حالة من الاستنكار والتنديد خيمت على منصات التواصل الاجتماعي والشارع المصري عامة عقب تداول صور لـ”حفل توزيع البطاطين” برعاية الأمانة العامة لحزب “مستقبل وطن” بمنطقة المنزلة بالدقهلية (شمال القاهرة)، فيما اعتبره البعض متاجرة بأوجاع الفقراء وبحثًا عن الدعاية الإعلامية والسياسية على جسد المنهكين من أبناء الشعب المصري.
الصورة أظهرت نساء منكسات الرؤوس، منحنيات الظهر، لا يرغبن في التصوير كما تُظهر الصورة، بينما القاعة تضج بالحضور من أعضاء مستقبل وطن، وسط لافتة كبيرة مكتوب عليها اسم الحزب وطبيعة المناسبة، حفل توزيع البطاطين، في مشهد أثار موجة غضب عارمة وضعت العديد من التساؤلات عن هذا الكيان المولود حديثًا.
الكثير من علامات الاستفهام فرضت نفسها عن هوية هذا الحزب الذي تحول مع مرور الوقت إلى “حزب الرئيس” ومصادر تمويله خاصة أنه في غضون 5 سنوات فقط منذ تدشينه في 2015 بات الحزب رقم واحد في مصر متخطيًا بذلك أحزاب لها تاريخ طويل على رأسها حزب الوفد.
تكهنات متباينة بشأن الدور الذي يقوم به هذا الكيان الوليد الذي استطاع في وقت قصير أن يلملم شتات الحزب الوطني المنحل، ليبقي على كوادره وقياداته الأساسية، الأمر الذي رجح الشكوك بشأن دعمه من إحدى الجهات السيادية ليكون ظهيرًا سياسيًا للنظام الحاليّ وهو ما تفسره قفزاته السريعة للسيطرة على أغلبية مجلس النواب “البرلمان” وتهيئة الآلاف من أعضائه لغزو المحليات وإحكام السيطرة عليها.
من شعار انتخابي إلى حزب سياسي
“الرئيس عبد الفتاح السيسي.. نرى فيك مستقبل وطن”، كان هذا شعار مجموعة من الشباب في الذكرى الثالثة لثورة يناير، بقيادة محمد بدران الملقب بـ”الفتى المدلل للسيسي” الذي اصطحبه معه على يخت المحروسة في أثناء افتتاح قناة السويس الجديدة في أغسطس 2015.
الشعار الذي تحول إلى حملة أثار إعجاب الحكومة المصرية آنذاك، حتى إن رئيس الوزراء وقتها، إبراهيم محلب، أرسل خطابًا رسميًا لمنسق الحملة “الفتى المدلل” يثني عليهم لما وصفه بـ”أهدافهم الوطنية الصادقة”، وما هي إلا أشهر معدودة حتى تحول الشعار من حملة إلى حزب سياسي.
وعلى عكس عادة الأحزاب الناشئة التي تبدأ صغيرة ثم تكبر، كان الوضع مع مستقبل وطن مختلفًا تمامًا، فالكيان الوليد بدأ كبيرًا منذ الوهلة الأولى، حيث اتخذ من فيلا فاخرة بحي مصر الجديدة مقرًا رئيسًا له ثم انتقل بعد 4 سنوات إلى فيلا أخرى بالتجمع، هذا بخلاف مئات المقار الفخمة في معظم المحافظات، حتى وصل إلى النجوع والأقاليم.
نجح الحزب أن يستقطب إليه أكثر من من 75 نائبًا منهم 50 نائبًا من حزب المصريين الأحرار فقط، فضلًا عن انضمام أعضاء بحزب الوفد إليه، ليصبح حزب الأغلبية في البرلمان
لم يأخذ الحزب وقتًا طويلًا ليفرض نفسه على الساحة، فصورة بدران بجوار السيسي على يخت المحروسة كانت مؤشرًا واضحًا أن لهذا الكيان خصوصية مختلفة، مقارنة بغيره من الأحزاب الكرتونية التي فقدت حضورها الميداني، بعد أن تحولت إلى جدران خاوية من الخطط والأجساد في آن واحد.
وكما جاء بدران بصورة مفاجئة غادر أيضًا بنفس الصورة، فلم يمر عامان على تدشين الحزب حتى استقال بصورة غامضة، أثارت الكثير من التساؤلات وقتها، مبررًا ذلك للتفرغ لاستكمال دراسته في أمريكا، لتطوى صفحته إلى الأبد، وكأن دوره الذي جاء من أجله انتهى ليتسلم شخص آخر الراية، وقد وقع الاختيار على أشرف رشاد القادم من محافظة قنا في صعيد مصر ليصبح في أقل من عامين زعيم الأغلبية البرلمانية.
الأغلبية البرلمانية
بعد أشهر قليلة من تدشينه قرر الحزب خوض الانتخابات البرلمانية 2015، حينها لقب نفسه بـ”الحصان الأسود” مراهنًا على حصده العديد من المقاعد تحت قبة البرلمان، وهو الرهان الذي استقبله الكثيرون بشيء من السخرية، فكيف لحزب لا يتجاوز ميلاده أيامًا قليلة يحقق ما يراهن عليه.
لكنها كانت المفاجأة، حيث دفع بنحو 100 مرشح على المقاعد الفردية و9 مرشحين ضمن قائمة “في حب مصر” التي كان يترأسها اللواء سامح سيف اليزل التي قال عنها سياسيون إنها كانت بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية، ليحصد 57 مقعدًا ، ويصبح في المرتبة الثانية بعد حزب المصريين الأحرار.
لم يتوقف طموح الحزب عند هذا الحاجز، بل سعى للهيمنة على الأغلبية البرلمانية، مستغلًا دعم القيادة السياسية له، ليحتل المساحة الأكبر من الظهور الإعلامي، وهو ما ساعد في التمهيد له شعبيًا، ومن ثم بدأ في استقطاب عدد من نواب وأعضاء بأحزاب أخرى ما تسبب في حالة من الانقسام داخل هذه الأحزاب.
وبعد جهود ومحاولات حثيثة استطاع أن يستقطب إليه أكثر من من 75 نائبًا منهم 50 نائبًا من حزب المصريين الأحرار فقط، فضلًا عن انضمام أعضاء بحزب الوفد إليه، ليصبح حزب الأغلبية في البرلمان، فارضًا كلمته ومهيمنًا على صناعة القرار التشريعي تحت القبة.
مصادر التمويل
السؤال الأكثر إلحاحًا على ألسنة المتابعين: ما مصادر تمويل الحزب؟ خاصة أنه ينفق ببذخ شديد، سواء على مقاره أم مؤتمراته التي تتحول إلى ساحات لتوزيع الهدايا والأموال على الحضور، حتى وصل الأمر إلى تحديد قيمة نقدية لمن يشارك في تلك الفعاليات.
المتابع لمؤتمرات الحزب جيدًا يجد أن هناك أمورًا غير مفهومة ومستغربة على الساحة السياسية المصرية، فتقريبًا هو الحزب الوحيد القادر على تنظيم عشرات الفعاليات في نفس الوقت، وهو تحرك لا يمكن أن يكون إلا لكيان يمتلك خزانة مفتوحة على مصراعيها ورصيدًا يغطي دون سقف.
ومع تزايد الشكوك عن مصادر التمويل الضخم لهذا الكيان، كشف رئيسه السابق، الفتى المدلل، أن تمويله من بعض رجال الأعمال وفي مقدمتهم أحمد أبو هشيمة وهاني أبوريدة وفرج عامر رئيس مجلس إدارة مجموعة شركات فرج الله، وعضو مجلس النواب.
حين قررت مطابع الأهرام وقف العدد الأسبوعي لصحيفة الصباح بسبب مقال ينتقد رئيس الحزب “بدران” بعنوان “كيف تصبح طفلًا للرئيس في 9 خطوات؟”، هنا استقر في يقين الكثير أن الحزب هو صنع الدولة
نجح الحزب في الحصول على خدمات رجال الأعمال في المحافظات في مقابل مكاسب سياسية من المرجح أن يحصلوا عليها، إما بالوصول إلى كرسي البرلمان أو تسهيلات اقتصادية عبر مشروعات يتم تمريرها من مكاتب المسؤولين الذين يعون جيدًا نفوذ الحزب والداعمين له.
وعليه لم يدخر رجال الأعمال جهدًا في الإنفاق على فعاليات الحزب لتصدير صورة للجميع بأنه الأكثر نفوذًا وحضورًا وهيمنة على الشارع السياسي والمجتمعي، حتى بات التنافس في الإنفاق فرضًا عليهم، يتعرض من يخالفه لهجوم ربما يكلفه الكثير، وهو ما يتجبنه رجال الأعمال المستفيدين من التقوقع تحت عباءة حزب السلطة، كما أطلق عليه.
حزب السيسي
منذ اللحظات الأولى لتدشين الحزب وفرض رئيسه الشاب على شاشات الفضائيات ومواقع الصحف ساور الشارع احتمالات أن يكون هذا الكيان صنع خصيصًا بدعم من السيسي، وهي الاحتمالات التي طالما سعى أنصار الحزب لتفنيدها مرارًا، حتى الرئيس نفسه نفى أن يكون هناك أحزاب باسمه.
لكن يبدو أن تلك التبريرات لم تقنع الكثيرين، تعمق هذا الإحساس، حين قررت مطابع الأهرام وقف العدد الأسبوعي لصحيفة الصباح بسبب مقال ينتقد رئيس الحزب “بدران” بعنوان “كيف تصبح طفلًا للرئيس في 9 خطوات؟”، وهنا استقر في يقين الكثير أن الحزب هو صنع الدولة.
الظهور المفاجئ للحزب على الساحة السياسية والبرلمانية والانتشار الكثيف الذي حققه، دفع بعض السياسيين إلى الذهاب إلى أنه خليفة للحزب الوطني المنحل
الكثير من الشواهد اللاحقة كشفت ترجيح هذا الرأي، إذ لم تمر مناسبة سياسية إلا وكان الحزب حاضرًا بقوة لدعم السيسي ومناهضة خصومه، تكشف ذلك في انتخابات الرئاسة 2018 وبعدها الاستفتاء على الدستور وغيرها من الفعاليات التي شحذ الحزب مصادر قوته كافة لدعم الرئيس.
ويكفي عدد قليل من المشاهد للوصول إلى تلك النتيجة، فالسيارات المحملة بمكبرات الصوت والمؤتمرات التي جابت شوارع مصر، شمالها وجنوبها، شرقها وغربها، إبان التصويت على التعديلات الدستورية في أبريل 2019، للعزف على وتر قيمة التعديلات الدستورية في رسم مستقبل البلاد، ودور السيسي في النهوض بها، وحده دون غيره، لا تحتاج إلى مبررات للوصول إلى هوية الحزب.
خليفة الحزب الوطني
الظهور المفاجئ للحزب على الساحة السياسية والبرلمانية والانتشار الكثيف الذي حققه، دفع بعض السياسيين إلى الذهاب إلى أنه خليفة للحزب الوطني المنحل، إذ رجحوا أنه سيكون البدل لـ”الوطني” في الوقت الحاليّ من حيث السيطرة واحتكار المشهد السياسي وموالاة السلطة.
فالحزب خلال أربع سنوات فقط تمكن من أن يكون له عشرات الأمانات المركزية في 27 محافظة على مستوى الجمهورية، ويضم عضوية أكثر من 300 ألف شاب بحسب تصريحات قياداته، بجانب سيطرته على المشهد السياسي في معظم الأقاليم عبر مندوبيه هناك الذين فاقت سلطة بعضهم سلطة المسؤولين التنفيذين.
ويعتمد الكيان على قواعد الحزب الوطني القديمة لا سيما في المحافظات، فتجد أن الغالبية العظمى من رؤساء الأمانات المحلية هم في الأصل أعضاء حزب وطني سابقين، بعضهم رموز لها ثقلها المالي والمجتمعي، وهذا ما يفسر القفزات السريعة للحزب ميدانيًا وبين الناس.
لم تكن صورة حفل توزيع البطاطين، المثيرة للغضب، الوحيدة بالنسبة للحزب الذي اعتاد المتاجرة بأوجاع الفقراء واستغلال حاجاتهم وفقرهم
ومنذ 2015 وحتى اليوم، يسير الحزب على خطى الوطني المنحل، فقبيل الاستفتاء على التعديلات الدستورية، كان أعضاء الحزب دون غيرهم من الأحزاب الأخرى، يجمعون صور بطاقات الموظفين بالمؤسسات الحكومية والمدارس والمستشفيات ودور الحضانة والمجالس المحلية والشعبية وإدارات المدن ومصالح الكهرباء والمياه والتموين ومن المحال التجارية والورش والمصانع، بدعم الأمن الوطني، والحشد للتصويت مع وعود بدفع أموال لأصحاب البطاقات.
وكما كان حزب مبارك يهيمن على المحليات، فإن مستقبل وطن يخطط لنفس الهيمنة تقريبًا وإن كان بصورة أعمق، حيث بدأ في تجهيز جيل من القيادات الشابة المدربة تحت أعين وأذن الأجهزة السيادية لخوض معركة المحليات القادمة التي يتوقع البعض أنها محسومة قبل أن تبدأ، وبذلك يسيطر الحزب على البرلمان والأجهزة التنفيذية والمحليات، وهو ما كان عليه الحزب الوطني.
المتاجرة بأوجاع الفقراء
لم تكن صورة حفل توزيع البطاطين، المثيرة للغضب، الوحيدة بالنسبة للحزب الذي اعتاد المتاجرة بأوجاع الفقراء واستغلال حاجاتهم وفقرهم لتحقيق إما الشو الإعلامي لنفسه أو ابتزازهم سياسيًا، سواء بالحضور والمشاركة أم تأييد القرارات التي يتخذها النظام.
شايفين الانكسار علي وشوش الغلابة وكسرة نفسهم حتى بطاطين الغلابة بقى لها حفل توزيع وفشخرة منكم لله..?
يااااه على كسرة النفس اللي على وش الناس الغلابة والله كل من شارك في هذه الصورة عاااار على الوطن
مستقبل وطن… https://t.co/4vbc1dejhe— Tarek Elwy (@MrTarekElwy) January 12, 2020
ففي الانتخابات الرئاسية الماضية في 2018 كثف الحزب من هذه الممارسات التي وصفها البعض بأنها تندرج تحت مسمى “رشاوى سياسية”، وقد أطلق نشطاء على الحزب وقتها “حزب أبو كرتونة” في إشارة إلى الكراتين التي كان يوزعها على المحتاجين والبسطاء من أجل حثهم على المشاركة والتصويت للسيسي.
الأمر تكرر كثيرًا، حتى في غير المناسبات الانتخابية، حيث عكف الحزب على افتتاح عيادات للعلاج وتوزيع هدايا ومنح، عينية ومادية، على بعض الفئات، لا سيما المرأة، وكان يتخلل مثل هذه التحركات ندوات ولقاءات للتعريف بالحزب وسياساته وضرورة دعم توجهات القيادة السياسية بوصفها الحصن الحصين لمستقبل أفضل، وذلك بحسب شهود، الأمر الذي أفقد تلك الأعمال خيريتها ويأخذها إلى مناحٍ أخرى.
حزب مستقبل وطن بيوزع بطاطين ع الغلابة ويكسر عنيهم أدام الكاميرات والتلفزيون? !!
حفل توزيع قلة القيمة ?
عزيزي الغلبان الفقير?
انت مضطر ان تذهب لتأخذ اقل حق من حقوقك لكن بشكل مهين لانك في وطن باعك #ارحل#ارحل_ياسيسي pic.twitter.com/rdzfQlFnRi— سمر (@samrr2323) January 12, 2020
وفي الوقت الذي كانت تتصاعد فيه المناشدات لإبعاد هذه الجهود الخيرية عن الإعلام حفاظًا على كرامة المستفيدين، كان الحزب على موقفه الثابت بضرورة تصوير تلك الجهود وبثها على الملأ وتجييش عشرات المواقع الخبرية لنشرها، وهو ما أدى فيما بعد إلى استنكار وغضب شعبي جراء هذا النوع من المتاجرة بالفقراء وابتزازهم سياسيًا.
يبدو أن “مستقبل وطن” حصل على الضوء الأخضر ليفعل ما يشاء، وهو ما يجسده موقف رئيس الحزب الذي برر فضيحة “البطاطين” متهمًا جماعة الإخوان المسلمين بالوقوف وراء هذه الحملة، “لتشويه ما يبذله كيانه من جهود لخدمة الوطن” على حد قوله، هذا في الوقت الذي أصر فيه على دعم القائمين على هذه الواقعة وحثهم على المواصلة.