المتابع لقوائم الحضور في مؤتمر برلين الأخير الخاص بمناقشة الملف الليبي وسبل الخروج من المأزق الحاليّ في محاولة لتجنب الخيار العسكري خشية التحول إلى سوريا جديدة، يلاحظ أنها خلت تمامًا من الفاعلين الأساسيين في الملعب الليبي، إذ اقتصرت الدعوات على فايز السراج رئيس الحكومة المعترف بها دوليًا، واللواء متقاعد خليفة حفتر جنرال الجبهة الشرقية.
استدعاء غابت عنه القدرة على قراءة المشهد الليبي بصورة موضوعية، فبعيدًا عن تلك التأويلات التقليدية التي تعزو الانقسام في الملف الليبي إلى تأجج الصراع بين الطرفين، السراج وحفتر، إلا أن هناك محورًا آخر غاب عن الجميع، لا يقل أهمية عما سبق، بل ربما يتفوق عليه في كثير من المراحل، خاصة فيما يتعلق بالبحث عن آليات وإستراتيجيات تطبيق قرارت المؤتمر على أرض الواقع.
يتلخص هذا المحور في البُعد القبلي والجهوي، الذي يعد وفق ما ذهب محللون اللاعب الأكثر حضورًا في تحديد ملامح خريطة الصراع داخل الأراضي الليبية، فعلى مدار العقود الماضية نجحت القبيلة في فرض نفسها على الساحة بما تمتلكه من مقومات تفوق في بعض الأحيان قدرات الدولة النظامية نفسها، يأتي على رأس تلك المقومات منطلقات الولاء السياسي والتفوق العسكري بما تمتلكه كل قبيلة من ميليشيات مسلحة قادرة على إحداث الفارق.
في هذه الجولة نستعرض قراءةً وتحليلًا لخريطة النفوذ القبلي في الأراضي الليبية، وكيف تتقاسم القبائل الكبرى كعكة السيطرة، خاصة بعد سقوط نظام معمر القذافي الذي أطلق العنان للبُعد القبلي في التمدد والانتشار بصورة لم تشهدها البلاد طيلة مدة استقلالها، وهو ما يجب إلقاء الضوء عليه لقراءة المشهد بصورة أكثر اتساعًا بخلاف حصر الأزمة في البؤرة الضيقة (السراج – حفتر).
معضلات الدولة الليبية
قبل الحديث عن خريطة النفوذ القبلي في ليبيا، من المهم إدراك مجموعة من السياقات الحاكمة للتطور السياسي والاقتصادي والمجتمعي للدولة الليبية، خاصة أن خرائط القوى بعد إسقاط نظام معمر القذافي ليست انقطاعًا عن السياق العام الذي تأسست فيه الدولة إبان الفترة القذافية.
تتعدد المعضلات المتعلقة ببيئة النفوذ في البلاد غير أنها تتمحور في ستة محاور أساسية يمكن الاستناد إليها عند قراءة خريطة القوى القبلية، على رأسها المعضلة “الجيوبوليتكية”، فالأطراف المتنامية للدولة في المساحة والتبعثر في خريطة التوزيع السكانية المقسمة عبر أطراف متباعدة للأقاليم الثلاث (الشرق – الغرب – الجنوب) في الوقت الذي فشل فيه القذافي في إيجاد بنية للتواصل بين تلك الأقاليم فضلًا عن سياسة تهميش الشرق والجنوب، كلها أدت إلى صراع جيوسياسي مناطقي بعد الثورة.
ومن المعضلات أيضًا التحول من الاستبداد المركزي إلى لا مركزية القوة، حيث عاشت ليبيا 4 عقود تقريبًا من بين 6 عقود منذ استقلالها، تحت حكم الاستبداد المركزي لحكم القذافي، استطاع خلال تلك السنوات الـ40 السيطرة على الجغرافيا الليبية بقوة السلاح والموازنات القبلية، غير أن الأمر تغير تمامًا بعد 2011.
وبعد سقوط النظام السابق فُرغت الساحة تمامًا من أي قوى فاعلة، وفي ظل غياب مؤسسة عسكرية وطنية تلم الشمل، سارعت القوى القبلية والميليشيات المسلحة لملء هذا الفراغ بمعادلة انتشار القوة وتفكك السلطة عبر أطراف موزعة على مختلف أقاليم البلاد طيلة السنوات الماضية.
هذا بجانب غياب عدالة توزيع عائدات النفط التي كان يحصرها القذافي في بعض الأسماء والجهات المقربة، في الوقت الذي كانت تحرم فيه القبائل من ريع هذا المورد الذي يساهم بأكثر من 90% من العائدات الحكومية، وبعد الثورة سارعت تلك القبائل للحصول على نصيب من الكعكة واقتسام العوائد النفطية على عكس ما كان معمولًا به في السابق.
ومن الأخطاء التي وقع فيها القذافي خلال فترة حكمه تكريسه للصراع القبلي، وذلك حين أعطى قبيلة القذاذفة (التي ينتمي إليها) العديد من الامتيازات بجانب الورفلة والزنتان، على حساب قبائل أخرى في مصراتة وأولاد سليمان في الجنوب، ما أدى إلى تصاعد الاحتقان الذي ظل دفينًا طيلة سنوات حكمه، إلا أنه وبعد سقوط حكمه تأججت تلك الصراعات مرة أخرى التي يدور معظمها بشأن ملكية الأراضي والنفوذ السياسي.
القبيلة والمجتمع الليبي
“تلعب القبيلة دورًا محوريًا في تشكيل خريطة الولاءات داخل التراب الليبي”، هكذا استهل الباحث في الشأن الليبي، سيف طرفاية، حديثه، لافتًا إلى أن المجتمع الليبي بطبيعته مجتمع قبلي، حتى إن ظهر للإعلام الدولي عكس ذلك، وقد تعزز ذلك عام 1969 مع ثورة القذافي.
طرفاية في حديثه لـ”نون بوست” أشار إلى سيطرة التحالفات القبلية على العقلية الليبية تعزز بشكل أكبر حين ألغيت الأحزاب السياسية المدنية بداية سبعينيات القرن الماضي، الأمر الذي فتح المجال للفكر القبلي للتمدد والانتشار بصورة غير مسبوقة، وذلك رغم أن بعض الآراء تذهب إلى أن الفجوة بين الليبيين والعمل الحزبي المدني بدأت عقب الاستقلال بعام واحد فقط، تحديدًا في 1951 في عهد الملك إدريس السنوسي، ثم جاءت أحداث ما بعد 2011 لترسخ مبدأ القبلية وسيطرتها بصورة كبيرة.
ويشير الباحث في الشأن الليبي إلى أن كل الأنظمة السياسية التي حكمت ليبيا (ملكية – الثورة – الجمهورية) اعتمدت في المقام الأول على مرتكزت القبلية، وما لديها من ظهير عسكري من خلال ما تملكه من ميليشيات مسلحة، تلك الميليشيات التي رسخت أنظمة الحكم وساعدت في بناء تحالفات الدولة عبر العقود القديمة.
هذا بجانب أن القبائل استغلت غياب دور الجيش والشرطة والمؤسسات النظامية لتفرض نفسها كبديل لإدارة المشهد الداخلي برمته، وهو ما كان يلقى قبولًا لدى الجميع، على حد قول الباحث، سواء النظام الحاكم الذي كان يحقق الغاية بترسيخ أركانه، أم القبائل التي ترى في تلك المعادلة حفاظًا على مكتسباتها ودورها على أرض الواقع.
خريطة النفوذ القبلي
في بحثه المعنون بـ”خرائط القوى القبلية والسياسية والجهادية في ليبيا بعد الثورة” المنشور بالمركز القومي لدراسات الشرق الأوسط، كشف الباحث خالد حنفي الخبير في الشؤون الإفريقية بمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، وجود نحو 140 قبيلة ليبية لها تداخلات وعلاقات وترابطات عائلية وجغرافية مع دول الجوار.
ورغم هذا العدد الكبير من القبائل، فإن هناك 30 قبيلة فقط تؤثر بشكل كبير في المشهد السياسي لما تمتلكه من تكتلات عائلية نجحت من خلالها في فرض نفسها من خلال ميليشياتها المسلحة التي تمثل جيشًا مستقلًا لكل قبيلة على حدة، وتقاس قوة كل قبيلة بحجم تلك الميليشيات ومستوى تسليحها.
الباحث قسّم القبائل الليبية جغرافيًا على حسب الأقاليم الثلاث:
أولًا: إقليم غرب ليبيا، وفيه تسيطر قرابة 5 قبائل أساسية على صناعة القرار هناك، أولها قبيلة الورفلة التي تعد أكبر القبائل الليبية ويتجاوز عدد سكنها مليون نسمة، وتتمركز في منطقة فزن في جنوب وجنوب شرق العاصمة طرابلس.
ثم تأتي قبيلة المقارحة في وادي الشاطئ بالوسط الغربي الليبي، والقبليتان لهما تاريخ طويل من العداء مع الجهاديين، ثم قبائل ترهونة، المكونة من نحو 60 قبيلة فرعية وتتمركز في جنوب غرب طرابلس ويشكل أبناؤها ثلث سكان العاصمة، تليها قبائل مصراتة، وهي أكبر القبائل المعارضة لنظام حكم القذافي، وتملك تأثيرات قوية على درنة وبنغازي.
ثانيًا: القبائل في الجنوب الليبي، وهي التي تنحدر في معظمها من أصول إفريقية كـ التبو، بجانب أخرى لها جذور عربية كقبيلة الزوي، وتعتمد تلك القبائل على التجارة غير الشرعية عبر الحدود مع دولة تشاد ومنها إلى بقية دول وسط إفريقيا.
تعد قبيلة المغاربة واحدة من أكثر القبائل نفوذًا في هذه المنطقة، وينتمي إليها إبراهيم الجضران قائد ميليشيات برقة المؤيد للفيدرالية
كما يوجد في الجنوب أيضًا قبيلة أولاد سليمان التي تعد من أكبر القبائل المسيطرة في الجنوب، في مقابل قبيلة الطوارق ذات الأصول الأمازيغية، المحرومة من أدنى حقوقها الطبيعية كالأرقام القومية وجوازات السفر، وتعاني تلك القبائل من تهميش واضح من النظم الحاكمة، الأمر الذي عزز العداء والفجوة بينها وبين الحكومات النظامية.
وأخيرًا تأتي قبائل الشرق، وعلى رأسها قبائل العبيدات والبراعصة والعواقير والمسامير، وتعيش في منطقة الجبل الأخضر وطبرق حتى نهاية بنينه بالقرب من بنغازي، ولها ارتباطات عائلية في مصر، ويجمع بينها خيط مشترك يتمثل في معاداة الجماعات الإسلامية.
تعد قبيلة المغاربة واحدة من أكثر القبائل نفوذًا في هذه المنطقة، وينتمي إليها إبراهيم الجضران قائد ميليشيات برقة المؤيد للفيدرالية، الذي حاصر الموانئ النفطية لفترات طويلة، كما تعد من أكثر القبائل عداءً لجماعات “أنصار الشريعة” في بنغازي، وكتيبة 17 فبراير في القوارش، وهي التي اعتمد عليها حفتر في مناهضته للجماعات المسلحة طيلة الأعوام الثلاث الماضية فيما أطلق عليه حينها عملية “الكرامة”.
بين التهدئة والتأجيج
ميدانيًا.. تتحكم العشائر القبلية في خريطة الصراعات داخل التراب الليبي، فالميليشيات المسلحة تغذي في الغالب طرفي الصراع، السراج وحفتر، ومن الصعب لأي طرف تحقيق أي انتصارات ميدانية دون الدعم القبلي، ولعل الدور الذي قامت به قبيلة المغاربة في مساندة قوات حفتر أبلغ تجسيد لقوة التأثير القبلي في المشهد.
تتصاعد مخاوف البعض من نشوب حرب أهلية جديدة بها حال الفشل في التوصل إلى حل سياسي في ظل تعدد الأجندات العاملة في الداخل
الخبراء يرون أن حفتر نجح بدعم خارجي لا سيما إماراتي في استمالة العديد من القبائل في محاولة لتدشين كيان عسكري مسلح بشكل متكامل تحت مسمى “جيش وطني” في معركته لإحكام القبضة على الدولة الليبية، وهي الإستراتيجية التي أتت ثمارها بشكل ما وجعلت من حفتر رقمًا على طاولة مفاوضات المسار السياسي للبلاد بعدما كان أحد المنبوذين غير المعترف بهم.
الضغط على وتر تأجيج الصراع القبلي خاصة بين الشرق والغرب ساهم بشكل كبير في تعزيز المشهد الانقسامي داخل البلاد، وهو ما صب في النهاية في صالح الفريق الشرقي الذي يمثله قوات حفتر، الذي قدم العديد من الوعود بالحصول على المكاسب الاقتصادية والسياسية حال تمكينه من الحكم، في إشارة منه لعوائد النفط في الجانب الغربي.
فريق ذهب إلى ضرورة تحجيم الدور السلبي للقبائل من خلال بحث آليات لم الشمل، وذلك عبر تدشين كيان يضم بين جنباته كل الأطياف القبلية الليبية ويكون على درجة من الحيادية لحقن الدماء بين الشرق والغرب، بعيدًا عن تحيزات المجلس الأعلى للقبائل الليبية المشكل قبل عدة أعوام وفقد تأثيره مع مرور الوقت.
وهكذا فإن القراءة المتأنية للمشهد السياسي الليبي تفرض على الجميع وضع القبلية كأحد اللاعبين المؤثرين، إن لم يكن اللاعب الجوكر الذي يؤدي دور صانع الألعاب للاعبين الآخرين، السراج وحفتر، وربما يكون كلمة السر في حلحلة الأزمة، وهو ما قد يعيد تشكيل خريطة المسار السياسي للدولة التي تتصاعد مخاوف البعض من نشوب حرب أهلية جديدة بها حال الفشل في التوصل إلى حل سياسي في ظل تعدد الأجندات العاملة في الداخل.