جرائم فرنسا الاستعمارية في إفريقيا، لم تقتصر على نهب ثروات دول القارة الباطنية وأموالهم فقط، بل وصلت للبشر أيضًا، فقد طورت باريس تجارة الرقيق التي بدأها البرتغاليون والإسبان والهولنديون والإنجليز في القرن السابع عشر.
تجلى نشاط فرنسا في تجارة الرقيق على الساحل الغربي لإفريقيا من خلال العديد من النقاط، حتى إنها حولت العديد من الدول أبرزها السنغال وكوت ديفوار وبنين إلى مراكز لتجارة العبيد، استنادًا إلى أيديولوجية عنصرية بارزة، في هذا التقرير لـ”نون بوست” سنبين كيف طورت الدولة الفرنسية هذه التجارة وكيف بنت بها دولتها الاستعمارية.
الدولة الفرنسية تشرف على تجارة العبيد
تحدثنا في التقرير الأول ضمن هذا الملف الذي عنوناه بـ “جرائم فرنسا في إفريقيا“، عن تواصل التدخلات الفرنسية العسكرية في إفريقيا رغم خروجها الرسمي منها واستقلال دول القارة السمراء، لكن في هذا التقرير سنعود إلى الوراء قليلًا لنتحدث عن تجارة العبيد التي تبنتها فرنسا في دول القارة.
استمرت هذه الممارسة التي كانت تتمثل في بيع وشراء البشر السود كسلعة، ما لا يقل عن 250 عامًا، فقد بدأت سنة 1642 واستمرت إلى عام 1848، تاريخ إعلان إلغاء العبودية في الدولة الفرنسية.
سنة 1642، أذن ملك فرنسا لويس الثالث عشر بدء بلاده نشاطها الرسمي في هذا المجال، حيث اشترت فرنسا ملايين العبيد من مستعمراتها الإفريقية، ثم جاء الملك لويس الرابع عشر سنة 1672 ليشجع على تجارة الرقيق من خلال تقديم إعانة مالية قدرها 13 جنيهًا لكل “رأس زنجي” مستورد من المستعمرات.
سنة 1685، أصدر الملك لويس الرابع عشر القانون الأسود الذي ينظم حياة العبيد في المستعمرات الفرنسية، وتحرم المادة 44 من هذا القانون جميع الحقوق القانونية للعبد وتضفي الطابع الرسمي على وضع العبيد “كممتلكات منقولة” يمكن للشخص امتلاكها أو بيعها أو استبدالها.
خلال القرن الـ18، خصص ميناء نانت نسبة تتراوح بين 10 إلى 33% من تجارته البحرية للمسافات الطويلة لتجارة الرقيق
سنة 1794، ألغت فرنسا العبودية لأول مرة، وذلك بعد اندلاع ثورة العبيد في “هايتي” (سان دومينغ سابقًا، وهي مستعمرة فرنسية في جزر الهند الغربية)، ويتألف هذا الإقليم من 90% من العبيد الذين طالبوا بحريتهم وحقوقهم.
بعد ذلك التاريخ بـ8 سنوات، أعاد نابليون بونابرت العبودية بموجب مرسوم صادر يوم 20 من مايو/أيار 1802، باعتبار “العبودية مفيدة مهما كان الرعب الذي يصاحبها”، مع ذلك تعهدت فرنسا بإلغاء حركة مرور سفن الرقيق لكن ذلك كان من الناحية النظرية فقط، فسفن الرقيق استمرت في التدفق حتى عام 1830.
تنامي تجارة العبيد والإعلان عن حقوق الإنسان وحقوق المواطن في كثير من دول العالم، أدى إلى إنشاء “الجمعية الفرنسية لإلغاء العبودية” في باريس سنة 1834 التي عملت على إلغاء العبودية فكان ذلك بعد 14 سنة من ذلك التاريخ.
يوم 27 من أبريل/نيسان 1848، أُصدر مرسوم بإلغاء العبودية في المستعمرات والممتلكات الفرنسية تحت قيادة فيكتور شولتشر وكيل وزارة الخارجية للمستعمرات، فتم تحرير العبيد وانتهت هذه التجارة رسميًا.
تهيئة المستعمرات الجديدة ودعم الاقتصاد الفرنسي
استقر الفرنسيون في منطقة البحر الكاريبي، بعد نحو 150 عامًا من اكتشاف العالم الجديد، أي منذ الجزء الأول من القرن السابع عشر، في تلك الفترة استحقت فرنسا العبيد لتطوير هذه المستعمرات الجديدة، فلجأت إلى العبيد البيض من الفرنسيين الذين لا يملكون شيئًا يخسرونه، حيث وضع هؤلاء أنفسهم في خدمة سيد فرنسي لمدة محددة غالبًا ما تكون 3 سنوات في زراعة التبغ.
لعب هؤلاء العبيد البيض دورًا كبيرًا في تهيئة المستعمرات الجديدة وإنشاء المزارع، وكذلك في نقل المهارات التقنية والصناعية من أوروبا إلى أمريكا، ولم يستطع هؤلاء الاستمرار في وضع العبودية، بعد أن غير الفرنسيون إستراتيجيتهم وتحولوا إلى إنتاج قصب السكر الذي كان مربحًا جدًا ولكنه يتطلب عملاً ومجهودًا كبيرًا.
أمام هذه الوضعية الجديدة لجأ الفرنسيون إلى إفريقيا السمراء، تلك القارة التي ينتشر فيها تجار الرقيق المحليين منذ القرن السابع، فحولوا مدن غالبية دولها إلى مراكز لتجارة العبيد السود ومقصدًا لتجار الرقيق الأوروبيين.
خلال 250 سنة، لعبت فرنسا دورًا كبيرًا في تجارة الرقيق، حيث استولى البحارة الفرنسيون على العبيد، وتم ترحيلهم على متن سفن الرقيق إلى المستعمرات الفرنسية في القارة الأمريكية، وفي تلك الفترة نفذت فرنسا آلاف الرحلات البحرية عبر موانيها المنتشرة في الكثير من البلدان.
أوغلت فرنسا بتجارة الرقيق لأكثر من 250 عاماً
خلال أكثر من قرنين، حولت فرنسا قرابة المليونين من العبيد الأفارقة السود الذين اقتلعوا من أراضيهم، إلى مستعمراتها الجديدة في جزر الأنتيل، فقد كانت تجارة العبيد عملًا مربحًا للغاية، سواء بالنسبة لتجار الرقيق أم الدولة، وقد كان أغلب العبيد الأفارقة أسرى حروب عرقية.
تمكن الفرنسيون بفضل تجارة العبيد في المحيط الأطلسي من تحقيق تقدم كبير في نسب نمو اقتصاد بلادهم، فقد تمكنوا من تطوير إنتاجهم من السكر والقهوة والكاكاو والقطن بشكل كبير في مستعمراتهم الجديدة المقابلة لقارة أمريكا الشمالية.
كانت سفن الرقيق تغادر من الموانئ الفرنسية (نانت، بوردو، لا روشيل، لوهافر..) محملة بسلع ذات جودة متواضعة (أسلحة، نبيذ، قبعات، قلادات) لمقايضتها بالعبيد، وترسوا تلك السفن في سواحل غرب إفريقيا، لتأخذ على متنها أكبر عدد ممكن من الأسرى، يتم إرسال الرجال مكبلين بالسلاسل إلى مقدمة السفينة، فيما يتم الدفع بالنساء والأطفال إلى الطابق السفلي. بعد ذلك، تتوجه السفن إلى الجزر الأمريكية، حيث يعيد التجار بيع من نجا من عبيدهم هناك، ليشتروا بعد ذلك منتجات مزارع جزر الكاريبي (السكر، الكاكاو، القهوة، الأحجار الكريمة) لإعادتهم إلى بلدهم فرنسا.
بفضل هؤلاء العبيد الذين يعملون على إيقاع السوط وتحت العين الساهرة للسيد القاسي، أصبحت فرنسا الاستعمارية في القرن الثامن عشر أكبر مصدر للسكر والقهوة والقطن في العالم، ليتطور بذلك اقتصادها وتحتل المراتب الأولى عالميًا.
هذه التجارة الثلاثية وفرت وظائف جديدة للفرنسيين، ليس للبحارة وعمال أحواض بناء السفن فقط، ولكن أيضًا للصناعات المعدنية والنسيجية ولموظفي معامل تكرير السكر ومصانع الأسلحة، لذلك فهي تجارة مربحة لهم رغم تعارضها مع مبادئ حقوق الإنسان.
نانت.. عاصمة لتجارة الرقيق الفرنسية
ساهمت الدولة الفرنسية في تطوير هذه التجارة، حيث سمحت للموانئ الرئيسية في البلاد بداية القرن الثامن عشر بتداول العبيد بحرية، كما خفضت نصف الضرائب على المواد الغذائية القادمة من المستعمرات مثل السكر.
هذه الإجراءات، أدت إلى بروز موانئ عدة على السواحل الفرنسية، موانئ كانت مسؤولة عن أكثر من 4 آلاف سفرة لحملات بيع الرقيق أرسلت على سواحل إفريقيا وأمريكا، كان لميناء نانت النصيب الأكبر من هذه الرحلات، حيث غادرته قرابة 1744 شحنة تمثل 41.3% إجمالية الشحنات.
هكذا كان يُوضع العبيد في السفن الفرنسية
خلال القرن الـ18، خصص ميناء نانت نسبة تتراوح بين 10 إلى 33% من تجارته البحرية للمسافات الطويلة لتجارة الرقيق، ففي قرن فقط كانت سفن نانت قد نقلت أكثر من 550 ألف “عبد” أسود إلى المستعمرات الفرنسية الجديدة.
أمام هذا الوضع، تحولت نانت إلى عاصمة بلا منازع لتجارة الرقيق الفرنسية، رغم وجود 18 مدينة أخرى – تسعة في المحيط الأطلسي، وسبعة في القناة الإنجليزية، واثنان على البحر المتوسط - شاركوا في هذه التجارة وفقًا لقدراتهم.
أسواق العبيد
في هذا الوضع، حولت فرنسا العديد من الدول الإفريقية المطلة على الساحل الأطلسي إلى أسواق للعبيد، على غرار بنين والسنغال وكوت ديفوار، غير أن كوت ديفوار كانت أكثر الدول الإفريقية تضررًا من تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي، ويقدر المؤرخ وعالم الإجتماع جيرار نوريل، أنه بين عامي “1625 و1848، رحلت أكثر من 4200 بعثة عبيد مليوني عبد إلى أراضي أول إمبراطورية استعمارية فرنسية”، خاصة في جزر الأنتيل الصغرى، و42% من هؤلاء العبيد جاءوا من كوت ديفوار و29% من بنين و17% من سينيجامبيا (السنغال).
تعتبر جزيرة غوري شاهدةً على همجية الإنسان الغربي في تعامله مع شعوب إفريقيا، حيت كان تجار العبيد يفرقون العائلة الواحدة إلى وجهات متعددة عند ترحيلهم
هذه الدول الإفريقية الساحلية كانت تلعب دورًا اقتصاديًا رئيسيًا في هذه التجارة المربحة للتجار الفرنسيين، فقد كانوا بمثابة الوسطاء، حيث تبيع الأسير القادم من المناطق الداخلية لإفريقيا إلى تجار الرقيق الفرنسيين.
في هذه الفترة، حول الفرنسيون مناطق معينة إلى أسواق للعبيد في تلك الدول الإفريقية، ففي البنين تم تحويل العاصمة بورتو نوفو إلى موقع رئيسي لتجارة الرقيق، وفي عويضة (غرب كوتونو) يقضي العبيد ليلتهم الأخيرة قبل الشروع في رحلة عبر المحيط الأطلسي.
جزيرة “غوري” أو بوابة المعاناة
ضمن هذه الأماكن أيضًا جزيرة “غوري” السنغالية التي تعرف بجزيرة الرقيق أو بوابة المعاناة، التي تقع في المحيط الأطلنطي في مواجهة العاصمة السنغالية داكار ولا يفصلها عنها إلا خليج مائي لا يتعدى طوله بضعة كيلومترات.
هناك بُني آخر مركز لتجميع الرقيق والمعروف باسم “منزل العبيد“، الذي يتكون من طابقين، وفيه يُحتجز مئات الأفارقة في الطابق السفلي في ظروف غير إنسانية، حجرات ضيقة ومظلمة لا يرى منها “العبد” نور الشمس، كان التجار يرمون فيها “العبيد” مكبلين بالأغلال في انتظار السفن التي ستقلهم إلى الجانب الآخر من الأطلسي.
بيت العبيد في غوري
هذا المنزل قسم إلى 5 أماكن، واحد مخصص للرجال وآخر للنساء وثالث للأطفال ورابع للفتيات، فيما خصص المكان الرابع للعبيد المتمردين، ولا تتجاوز مساحة الغرف في هذا المنزل 6.76 متر مربع، فيما لا يتجاوز سقف الغرفة 0.8 متر.
كانت هذه الدار نقطة بيع وترحيل للرقيق، حيث تبدأ العملية بمقايضة العبيد بالبضائع ومن ثم ترحيل الضحايا عن طريق باب اللاعودة الشهير، وهو البوابة الخلفية للدار المطلة على المحيط الأطلسي، وإلى الآن هذا المنزل شاهد على معاناة الأفارقة في تلك الحقبة الزمنية.
هذه الجزيرة، تعتبر شاهدةً على همجية الإنسان الغربي في تعامله مع شعوب إفريقيا، حيت كان تجار العبيد يفرقون العائلة الواحدة إلى وجهات متعددة عند ترحيلهم، ثم يتم مسح هويتهم حيت يعطونهم أسماءً جديدةً قبل أن يتفننوا في تعذيبهم حتى يصبحون عبيدًا مستسلمين.