مرّ العالم في السنوات العشرة الأخيرة بكثير من الصراعات والحروب والنزاعات، ونتيجةً لها تغيرت التحالفات وانقلبت الموازين واختلفت قواعد اللعبة الدولية القائمة على المصالح والمنفعة لكل دولة من الدول، إلا أن جل الصراعات وقعت في الشرق الأوسط، المنطقة التي دخلت تكوينًا جديدًا ومرحلة خطيرة وحربًا لم تتوقف ولا يلوح بالأفق أنها ستخمد.
ولأن المنطقة غنية بالموارد وذات بُعد جغرافي يخولها وصل العالم ببعضه، كان لزامًا على اللاعبين الدوليين والإقليميين الدخول بصراعات دول المنطقة من باب “المساعدة في الحل”، ونتحدث هنا عن الدول القوية والدول التي تريد تمد نفوذها، ولعل أبرز الفاعلين الجدد هما روسيا وتركيا بعد سنوات من الغياب وذلك إما لضعف الوصول أو للتفرغ لمشاكل بلديهما، فوجد البلدان الحروب في المنطقة بوابة نفوذ للدخول إليها من أوسع أبوابها.
لم يتفق البلدان على الدخول معًا في الصراعات المشتعلة، لكن الأوقات والأحداث فرضت نفسها على ساحتيهما، ولكن كان لكل بلد منهما مسوغه ومبرره للدخول إلى المنطقة، فتلاقت القوتان في العديد من القضايا، الأمر الذي خولهما أن تكونا الحاضر الأكبر في بعض البلدان والمناطق لرسم خريطة جديدة للاعبين جُدد بعيدًا عن دول كثيرة وقوى متعددة، إلا أن التوافقات التي تلاقت بها موسكو وأنقرة يقابلها اختلافات جوهرية في كثير من الأمور اقتصاديًا وسياسيًا وحتى عسكريًا.
وليس بعيدًا عن ذلك ما جرى بينهما في سوريا بعيدًا عن إرادة القوى المرتبطة بالبلدين على الأرض وسنفصل ذلك أكثر في هذا التقرير، ولعل آخر ما دخل به البلدان من اتفاقيات بالوكالة هو ما يحصل في ليبيا من حربٍ بين الحكومة المعترف بها دوليًا وجيش الضابط المتقاعد خليفة حفتر، ومما يخول روسيا وتركيا خوض الاتفاقيات في بعض البلدان كسوريا وليبيا وجود قواتهما العسكرية على الأرض في البلدين، ولا يقتصر الأمر على ما ضربناه من أمثلةٍ في سوريا وليبيا إنما برز الدور التركي الروسي في العديد من القضايا منها ما فشل إنجازه ومنها ما نجح وهو في الغالب الشق الاقتصادي بينهما، في هذا التقرير نسلط الضوء على أبرز القضايا التي اتفق واختلف عليها الروس والأتراك، في السنوات الأخيرة، في ظل المتغيرات المتلاحقة على الساحة الدولية.
سوريا.. خلاف واتفاق
كانت القضية السورية من أبرز القضايا العالقة دومًا بين أنقرة وموسكو، فوقوف تركيا إلى جانب المعارضة ضد نظام بشار الأسد لا يروق لموسكو -حليفة الأسد- أبدًا، كما أن المواقف الروسية وقصفها المدن السورية طالما لقي تنديدًا تركيًا، إلا أن استمرارية الأزمة وصعوبة الحل بها جعل البلدان يلتقيان عند بعض النقاط المشتركة والمصالح المتقاطعة.
حضرت سوريا بقوة على الطاولة الروسية التركية وكانت النقلة النوعية في العلاقة بين البلدين من أجل الحل في سوريا عقب إسقاط تركيا للمقاتلة الروسية، حيث ذكرت وزارة الدفاع الروسية في نوفمبر 2015 أن طائرة حربية من طراز سوخوي 24 تحطمت في سوريا جراء إصابتها بصاروخ أُطلق من الأرض، وأن الطيارين تمكنا من مغادرة الطائرة، حينها ردت تركيا أن “طائرات تركية من طراز إف -16 أسقطت الطائرة، بعد تحذير طياريها مرات عدة بأنهما ينتهكان المجال الجوي التركي، إسقاط الطائرة تلك جاء بعد أشهر من بدء التدخل العسكري الروسي لإنقاذ نظام بشار الأسد من الانهيار أمام الضربات المتلاحقة للمعارضة السورية.
فرضت موسكو عقوبات على تركيا شملت فرض تأشيرة على دخول المواطنين الأتراك، فيما أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين “أن تركيا ستندم على إسقاط القاذفة الروسية”، حتى إنه وصف إسقاط الطائرة بـ”طعنة بالظهر من أعوان الإرهابيين”، لم تطل حالة الاستنفار تلك بين البلدين، فالرئيس التركي رجب طيب أردوغان أرسل رسالةٍ إلى بوتين أبدى فيها أسفه على إسقاط الطائرة وبدأ تطبيعًا تدريجيًا للعلاقات الاقتصادية، وأعلنت تركيا أنها اتفقت مع روسيا على استئناف سريع للعلاقات “التقليدية” بينهما.
تطبيع العلاقات أعطى لأنقرة وموسكو مجالًا للتحرك أكثر على الأرض السورية، لتبدأ مسارات الحل السياسي التي اتفق عليها الطرفان، فأصبحت أنقرة راعية المعارضة في المحافل الدولية لتكون موسكو مقابلًا لها بدعمها للنظام والإشراف عليه، وعلى الرغم من عدم التوافق في كثيرٍ من الأحيان بين البلدين، فإن المحادثات لم تنقطع أبدًا، رغم أنه يبدو أن روسيا مع نظام بشار الأسد لا تقيم أي وزن للاتفاقيات التي تجري مع تركيا والمعارضة.
كان إنشاء مسار أستانة الذي تعتبره كل من أنقرة وموسكو قاعدة أساسية للحل السياسي في سوريا، أول ما عمل عليه الأتراك والروس، حيث أفرزت اجتماعات أستانة خرائط لـ”خفض التصعيد” بين قوات النظام السوري وفصائل المعارضة في الشمال السوري، وبحسب الاتفاقات دخلت تركيا إلى شمالي سوريا لإنشاء قواعد عسكرية ونقاط مراقبة للمناطق المشمولة بالاتفاقية، على الرغم من أن اتفاقيات أستانة لم تكن جديةً من طرف روسيا والنظام وما زال الهجوم على مناطق المعارضة مستمرًا وأصبحت بعض نقاط المراقبة التركية تحت حصار قوات النظام السوري، فإن تركيا لا تزال متمسكةً بما أفرزته الاتفاقيات تلك، وما زالت الاجتماعات في العاصمة الكازاخية تُقام بين الفترة والأخرى.
وعلى غرار الاتفاقيات التي رسمت الخرائط على الأرض كان مؤتمر سوتشي عام 2018 الذي حد من العمليات القتالية على الأرض، وخلال المؤتمر قرر الفرقاء السوريون والأمم المتحدة وتركيا وإيران وروسيا تشكيل لجنة لمراجعة دستور سوريا، وفي أكتوبر من 2019 بدأت أولى جلسات اللجنة التي كلفت بصياغة دستور جديد لسوريا برعاية الأمم المتحدة، هذه اللجنة لم تكن لتنطلق لولا المباركة الروسية التركية لها.
أفرزت عملية نبع السلام التي أطلقتها تركيا في أكتوبر العام الماضي ضد الوحدات الكردية على المنطقة الحدودية مع سوريا اتفاقًا بين موسكو وأنقرة، يقضي بانسحاب القوات الكردية خلال 150 ساعة إلى عمق 30 كيلومترًا عن الحدود السورية مع تركيا، وقال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف: “الإجراء سيتبعه تسيير دوريات مشتركة والتصدي لتسلل العناصر الإرهابية”، وينص الاتفاق أيضًا على أن البلدين سيطلقان جهودًا مشتركة بهدف “تسهيل عودة اللاجئين بشكل آمن وطوعي”، وصحيح أن عملية “نبع السلام” لم تحقق غايتها بإقامة منطقة آمنة كما حددتها خرائطها الأولية إلا أنها أبعدت الوحدات الكردية عن الحدود.
البلدان وصلا أخيرًا إلى صيغة لجمع الأطراف الليبية المتقاتلة في روسيا بعد أن نجحت أنقرة وموسكو بهدنة بين الطرفين، في سيناريو شبيه بمسار أستانة لحل الصراع السوري
الصراع الليبي.. على خطى سوريا
بداية عام 2020 أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن “وحدات من القوات التركية بدأت في التحرك إلى ليبيا”، مضيفًا أن الوحدات التي بدأ إرسالها ستعزز تباعًا، وهدف أنقرة هو دعم حكومة الوفاق ومساعدتها على الوقوف وتحقيق الانتصار، وقال أردوغان: “هذه القوات ستضطلع بعمليات التنسيق، وسيتم إنشاء مركز عمليات في ليبيا، وسيتولى جنرال برتبة فريق قيادة المهمة العسكرية”، ويأتي إرسال القوات التركية إلى طرابلس بعد إقرار الاتفاقية الأمنية المشتركة بين حكومتي البلدين من البرلمان التركي، إذ إن حكومة الوفاق بقيادة فائز السراج طلبت رسميًا من أنقرة إرسال وحدات عسكرية للمساندة والدعم العسكري.
وفي الطرف المقابل توجد روسيا كداعمٍ أساسي لجيش الضابط المتقاعد خليفة حفتر، إذ إن مصدرًا في الحكومة البريطانية قال: “المخابرات الغربية تكمنت من تحديد موقع 300 من المرتزقة التابعين لفاغنر في ليبيا”، وتتمركز هذه القوات في مينائي طبرق ودرنة، وتدعم المليشيات الروسية قوات حفتر بالتدريبات، وإمداده بالدعم اللوجستي والعسكري، من جهته قال موقع “ذا دايلي بيست” الأمريكي إن دعم موسكو لحفتر لا يقتصر على الجانب العسكري والقوات والأسلحة إنما يتعداها لأمور أخرى ومنها دعمه إعلاميًا.
كما قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، إن بلاده لا يمكنها البقاء صامتة تجاه المرتزقة الروس الذين يساعدون قوات المشير حفتر في ليبيا، الأمر الذي دعا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى أن يصرح أن المرتزقة التابعين لشركة فاغنر الذين يقاتلون في ليبيا لا يمثلون الدولة الروسية ولا تمولهم الدولة، جاء تصريح بوتين بعد دعوات متتالية لإيجاد حل ينهي الصراع الليبي الذي تضطلع فيه موسكو بشكل كبير عبر دعمها لحفتر، فالأخير زار موسكو عدة مرات في الفترة الأخيرة.
وعلى الرغم من الخلاف الروسي التركي في ليبيا بين داعم لحفتر وآخر يؤيد حكومة الوفاق، فإن البلدين وصلا أخيرًا إلى صيغة لجمع الأطراف الليبية المتقاتلة في روسيا بعد أن نجحت أنقرة وموسكو بهدنة بين الطرفين، في سيناريو شبيه بمسار أستانة لحل الصراع السوري، وشهدت العاصمة الروسية موسكو، مباحثات بين الأطراف الليبية برعاية الوفدين التركي والروسي من أجل ضمان وقف إطلاق نار في البلاد، وكان من المخطط عقد اجتماع رباعي يضم وفدي تركيا وروسيا والسراج وحفتر، إلا أن الاعتراضات المتبادلة من الأطراف الليبية حال دون عقد الاجتماع.
غادر خليفة حفتر العاصمة الروسية موسكو دون أن يوقع على اتفاق وقف إطلاق النار، وبحسب صحيفة “العربي الجديد”، فإن حفتر “أبلغ الجانب الروسي أن التوقيع مع حكومة الوفاق على اتفاق وقف إطلاق النار يعني اعترافه بها”، معتبرًا أن الاتفاق يخدم السياسة التركية الطامحة لإيجاد شرعية لمذكرات التفاهم البحرية والأمنية التي وقعتها مع الحكومة والاعتراف بالأجسام الأخرى كمجلس النواب المجتمع بطرابلس.
الأزمة الأوكرانية
بعد دخول القوات الروسية شبه جزيرة القرم عام 2014 دعت أنقرة لحل الأزمة الأوكرانية من خلال اتحاد سياسي داخلي وتطبيق حزمة إصلاحات اقتصادية شاملة، وأعلنت تركيا حينها “الوقوف الكامل مع وحدة الأراضي الأوكرانية ورفض أي تدخل روسي”، ويظل الرئيس التركي يشدد على أن بلاده “لا تعترف ولا تقبل بعملية ضم شبه جزيرة القرم غير الشرعية”. وحين اندلاع الأزمة نشطت أنقرة دبلوماسيًا وكان حينها أحمد داوود أوغلو وزيرًا للخارجية مؤكدًا أن تركيا “ستعمل كل ما في وسعها من أجل الحفاظ على الوجود التاريخي لأشقائها تتار القرم”.
اعتبر وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، أن “شعب القرم عانى في الماضي، بسبب التهجير القسري لتتار القرم على يد الاتحاد السوفيتي في 1944، واليوم يأتي ضم غير شرعي للجزيرة من قبل روسيا”. وأكد أوغلو أن “تركيا دائمًا إلى جانب أبناء جلدتها من تتار القرم”، مشددًا على أنها ستواصل طرح القضية في المنابر الدولية كمجلس الأمن. وضمت روسيا شبه جزيرة القرم، بعد سيطرة قوات موالية لموسكو عليها، ثم أجرت استفتاء عام 2014، صوت السكان فيه للانضمام، بينما رفضته أوكرانيا، ويقطن في الجزيرة تتار القرم الذين ينتمون إلى مجموعة عرقية تركية، وتعرضوا إلى عمليات تهجير قسري نحو وسط روسيا ودول أسيا الوسطى إبان الحكم السوفيتي لأوكرانيا.
الاتفاق الاقتصادي
يختلف البلدان في القضايا السياسية الإقليمية، إلا أن التوافق الاقتصادي بينهما وصل أوجه في السنوات الأخيرة فوفقًا للإحصاءات التي أصدرها البنك المركزي التركي، ارتفع حجم الواردات التركية من روسيا 18.6 إلى مليار دولار عام 2018 مقارنةً بـ3.87 مليارات دولار عام 2000، كما ارتفع حجم الصادرات التركية لروسيا من 639 مليون دولار عام 2000، ليبلغ 3.4 مليار دولار عام 2018، أما بالنسبة للإنشاءات فيصنف البنك المركزي التركي أن روسيا واحدة من أهم وجهات الشركات التركية في هذا المجال، حيث نفذت شركات المقاولات التركية 277 مشروعًا في 44 دولة بقيمة 22.8 مليار دولار، كان قرابة 15% منها في روسيا.
وبحسب وزارة السياحة التركية، فإن عدد السياح الروس القادمين إلى تركيا خلال عام 2019 حتى نوفمبر بلغ 6.8 مليون، وهو ما يمثل 14% من إجمالي السياح القادمين إلى تركيا، ومع هذا التنامي المتسارع للاقتصاد بين البلدين تبرز ملفات الطاقة المشتركة بين موسكو وأنقرة على رأسها مشروع السيل التركي الذي أكد أردوغان أنه لنقل الغاز الروسي إلى تركيا وأوروبا، ويعد “مشروعًا تاريخيًا فيما يخص العلاقات الثنائية وخريطة الطاقة”، وسيصل الغاز إلى تركيا مباشرةً دون وسيط، وبهذا الصدد يقول أردوغان: “15.75 مليار متر مكعب من أصل 31.5 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي سيصل إلى تركيا مباشرة بفضل السيل التركي دون وجود أي بلد وسيط”، من جهته أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن مشروع السيل التركي سيحول تركيا إلى مركز لتخزين وتصدير الغاز الروسي إلى أوروبا ما سينعكس إيجابًا على الموقع الجيوسياسي لتركيا”.
S400
لم تثن التهديدات الأمريكية وقلق الناتو والأوروبيين تركيا من إكمال صفقتها مع موسكو التي بموجبها تسلمت منظومة إس 400 الصاروخية الروسية، وفي يوليو 2019 قال الكرملين بعد تسليم المنظومة إلى تركيا: “جميع التزامات الأطراف فيما يخص الصفقة يتم تنفيذها وفق الآجال المحددة”، من جانبه، قال وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو: “صفقة منظومة إس 400 الروسية أنجزت”، ولم تكتفِ تركيا بشراء المعدات الجاهزة من المنظومة الدفاعية الروسية إنما تعداها للإنتاج المشترك ونقل للتكنولوجيا من هذه المنظومة، ومن المتوقع أن يوقع العقد بحلول أبريل/نيسان 2020.
على قاعدة “سدد وقارب”، تمضي تركيا وروسيا بتحالفهما بشكل حذر خاصةً وأن الأمور الخلافية كثيرة، وأنقرة لا تستطيع في ظل وجودها بحلف الناتو أن تكون شريكًا قويًا في المنطقة لموسكو، إلا أن التواجد العسكري الروسي في المنطقة يفرض أمرًا واقعًا مرحليًا على تركيا لحل بعض الأمور العالقة في محيطها كسوريا وليبيا، ويظل الوضع الاقتصادي مهمًا للجانبين للتمسك به كونهما سوقين لبعضهما.