لا شيء يشغل الشارع السوداني هذه الأيام غير عملية الغدر التي تعرّض لها المئات من الشباب بواسطة شركة “بلاك شيلد” الإماراتية وممثليها في السودان وكالتي الأميرة وأماندا، والمتتبع لوسائل التواصل الاجتماعي يلاحظ كمية الغضب والانفعال وسط السودانيين، فما تعرّض إليه المخدوعين من الشباب أشبه بعملية اتجار بالبشر، إذ تقدموا للوكالات المعنية في الخرطوم إلى وظيفة “حارس أمن” في دولة الإمارات، وفجأة وجدوا أنفسهم مرتزقة زُجّ بهم في حربي اليمن وليبيا.
هاشتاغ #انقذوا_ضحايا_الشركة_الإماراتية تصدّر الترند السوداني خلال اليومين الماضيين رغم تجاهل وسائل الإعلام الرسمية في السودان للحدث المفجع، وكذلك تجاهله مشاهير مواقع التواصل الاجتماعي عدا قلّة منهم ويُعزى ذلك إلى التغلغل الإماراتي الواسع في المجتمع السوداني والحكومة السودانية على حدٍ سواء، إذ لم تكلف وزارة الخارجية السودانية نفسها حتى الآن إصدار بيانٍ ولو على سبيل إرضاء الرأي العام بأنها ستحقق في الأمر، وأن كرامة المواطن السوداني خط أحمر كما صرّح بذلك من قبل رئيس الوزراء عبد الله حمدوك وعضو تجمع المهنيين السودانيين محمد ناجي الأصم، ولأهمية هذه الجزئية سنبحث فيها مع المزيد من التفاصيل باستطلاع آراء مراقبين مختصين.
بداية القصة: إعلان عادي عن وظائف حراس أمن
يروي والد أحد الضحايا لصحيفة الصيحة السودانية أن قريبًا له اتصل به، وقال: توجد فرص حراس أمن في دولة الإمارات أعلنتها شركة “بلاك شيلد” عن طريق وكالة أماندا للسفر والسياحة في السوق العربي تقاطع شارع القصر مع شارع الجمهورية شرق وصاحبها اسمه حذيفة، ويضيف الوالد: أخبرت ابني فوافق على السفر وبدأت له في الإجراءات وجهّزت جميع المستندات وجواز السفر وسلّمتها للوكالة حتى تمّ استيعابه، بعد أيام بشرني قريبٌ لي بوصول إقامة ابني وفرحت أنا وكل الأسرة والأهل، وبعد ثلاثة أيام طلبوا مني مبلغ 15 ألف جنيه وإحضارها في قاعة تدعى الرؤيا الذكية في شارع المشتل، وذهبنا ووجدنا مجموعةً كبيرةً من الشباب اليافعين الذين وَصَلَت إقاماتهم ونظّموا لهم مُحاضرة ثورية وسلّموا المبالغ المطلوبة منهم لشخصٍ يدّعى محمد المبارك، وسلموا للشباب فيزهم وجوازات سفرهم.
وواصل الرجل حديثه: من جانبي فحصت الفيزا الخاصة بابني ووجدتها صحيحة عن طريق شركة اسمها بلاك شيلد للأعمال الأمنية، ويضيف: أخبرني الابن بعد مغادرته بوصول مندوب من الشركة في مطار أبو ظبي واصطحبهم لمنطقة تبعد من المطار نحو 4 ساعات عبارة عن منطقة أمنية، حيث تم استقبالهم استقبالًا طيبًا، ووفّروا لهم كل احتياجاتهم من الأكل والشرب، وأوضح في حديثه قائلًا: ابني والشباب الذين كانوا معه أُخضعوا لتدريبات عسكرية مُكثّفة لعدة أيام وتم تدريبهم على كيفية استخدام الأسلحة الثقيلة، وحينما احتجوا على نوع التدريب، أخبروهم بأنها مُجرّد ثقافة عسكرية تعلموها واتركوها.
وتابع: قبل أيام اتصل بي وأخبرني بأنهم سوف يتم توزيعهم إلى مجموعات وسيُنقلوا إلى الحدود الإماراتية لحماية مُنشآت بترولية.. رفض البعض ووافق عدد منهم، وزاد بقوله: بلغ عدد الرافضين 105 شباب وعدد المُوافقين 288، وبعد ذلك اتّضح لي أن ابني وصل إلى ليبيا في منطقة بترولية تدّعى ميناء راس لانوف النفطي يستولى عليها حفتر وجماعته، وبقية الشباب في نفس المعسكر وأخبروهم بأنّهم سيُرحّلون إلى السودان يوم الثلاثاء القادم، كما يوجد آخرون في معسكرات أخرى.
محاولة إسكات المغدورين بالعصا والجزرة
الرواية ذاتها ذكرها عدد من الضحايا المغدورين الذين تمت إعادتهم إلى السودان بعد أن أصروا على رفض العرض بالذهاب إلى مناطق العمليات، رغم أن السلطات الإماراتية استخدمت معهم أسلوبي العصا والجزرة، العصا بمحاولة الترهيب والتخويف والإشارة إلى بطش الأمن الإماراتي، والجزرة بالإغراءات المادية حيث عرضت عليهم راتبًا مغريًا في حدود الـ3000 دولار أمريكي أو أكثر.
عابد الفرزدق يقص الحكاية في مقابلة مع قناة الجزيرة مباشر بتفاصيل قريبة لتلك التي حكاها والد أحد المغدورين لصحيفة الصيحة، ويُقدّر الفرزدق عدد الذين تم إرسالهم لحراسة منشآت نفطية في ليبيا بأكثر من 200 شخص، فيما تشير مصادر نون بوست إلى أن العدد الكلي للشباب الذين سفرتهم الوكالة السودانية إلى الإمارات بلغ نحو 824 شابًا، بينما كان العدد المستهدف من العملية الخداعية نحو 2000 فرد.
وتفيد المصادر بأن نوعية التدريب الذي تلقاه الشباب هو تدريب عسكري على أسلحة ثقيلة، بالإضافة إلى حفر خنادق وحماية منشآت إلى جانب مساندة وحدات جيش، ووفقًا لشهادة عابد الفرزدق فإن التعلمجي “المدرب” المسؤول عنهم ضابط سابق بالجيش السوداني قيل في تسريبات أخرى إن اسمه هو الرشيد التجاني دفع الله.
كما أفادت تسريبات أخرى، وصلت إلى ذوي الضحايا أن وفدًا من وكالتي أماندا والأميرة وصل إلى أبو ظبي بعد أن خرج الموضوع إلى مواقع التواصل الاجتماعي وتناولته قناة سودانية 24، ويُقال إن الوفد اجتمع بالمجموعة التي رفضت السفر إلى ليبيا وكان الحديث أن يتم توزيعهم داخل الإمارات في منطقة أبو ظبي وأن يتم إعطائهم الرواتب كاملة، وفي المقابل يتواصلون مع عائلاتهم وينفون لهم إجبارهم على السفر إلى ليبيا واليمن خدمةً لمصالح دولة الإمارات، هذا بالطبع بخلاف المجموعة التي أصرّت على العودة للسودان ومن بينهم الذين تحدثوا إلى قناتي الجزيرة وسودانية 24.
وفقًا لمستندات حصل عليها نون بوست، فإن شركة بلاك شيلد مصنفة ضمن شركات الشخص الواحد، حيث يقول القانون الإماراتي عن هذا النوع من الشركات: “يجوز لشخص واحد مواطن طبيعي أو اعتباري تأسيس وتملك شركة ذات مسؤولية محدودة ولا يسأل مالك رأس مال الشركة عن التزاماتها إلا بمقدار رأس المال الوارد بعقد تأسيسها”، أي أن الشركة التي تورطت في خداع شباب السودان شركة محدودة المسؤولية يملكها شخص واحد سواء كان طبيعيًا أم معنويًا، والشركة بهذا الشكل تعتبر استثناءً على قانون الشركات الذي يوجب وجود طرفين على الأقل في الشركة.
ما علاقة العملية بزيارات حميدتي السرية إلى الإمارات؟
بالنظر إلى المستند أعلاه الذي يبين شركة “الرجل الواحد” التي أُنشئت على عجل، يرجح كثيرون أن تكون الزيارات الأخيرة التي قام بها عضو المجلس السيادي محمد حمدان دقلو “حميدتي” إلى دولة الإمارات مؤخرًا وراء الزج بهؤلاء الشباب في أتون حربي اليمن وليبيا، فآخر زيارة سرية قام بها حميدتي إلى أبو ظبي كانت مطلع الشهر الحاليّ استمرت 3 أيام، لم يكشف أسبابها والنتائج التي خرجت بها، إلا أن عضو المجلس السيادي معروف بعلاقاته الوثيقة مع قيادات الدولة الخليجية التي لا تتمتع بسمعة جيدة وسط السودانيين.
مصدر مطلع رفض كشف اسمه لحساسية الموضوع كشف لـ”نون بوست” أن حميدتي أصبح يتخوّف من تركيز المنظمات الدولية والإعلام الغربي على تورط قواته في حربي اليمن وليبيا، إلى جانب السمعة السيئة التي اكتسبها في السودان بعد تورط المليشيا في مجزرة فض الاعتصام، لذا عندما ضغط عليه الإماراتيون لإرسال مرتزقة من أجل تأمين المنشآت النفطية في ليبيا ومصالح الإمارات في اليمن، تفتقت عبقريته عن هذه الخطة التي هدفت إلى استدراج شباب أبرياء بوظائف حراس أمن في الإمارات ثم تدريبهم وإرسالهم بزي مليشيا الدعم السريع للقتال في اليمن وليبيا.
غضب من بيان متخاذل لوزارة الخارجية السودانية
رغم المناشدات الواسعة والوقفة الاحتجاجية التي نظمتها أسر ضحايا شركة بلاك شيلد أمام سفارة دولة الإمارات في الخرطوم، فإن صمت حكومة الثورة أثار استغراب الجميع، إذ كان السودانيون يتوقعون بيانًا قويًا تؤكد فيه الحكومة ووزارة الخارجية بالتحديد حرصها على كرامة الإنسان السوداني، وأنها تحقق في ملابسات التطور الخطير بدلًا من البيان الهزيل الذي صدر بعد 5 أيام من تفجر القضية، حيث ذكرت الخارجية أنها “تتحرى نقل سودانيين إلى منشآت نفط ليبية، بعدما عينتهم شركة إماراتية للعمل كحراس”.
وزارة الخارجية السودانية ليست بالسذاجة لدرجة أنها لا تدرك أنه لا يمكن لشركة أجنبية حاصلة على موافقات أمنية وترخيص رسمي من دولتها أن تستقدم شبابًا من دولة أجنبية للعمل كحراس أمن ثم تدخلهم لمعسكرات جيش وإخضاعهم لتدريب عسكري متقدم لفترة 3 أشهر ثم إرسالهم إلى دولة أجنبية ثالثة، أيّ شركة يمكنها أن تفعل كل ذلك من دون علم السلطات الرسمية الإماراتية على الأقل؟!
وفي هذا الإطار شددت أستاذة العلاقات الدولية في جامعة الخرطوم تماضر الطيب على ضرورة أن تتخذ الحكومة السودانية موقفًا واضحًا وصريحًا من قضية بلاك شيلد، مشيرةً إلى النظرة الدونية لحكومات بعض دول الخليج إلى الإنسان السوداني، واعتقادهم أن الظروف الاقتصادية التي يمر بها الشباب تدفعهم إلى القبول بأي عمل خارجي كيفما كان.
تمثل شركة بلاك شيلد الإماراتية أحد مظاهر التوغل الإماراتي في السودان
وردًا على سؤال محرر نون بوست عن إمكانية تورط جهات حكومية في قضية استغلال الشباب، نفت تماضر الطيب هذا الاحتمال في ظل الحكومة الحاليّة، لكنها دعت إلى سرعة محاسبة الوكالات المتورطة ورد كرامة المتضررين وأسرهم، فضلًا عن صدور موقف حكومي واضح حتى لا تتكرر قضية استغلال السودانيين وخداعهم.
كذلك تحدّث إلى “نون بوست” الصحفي السوداني حاتم درديري الذي اعتبر ما حدث من شركة بلاك شيلد الإماراتية تطورًا خطيرًا يمثل أحد مظاهر التوغل الإماراتي في السودان، مشيرًا إلى أن النظام البائد يتحمل وزر النظرة الدونية للإنسان السوداني من خلال مشاركته في حرب اليمن العبثية، وفي سؤالنا له عن صمت الحكومة وتجمع المهنيين يرى درديري أن الجهات الحكومية يفترض أن تجمع المعلومات الوافية عن القضية بسرعة شديدة ومن ثم اتخاذ موقف واضح ضد الزج بالسودانيين في صراعات خارجية، لكنّ محدثنا أشار في الوقت نفسه إلى التزام الحكومة الانتقالية باستقلالية السياسة الخارجية مذكرًا بموقف الحكومة السودانية الداعم للحكومة الشرعية المعترف بها دوليًا في ليبيا مما حدا بحكومة السراج توجيه الشكر إلى حكومة حمدوك على موقفها.
كذلك لفت حاتم درديري إلى البيان المتوازن الأخير لوزارة الخارجية السودانية إثر اجتماع بين الوزيرة أسماء عبد الله وسفيري السعودية والإمارات، حيث دعت الخارجية السودانية إلى حلّ الخلافات بين دول الخليج عن طريق الحوار، مجددة التزام السودان بتعزيز العلاقات مع كل الدول العربية على حد سواء.
الإمارات ترضخ للضغوط وتعيد الشباب السودانيين
بالتزامن مع خطوات تصعيدية للشباب السوداني احتجاجًا على جريمة خداع رفقائهم، بدأت السلطات الإماراتية إعادة الشباب المخدوعين من ليبيا، حيث نشر الناشط ياسر مصطفى على موقع تويتر فيديو لوصول مجموعة من الشباب السودانيين إلى مطار دبي تمهيدًا لنقلهم إلى السودان، وبالفعل وصلت دفعة جديدة مساء الثلاثاء، وفي وقت سابق دوّن أبو بكر الأمين نقلًا عن الصحفية هنادي عبد اللطيف، قائلًا: “وصول جميع السودانيين من حقل راس لانوف الليبي إلى الإمارات مطار دبي الساعة 2:30 صباحا.. وتواصلوا مع أسرهم وطمأنتهم”.
لم تكن الإمارات بحاجة إلى تشويه صورتها أكثر مما هي مشوهة في نظر السودانيين، فلم ينسوا أنها والسعودية اعترفتا بالمجلس العسكري المحلول فور تشكيله ودعمتاه سياسيًا وماليًّا
ولم تَسلم الحكومة الانتقالية من الهجوم عليها في الهاشتاغ التوثيقي #انقذوا_ضحايا_الشركة_الاماراتية فقد كتب علاء الدين عبد الرحيم: “قلتُ هذا الكلام في تغريدةٍ سابقة، وتحدثت عن الحكومة بأنها مرتمية في أحضان الإمارات، وإلا فما تفسير هذا الصمت المريب والمخزي في أمر يخصُّ كرامة السودان وأهله. من يملك قوته لا يملك قراره، ومن السهل شراء صمته بالمال”.
في وجه الضغوط المتصاعدة لم يكن أمام الحكومة الإماراتية إلا احتواء الفضيحة حتى لا يتفاقم الغضب الشعبي وتكتسب أبو ظبي المزيد من السمعة السيئة في السودان، إذ إن أُسر الضحايا المغدورين نظموا وقفة احتجاجية حاشدة ظهر الثلاثاء 28 من يناير/كانون الثاني أمام وزارة الخارجية لإحراج الحكومة الانتقالية ووضعها أمام مسؤولياتها، فيما دعا نشطاء آخرون إلى تنظيم مسيرات للمطالبة بطرد السفير الإماراتي من البلاد مطلع فبراير/شباط المقبل.
وبشكلٍ عامٍ، لم تكن الإمارات بحاجة إلى تشويه صورتها أكثر مما هي مشوهة في نظر السودانيين، فلم ينسوا أنها والسعودية اعترفتا بالمجلس العسكري المحلول فور تشكيله ودعمتاه سياسيًا وماليًّا، ثم حرضتا قادته على فض اعتصام القيادة العامة الأمر الذي نتجت عنه مجزرة مروعة لا تزال حديث الناس، هذا إلى جانب سجلها السيء دوليًا في دعم الثورات المضادة وتنصيب الحكام الديكتاتوريين كما حاولت ولا تزال في السودان عبر وكلائها قادة المجلس العسكري الموجودين في المجلس السيادي حاليًّا.
قضية الشباب المخدوعين تسببت في سخط واسع لحكومة الثورة من رئيس وزرائها عبد الله حمدوك ووزيرة الخارجية إلى جانب الأجسام الثورية كقوى الحرية والتغيير، إضافة إلى تجمع المهنيين السودانيين فكل هذه الكيانات مارست الصمت المطلق ولم تتفاعل مع القضية بالمستوى المطلوب رغم خطورتها، مما أثار الحديث مجددًا عن مدى التغلغل الإماراتي في سودان ما بعد البشير وضعف الحكومة المدنية في مواجهته.