنها في ضوء ما تحقق على أرض الواقع.
تظاهرات تصحيح المسار
منذ الخميس الماضي وحت اليوم خرج آلاف المتظاهرين السودانيين في عدد من الولايات؛ إحياءً للذكرى الأولى للثورة وللمطالبة بالعدالة والقصاص لشهداء الحراك الشعبي، حيث شهدت مدن الخرطوم، وأم درمان، وبحري، وبمدن الأبيض وعطبرة والدامر وشندي، وبورتسودان، ومدني، والدمازين، عشرات المسيرات، حاملين فيها الأعلام الوطنية، ورافعين صور الشهداء.
المتظاهرون كذلك رددوا عددًا من الهتافات التي تطالب الحكومة بالالتزام بمطالب الثورة التي تم الاتفاق عليها سابقًا، رافعين شعارات “ثوار أحرار.. حنكمل المشوار”، و”حرية.. سلام.. وعدالة.. والثورة خيار الشعب”، و”الدم قصاد (مقابل) الدم.. ما بنقبل الدية”، و”الشعب يريد.. قصاص الشهيد”.
وإحياء لواقعة “قطار الثورة” الذي كان أحد أبرز سمات الحراك الشعبي، تحرَّك قطار أخر يحمل نفس الإسم من الخرطوم إلى مدينة عطبرة ( التي انطلقت منها شرارة الاحتجاجات الأولى ) شمالي البلاد، بمشاركة واسعة من لجان المقاومة، وقيادات من تجمُّع المهنيين السودانيين، وقوى “إعلان الحرية والتغيير”، بالإضافة إلى الإعلاميين، ومنسوبي المنظمات الطوعية.
لم تجد الحكومة بد من التفكير في خيار رفع الدعم عن السلع والمنتجات والخدمات المقدمة، وهي الاستراتيجية التي تنتهجها معظم النظم التي تعاني من أزمات اقتصادية، غير أن هذا الإجراء ربما يضع الحكومة في مأزق
وفي الناحية الأخرى، أغلق الجيش السوداني كافة الطرق المؤدية إلى محيط القيادة العامة بالعاصمة ، قبيل بدء التظاهرات؛ فيما أقدم على وضع الحواجز الأسمنتية أمام مداخل القيادةمن جميع الجهات، في حين انتشرت قوات الأمن في شوارع الخرطوم.
المتحدث باسم الجيش عامر محمد الحسن في بيان له، قال إن إغلاق الطريق المؤدي إلى القيادة العامة يأتي في إطار “تدابير احترازية مفاجئة”، مضيفًا أن “الإغلاق يأتي لمعالجة تأكد نية البعض في التجمع على شارع الطابية، مما لا يتوافق مع رؤية القوات المسلحة بأن يبعد حرم القيادة العامة عن التجمعات ذات الصبغة السياسية والتي قد تؤدي لإحداث فوضى في هذه المنطقة العسكرية”
ماذا تحقق من أهداف الثورة؟
أربعة أشهر تقريبًا مرت على حكومة حمدوك الجديدة، العديد من الأسئلة تبدوا معلقة في فضاء المشهد السوداني حول مدى قدرة الحكومة الحالية على الاستمرار، وتدشين صيغ للاستقرار، خاصة وأنه وعلى مدار ما يزيد عن 120 يومًا لم ينجح حمدوك ورفاقه في تحسين الأوضاع المعيشية للمواطن العادي.
الفشل في تقديم أوراق اعتماد الحكومة للشارع رغم المحاولات الجادة التي تبذلها فتح الباب أمام العديد من السيناريوهات المقلقة التي ذهبت بالبعض إلى توقع حدوث انقلاب عسكري من الممكن أن يلوح في الأفق كما صرح بعض الساسة، وهو ما ألمح إليه ضمنيًا بيان الجيش بشأن دوافع إغلاق كافة الطرق المؤدية إلى القيادة العامة.
تحديات اقتصادية.. يتصدر الوضع الاقتصادي قائمة التحديات التي تواجه الحكومة الانتقالية منذ حلفها لليمين، إذ كان الوضع المعيشي المتردي أحد أبرز الأسباب وراء اشتعال الشارع احتجاجا على نظام البشير، حيث يعاني السودانيون من أحوال معيشية متدنية بصورة غير مسبوقة، فهناك قرابة ٤٦٪ من السكان يعانون الفقر، كما أن 13٪ من السكان (5.7مليون نسمة) يعانون من العجز عن الحصول على احتياجاتهم الغذائية
أما على مستوى البطالة فحدث ولا حرج، فقد زادت المعدلات بشكل كبير خلال الأونة الأخيرة، ويقدر صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ارتفاع البطالة في البلاد من 12% عام 2011 إلى 20% السنوات الأخيرة، بينما سجلت 27% عام 2018، ورغم جهود تقليل هذا الرقم غير أن النتائج لم تظهر بعض على أرض الواقع.
وفي السياق ذاته وتبلغ الديون السودانية (54) مليار دولار منها (85%) متأخرات، وتضم قائمة دائني السودان مؤسسات متعددة الأطراف بنسبة (15%)، ونادي باريس (37%) بجانب (36%) لأطراف أخرى، بجانب (14%) للقطاع الخاص، وطبقًا لبيانات البنك الدولي -في تقريره المشترك مع وزارة المالية السودانية- فإن المتأخرات المستحقة للمؤسسة الدولية للتنمية بلغت (700) مليون دولار، بينما بلغت المستحقات لصندوق النقد الدولي ملياري دولار، أما نسب الديون الخارجية بلغت (166%) من إجمالي الناتج المحلي مقارنة بالحد البالغ 36%.
سعى حمدوك خلال الأشهر الأربعة الماضية لإجراء بعض التعديلات من أجل تحسين الأوضاع منها مساعي إصلاح الخلل الهيكلي في النظام المصرفي، وهو أمر يتطلب تمويلًا نقديًّا سريعًا، لم تحصل الحكومة عليه بعدُ، وهو ما يجعل يدها مغلولة لمواجهة هذا التحدي الكبير، وذلك في ضوء عجزها عن الاستدانة من البنك الدولي لسد احتياجاتها العاجلة، والتي قدرها رئيس الوزراء بــ10 مليارات دولار، وذلك نظرًا لعدم إقدام الإدارة الأمريكية على رفع العقوبات الاقتصادية عن السودان.
لجنة إحياء ذكرى ثورة ديسمبر المجيدة
حتى ترى في البلاد .. من فرحة عيدا
لما القطار صفر وقف
بهرتني صورة عطبرةفي ذكرى إحياء ثورة ديسمبر المجيدة تنطلق مواكب “كل أجزائه لنا وطن” في يوم ١٩ ديسمبر إلى مدينة عطبرة،#عام_ثوره_ديسمبر_الاول pic.twitter.com/752SICu8m5
— تجمع المهنيين السودانيين (@AssociationSd) December 18, 2019
رفع الدعم.. الخيار المر.. أمام تلك التحديات لم تجد الحكومة بد من التفكير في خيار رفع الدعم عن السلع والمنتجات والخدمات المقدمة، وهي الاستراتيجية التي تنتهجها معظم النظم التي تعاني من أزمات اقتصادية، غير أن هذا الإجراء ربما يضع الحكومة في مأزق خشية استثارة الغضب الشعبي
وزير المالية إبراهيم البدوي كان قد أعلن قبل شهرين أن الموازنة ستمول من أصدقاء السودان، ملمحا إلى تأجيل قرار رفع الدعم، غير أن هذه الوعود يصعب المراهنة عليها بعد تسريبات من اجتماع الأصدقاء بالخرطوم هذا الشهر مفادها نصائح بعدم التعويل على هذا التمويل.
وطبقا لمصادر موثوقة في قوى الحرية والتغيير لـ “الجزيرة“، فإن الائتلاف الحاكم اتسعت الهوة بينه وبين حكومته بسبب اتجاه الأخيرة لرفع الدعم عن السلع والخدمات، ووفقا للمصادر ذاتها، فإن قوى التغيير رفضت تبني سياسة رفع الدعم خوفا من ردة الشارع وتآكل شعبية حكومة الثورة، واقترحت على الطاقم الاقتصادي للحكومة السيطرة على إنتاج الذهب ومكافحة الفساد.
حرص حمدوك مع أول كلمات له عقب حلفه لليمين كرئيس للحكومة على تولية ملف السلام أهمية استثنائية، مبديا جدية كبيرة في تعزيز الجهود لتحقيق إنجازات ملموسة في هذا الملف المثير للجدل
عضو اللجنة الاقتصادية في قوى إعلان الحرية والتغيير عصام علي حسين يعلق على هذا الأمر بقوله إن اللجنة رفضت محاولات الحكومة لرفع الدعم عن السلع في الموازنة، واعترضت أيضا على تعديل سعر الصرف خلال اجتماع عقد الخميس الماضي مع وزير المالية.
ويشير في حديثه إلى أن اجتماعا لاحقا يوم الأحد الماضي جمع رئيس الوزراء ووزير المالية ولجنة الموازنة دفعت فيه قوى التغيير بملاحظات جوهرية بشأن مشروع الموازنة تضمنت التأكيد على أهمية استمرار الدعم ورفض تعديل سعر الصرف، مؤكدًا أن موقف التحالف مبدئي باعتباره المعبر الحقيقي عن نبض الشارع ويحس بمعاناته وتطلعاته.
وفي المقابل ترى الخبيرة الاقتصادية سهام الشريف أن رفع الدعم الحكومي رغم أنه سيناريو صعب لكن لا بد منه لتعافي الاقتصاد، لأن الضرائب والجمارك ورغم ارتفاعها لا تمثل سوى 16% من الإيرادات، هذا فيما ذهب فيصل محمد صالح المتحدث باسم الحكومة إلى أن مجلس الوزراء شكل لجنة مصغرة للوصول إلى خيارات التدرج في رفع دعم البنزين والجازولين، كمحاولة للوصول إلى صيغ مقبولة لدى الجميع.
القصاص المفقود.. منذ الوهلة الأولى لسقوط نظام البشير احتلت مطالب القصاص العادل من قتلة الثوار قائمة المطالب المرفوعة على موائد المجلس العسكري ومن بعده الحكومة الانتقالية، فمع توالي الاحتجاج الأسبوعي في الخرطوم ومدن أخرى خلال الخمسة أشهر الأولى من الحراك ارتفع عدد القتلى إلى 85 حسب لجنة الأطباء المركزية.
لكن سرعان ما تغير المشهد بصورة جذرية يوم 3يونيو/حزيران الماضي حين فجع الجميع بواقعة فض اعتصام القيادة العامة بالقوة والذي تلا تنحية نظام البشير بنحو شهرين، حيث سقط حينها نحو 180 قتيلا بحسب منظمة “شهداء ديسمبر”، بينما قالت وزارة الصحة إن العدد 64، لكن حصيلة الضحايا النهائية غير معروفة لا سيما بعد إعلان العثور على عدد من الجثث لاحقا.
مقاطع الفيديو التي انتشرت على منصات التواصل الاجتماعي وثقت تورط عناصر تابعة لقوات الشرطة والدعم السريع في عملية الفض، وعليه وجهت أصابع الاتهام مباشرة إلى القادة العسكريين الذين كانوا السبب في عزل البشير، وهو ما يزيد الأمر تعقيدا، لاسيما وأن الكثير من المتورطين هم شركاء في سودان ما بعد البشير.
وأمام هذه المعضلة كان المخرج للتهدئة هو تشكيل لجنة للتحقيق، ورغم أنها لم تلق أي اعتراف شعبي أو سياسي، إلا أن ما أعلنت عنه من نتائج أثار احتجاجات واسعة بعدما خلصت إلى أن منفذي العملية -وبينهم ضباط برتب رفيعة- خالفوا التعليمات العليا، وأنهم وضعوا رهن الاحتجاز، دون تحريك لهذا الملف حتى اليوم.
ملف السلام.. حرص حمدوك مع أول كلمات له عقب حلفه لليمين كرئيس للحكومة على تولية ملف السلام أهمية استثنائية، مبديا جدية كبيرة في تعزيز الجهود لتحقيق إنجازات ملموسة في هذا الملف المثير للجدل، والذي يعود إلى عام ١٩٥٥ حين برزت أول حرب بالجنوب في مدينة توريت، وتسببت في حرب أهلية ممتدة حتى عام ١٩٧٢، حيث عقد اتفاق سلام أديس أبابا.
المشهد السوداني حيال هذا الملف يعاني من اختلاط الأوراق بصورة كبيرة، وذلك لأسباب عدة على رأسها طبيعة الأطراف المعنية بعملية السلام، وذلك لكثرة الانشقاقات في الحركات المسلحة من ناحية، وتعدد تحالفاتها ومواقفها السياسية من ناحية أخرى بحيث يجد المراقب من الخارج صعوبة في تحديد الأطراف وطبيعة ومواقفها، وهو ما يتطلب تعاملا استثنائيًا وفق أبجديات مختلفة.
ويمكن القول أن الحكومة نجحت في تقديم أوراق اعتمادها في هذا الملف، وذلك ابتداءً من خلال عدد من الخطوات التي مهدت الطريق نحو تفعيل المسار التفاوضي، عبر بناء الثقة بين الأطراف، ومنها إطلاق سراح كل المعتقلين أو المحكومين بأحكام سجن من عناصر الحركات الموقعة على الاتفاق المبدئي، وكذلك إلغاء قوائم الممنوعين من السفر، وفتح الممرات الآمنة للمساعدات الإنسانية لسكان المناطق التي تسيطر عليها الحركات المسلحة.
هذا بخلاف تأجيل تعيين ولاة الولايات في السودان في خطوة يمكن تفسيرها بأنها تعبد الطريق لقادة الحركات المسلحة؛ ربما لأن يكونوا ولاة على مناطقهم، كعودة مالك عقار مثلًا على رأس ولاية النيل الأزرق، وكذلك عبدالعزيز الحلو في ولاية جنوب كردفان، وهي التي تنافس على توليها انتخابيًّا عام ٢٠١١، مع أحمد هارون ممثل نظام البشير، ولكنه خسر هذه الانتخابات التي وصفت بالمزورة.
هناك ملفات أخرى من المبكر جدًا تقييم أداء الحكومة فيها على رأسها ملف العلاقات الخارجية
وتتويجا لتلك الجهود فقد وقّعت الحكومة السودانية مع “الجبهة الثورية”، قبل يومين، على اتفاق بشأن معالجة مشكلات مناطق وسط السودان، وهو الاتفاق الذي يعدّ الأول من نوعه بين الطرفين منذ بدء المفاوضات بجوبا في سبتمبر/أيلول الماضي، كما يعدّ أول توقيع للحكومة السودانية منذ تشكيلها في أغسطس/ آب الماضي.
علاوة على ذلك فإن هناك ملفات أخرى من المبكر جدًا تقييم أداء الحكومة فيها على رأسها ملف العلاقات الخارجية في ظل تعدد الأجندات الخارجية التي تسعى لتوظيف النظام الجديد لخدمة أهداف سياسية بعينها، وهو الملف الذي مثل إبان فترة البشير جدلا لدى الشارع السوداني الذي يطالب باستقلالية القرار السياسي لبلاده وعدم ارتهانه لسلطة المال والنفوذ السياسي هنا وهناك.
وفي المجمل.. وبعد مرور عام تقريبًا على الثورة و4 أشهر على الحكومة الانتقالية يبدوا أن حمدوك ورفاقه أمامهم مهمة شاقة لمواجهة التحديات العضال التي تواجهها، والتي هي في الأساس تركة البشير الثقيلة على مدار ثلاثة عقود كاملة، لكن يبقى السؤال: هل يتحمل الشارع هذا الوقت الذي تحتاجه الحكومة لتوفيق أوضاعها؟ وماذا لو أضطر حمدوك لطرق أبواب أخرى للمساعدة على التصدي لتلك العقبات؟.. هذا ما ستجيب عنه الأيام المقبلة.