لقد طغت مصالح النخبة الفلسطينية الحاليّة على المصالح الوطنية، فهم محاصرون بالفساد والتقليدية، وفشلوا في الموازنة بين متطلبات التنمية ومتطلبات التحرير بشكل لا يليق بحركات تحرر وطني ولا مؤسسات دولة، فما صورة النخبة في مخيال الجيل الفلسطيني الجديد؟
تسببت الظروف السياسية سريعة التحرك في فلسطين في تصعيد النخبة بشكل دائم، وكانت الفصائل بمختلف توجهاتها وبرامجها مخزن تفريخ النخبة الوحيد حتى مع النخبة الاقتصادية المعولمة ضمن علاقة المال بالسلطة أو السلطة بالمال، مما يعني تمامًا اعتبار القدم والانسجام أكثر مع قرارات الفصيل الضمان لتصعيد النخبة أو استمرارها في مكانها دون اعتبارات الحداثة أو المتغيرات العصرية، هنا يجب الإشارة إلى أن النخبة الفلسطينية تعرضت لعدة اهتزازات أهمها سيطرة الجيل القديم وإعادة هندستها مرات مختلفة من الاحتلال بتصفية جزء مهم منها.
لقد أفرزت الحالة الفلسطينية بعد تراكم تجاربها نخبة متكلّسة غير قادرة على الاستجابة للتطورات والمستجدات الخاصة بالقضية الفلسطينية بما فيها تطورات الأجيال، ومن الممكن أن نطلق عليها “النخبة المحنّطة”، وبسبب أمان المنصب نشأت “نخبة المصالح الخاصة” ذات الأجندة غير الوطنية التي تتبع لمشاريع إقليمية أو غربية، مع بقاء النوع الثالث للنخبة يراوح مكانه “النخبة الراديكالية الإيديولوجية” التي تقع في طغيان الإيديولوجيا على حساب الوطنية.
في الأنواع الثلاث للنخبة الفلسطينية الحاليّة يتعثر الجيل الجديد عبر فجوة بدأت تتسع هوتها نتيجة عامل الزمن (عمر النخبة الفلسطينية الحاليّة)، أو نتيجة فارق أدوات العصر الجديدة، فما زالت النخبة تقاتل بأدوات وساحات معارك تقليدية بعيدة عن توجهات الجيل الجديد التي لم تحضر سردية الصراع مع الاحتلال منذ البداية.
إن أهم ما يواجه النخبة الفلسطينية الحاليّة هو عامل الزمن، فغالبية الأفراد في مراكز صناعة القرار في النخبة السياسية أعمارهم بين 60-70، وعدد منهم مركزي أعمارهم بين 70-90، وهو ما أفقدها الحداثة في أدوات القتال والسياسة، وأخطر ما يواجه النخبة الفلسطينية الحاليّة هو غياب المشروع الوطني الجامع والولاءات الخارجية عبر تقديم المصالح الشخصية على الوطنية.
فيما يتعلق بالسيطرة داخل الفصائل التي تتحكم بها النخبة الحاليّة بأنواعها الثلاث “غير الوطنية والمصالحية والراديكالية” فهي غير متاحة اليوم بالنسبة للتنظيمات والنخب الحاليّة
جيل واعٍ وبراغماتي أكثر من النخبة الفلسطينية
لقد حسم الجيل الجديد أمره أن يكون براغماتيًا من حيث الوسائل في تفاعله مع الأحداث دون أن يغلق عينه عن الحقائق، وإستراتيجيًا من حيث مبادئه، لكن أدوات التصعيد – وهنا التصعيد بمعنى الترقية في النخبة والسيطرة – اختلفت تمامًا، لكن قيادات الفصائل تعتمد الأسلوب القديم في التصعيد خوفًا على إرث نخبتها التاريخي دون النظر لميادين القتال الجديدة التي تلزمها بإدخال الجيل الجديد فورًا، ويجب الإشارة هنا أن وسائل التّلقي والتطويع التي كانت تعتمدها الفصائل مع الأجيال القديمة انتهت تمامًا، ليصبح لدى الجيل الجديد القدرة على تطوير مهاراته الذاتية التي تحوله إلى نخبة دون المرور بالآليات التقليدية القديمة التي تتبعها الفصائل الفلسطينية.
فيما يتعلق بالسيطرة داخل الفصائل التي تتحكم بها النخبة الحاليّة بأنواعها الثلاث “غير الوطنية والمصالحية والراديكالية” فهي غير متاحة اليوم بالنسبة للتنظيمات والنخب الحاليّة، لأن مصادر التلقي والتوجيه والمعرفة أصبحت خارج القنوات التقليدية التي كانت متاحة وتحتكر خلالها النخبة قنوات إيصال المعلومة والتوجيه، لأنه لم يعد لديها وسائل السيطرة على الجيل الجديد أو الصاعد خلال السنوات الأخيرة.
وعن مصادر التلقي للجيل الجديد تعددت اليوم مع عصر العولمة وجعلته قادرًا على كشف وتقييم النخبة، ممتلكًا أدوات نقدها وتقويضها لو أراد الدخول في صراع معها، لذلك تقلصت مساحة النخبة التقليدية، بما تجعله يلقي اللوم تمامًا على النخب الحاليّة في حالة الانقسام الحاصل الذي تستفيد منه جهات مختلفة من النخبة.
من أهم الأولويات لديمومة فعالية القضية هو الاستثمار في النخب الشبابية الصاعدة أو المتوقع صعودها خلال العشر سنوات القادمة
الجيل الجديد يكشف غطاء النخبة الفلسطينية
إن حالة السرية التي شابت نخبة التنظيمات مثل حماس والجهاد أضفت شرعية وهمية لاستمرارها في مناصبها إلى الآن، لكن انكشاف الغطاء جاء نتيجة التدافع المباشر أو الانغماس في العمل الحكومي واليومي والمبادرات غير المحدثة، فجميع هذه العوامل أدت لمكاشفة السرية الحاصلة إلى نقد واضح من الجيل الجديد تجاهها، وأحدث مقارنات متتالية بين النخبة على مستوى تصرفها السياسي أو تصريحاتها المتكررة التي تشبه “الشبلونة” أو خطابها الديني التقليدي في تبرير الأخطاء أو حتى في حياة النخبة ببعدها السوسيولجي، مما أدى لقصر شرعيتها وتعطيلها والمطالبة بالإحلال.
الفشل الذي وصلت له النخبة الفلسطينية بكل أشكالها كُشِف من خلال أعراض مرضية أصابت الفلسطينيين – تحديدًا الجيل الجديد – مثل البطالة والركود الاقتصادي والفساد وتدهور السياسات، ثم الهجرة وفقدان الجيل تطلعاته الاجتماعية وتهديد النسيج الاجتماعي، وكله بسبب “تكلُّس النخبة الفلسطينية الحاليّة”.
توجهات محمودة لفعالية جديدة للنخبة
فلسطينيًا إن من أهم الأولويات لديمومة فعالية القضية هو الاستثمار في النخب الشبابية الصاعدة أو المتوقع صعودها خلال العشر سنوات القادمة، ثمّ خلق عناصر استقطاب جديدة تعتمد على أدوات حداثية أهمها المعرفة والعمل المؤسساتي وتوظيف الطاقات الشبابية الصاعدة في احتضان المبادرات التنموية.
هذه ساحة جديدة للفصائل لتحجز حيزًا جديدًا من النخبة الصاعدة أو لتشكيل جدار حماية حول الجيل الفلسطيني الجديد كي لا يصبح خارج المشاريع الوطنية، وبصريح العبارة يمكن القول إن “حصة المشاريع الغربية أو الإقليمية في النخبة الفلسطينية المتصاعدة أكبر من حصة الفلسطينيين أنفسهم”.
ولنتجاوز الفشل الذريع بين النخب التقليدية والجيل الجديد نتيجة انقطاع الحوار بينهما أو أزمة الثقة، يجب توليد شخصيات من الجيل الجديد بعد تنازل جزء من النخبة التقليدية عن مواقعها لتسمح للجيل الثاني والثالث في التنظيمات والفصائل أو الجهات الفاعلة أو المؤسسات، وعلى النخبة التقليدية لا مفر أن تدفع ثمنًا سياسيًا من نفوذها لتنقذ وجودها المؤقت.
إن قدرة الفلسطينيين أنفسهم متمثلًا بالنخبة وصناع القرار على خلق مؤسسات وسيطة بين النخبة والجيل الجديد يعد خطوة مهمة لإبقاء فعالية القضية الفلسطينية، فالجيل الجديد ليس غبيًا أو ناقمًا بدوافع ثأرية، بل يملك عوامل منطقية ومقبولة ووجيهة من انعدام الثقة بالنخبة التقليدية، ولديه القدرة أيضًا على معرفة الجيد من السيئ في النخبة التقليدية، أو من عليه ترك موقعه باتجاه الحذف من المشهد تمامًا لإبقاء الحوار بين النخبة الصاعدة والتقليدية فاعلًا.