في سبتمبر/أيلول 2018، أقرّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأن بلاده مسؤولة عن إقامة “نظام تعذيب” إبان استعمار الجزائر الذي انتهى في العام 1962، وقد صرّح سابقًا في فبراير/ شباط 2017 أثناء حملته الانتخابية بأن استعمار فرنسا للجزائر كان “جريمة ضد الإنسانية”. اعترافات من أعلى هرم السلطة الفرنسية بارتكاب بلادهم الاستعمارية جرائم في حق الجزائريين، لكن دون تقديم أي اعتذارات أو تلميحات بالأسف.
ضمن سلسلة تقارير “جرائم فرنسا في إفريقيا” في نون بوست، نكتب اليوم عن جرائم السلطات الفرنسية في الجزائر، تلك الجرائم التي لن تمحى من ذاكرة الأحرار هناك.
مجازر 8 مايو 1945
في أثناء احتلال فرنسا للجزائر، وتحديدًا في الفترة الزمنية الممتدّة من 5 يوليو 1830 إلى 5 يوليو 1962، اقترفت فرنسا العديد من المجازر والجرائم بحق مئات آلاف الجزائريين التي ما زالت محفورة في الذاكرة الجماعية الوطنية.
مجازر عدّة، تفنّن الفرنسيون في القيام بها، حيث عمدت الدولة الاستعمارية إلى استخدام كل الإجراءات الممكنة والمتوفرة لديها، لقمع الجزائريين دون تمييز المدنيين العزل من أطفال ونساء وشيوخ، فقد كان همّها إذلال الجزائريين والنيل من كرامتهم بعد الاستحواذ على خيرات بلادهم.
تفنّنت فرنسا في جرائمها في حق الجزائريين، حتى أنها استعملتهم كفئران تجارب
في الثامن من مايو/ أيار 1945، كان العالم على موعد مع انتهاء النازية، لكنه كان أيضًا على موعد مع واحدة من أكثر اللحظات دموية في التاريخ الإنساني المعاصر، فقد سقط في ذلك اليوم ألاف الشهداء في مدن مختلفة في الجزائر على يد المستعمر الفرنسي.
ففي ذلك اليوم، شهدت مدن سطيف ، قالمة، وخراطة، وقسنطينة، سقوط آلاف القتلى الجزائريين (45 ألفًا بحسب إحصاءات الذاكرة الوطنية الجزائرية) برصاص الشرطة والجيش ومليشيات المستوطنين، بسبب رفع الجزائريين لعلم بلادهم.
إذ سمح الفرنسيون للجزائريين بالخروج إلى الشوارع في مظاهرات، شرط ألا تكون ذات طبيعة سياسية، وألاّ ترفع فيها أي لافتة أو رمز يدلّ على مطالب سياسية، وألا يرفع فيها أي علم بخلاف علم فرنسا، وألا يهتف بأي شعار مناهضة للفرنسية.
بدأ الجزائريون في الاجتماع صباحًا، وبدأت المظاهرات في اجتياح الشوارع، حملت المسيرات في البداية أعلام دول الحلفاء الفائزة على دول المحور، لكن دقائق قليلة حتى رفع العلم الجزائري عاليًا، وهتفت الحناجر بأعلى صوتها منادية بالحرية والاستقلال.
رد فعل الإدارة الاستعمارية كان شرسًا وعنيفًا، فقد رأت في سلوك الجزائريين تمرّدا على سلطتها وقراراتها، أطلقت الرصاص على المتظاهرين العزل، وتفنّنت في تقتيل الجزائريين دون أن تستثني الأطفال والنساء والشيوخ.
تجارب نووية
تفنّنت فرنسا في جرائمها بحق الجزائريين، حتى أنها استعملتهم كفئران تجارب، ففي صباح يوم الـ13 من فبراير/ شباط 1960، استيقظ سكان منطقة رقان الواقعة بالجنوب الغربي الجزائري نحو الساعة السابعة وأربع دقائق على وقع انفجار ضخم ومريع.
لقد قرّرت فرنسا أن تجعل من سكان الجزائر حقلاً للتجارب النووية، حيث فجّرت القنبلة الأولى هناك تحت اسم “اليربوع الأزرق“، تيمنًا بأول لون من العلم الفرنسي، بطاقة تفجيرية ضخمة، لم يسبق لسكان الجزائر السماع بمثلها.
أدى استخدام فرنسا لمواد كيمائية على غرار البلوتونيوم في تنفيذ تجاربها النووية إلى ظهور عدة أمراض سرطانية وجلدية وتنفسية لسكان المناطق التي شهدت هذه التفجيرات التي وصفها عديد الجزائريين بالوحشية وصنفت في خانة الجرائم ضد الإنسانية.
رغم مرور أكثر من خمسة عقود على هذه التجارب النووية، مازالت الصحراء الجزائرية تحتضن بين رمالها عقارب نووية تتربّص بسكان الجنوب الذين يعانون من مرض السرطان، الذي أرجعه الأطباء إلى التسريبات النووية التي تنبعث من منطقة “الأصفار”، أماكن نقاط التفجير المركزية.
لم تكتفي فرنسا بهذه التجربة النووية فقط، فخلال الأعوام 1960 و1966، أجرت باريس 17 تجربة نووية، تسببت في مقتل 42 ألف جزائري وإصابة آلاف الآخرين بإشعاعات نووية، علاوة على الأضرار الكبيرة التي مست البيئة والسكان والحياة ككل، وما زالت آثارها إلى الآن شاهدة على هولها وفظاعتها.
مجزرة نهر السين بباريس
المجازر في حقّ الجزائريين لم تكن داخل التراب الجزائري فقط، فقد وصلت باريس أيضًا. قبل خمسة أشهر من انتهاء الحرب الجزائرية، في 17 أكتوبر/ تشرين الأول 1961، تحول شارع “سان ميشال” بالعاصمة الفرنسية باريس إلى مسرح لواحدة من أكبر المذابح بشاعة في تاريخ أوروبا الغربية المعاصر.
مساء ذلك اليوم، بعد انتهاء دوام العمل، خرجت ثلاث مسيرات احتجاجية بطريقة سلمية، انطلقت المسيرة الأولى من جسر “نويي” باتجاه ميدان “الإيتوال”، وتحركت الثانية من ميدان “أوبرا” إلى ميدان “الجمهورية”، والثالثة من ميدان “سان ميشال” إلى شارع “سان جيرمان دو بري”.
لم تكتفي الشرطة الفرنسية بقتل المتظاهرين العزّل، بل قامت برمي جثث عدد كبير منهم في نهر السين للتغطية على بشاعة جرائمها
جاءت هذه المسيرات بدعوة من فيدرالية جبهة التحرير الوطني بباريس، ضد قرار حظر التجول التمييزي الذي أصدره حاكم الشرطة موريس بابون ضدّهم منذ الخامس من ذلك الشهر (كان يمنعهم من التجوال من الثامنة والنصف مساء إلى الخامسة والنصف صباحًا)، وتضامنا منهم مع إخوانهم الذين يقاتلون في الجزائر.
ردّ الشرطة الفرنسية كان عنيفًا، رغم أن المسيرات خرجت خروجًا سلميًّا، حيث عمدت إلى قمع هذه المظاهرات السلمية بشكل وحشي في شارع سان ميشال، وحي سان سيفرين، باستخدام العصي والقنابل المسيلة للدموع والرصاص، ما أدى إلى مقتل وفقدان المئات وإصابة الآلاف، واعتقال نحو ثلاثين ألفا، وترحيل نحو عشرين ألفا منهم للجزائر، وغيرهم ممن وضعوا في المعتقلات.
لم تكتفي الشرطة الفرنسية بقتل المتظاهرين العزّل، بل قامت برمي جثث عدد كبير منهم في نهر السين للتغطية على بشاعة جرائمها، وأكّدت عدة مصادر تاريخية أن عشرات الجثث ظلت تطفو فوق نهر السين أيامًا عديدة بعد تلك الليلة السوداء، وعشرات أخرى اكتشفت في غابتي بولون وفانسون، إضافة إلى عدد غير معروف من الجزائريين تم التخلص منهم رمياً من على متن الطائرات ليبتلعهم البحر.
سرقة الجماجم
استمرت فرنسا بقتل الجزائريين والتنكيل بجثثهم، وتعمدت سرقة جماجم العديد منهم والاحتفاظ بها في علب من الورق المقوّى داخل خزانات حديدية في قاعة منعزلة بمتحف “الإنسان” بعيدًا عن مرأى العموم، ولم يكشف سر وجود تلك الجماجم حتى شهر مارس 2011 بعد تحركات للباحث الجزائري “علي فريد بالقاضي” المقيم في فرنسا.
من بين القادة المحفوظة جماجمهم في فرنسا والذين تم التعرف عليهم، الشيخ بوزيان زعيم ثورة الزعاطشة “جنوب شرق” البلاد في عام 1949، وشريف بوبغلة الذي تزعم القتال ضد المستعمر في منطقة القبائل “وسط الجزائر” في مطلع عام 1850، وموسى الدرقاوي، وسي مختار بن قديودر الطيطراوي، والرأس المحنطة لعيسى الحمادي الذي كان ضابطاً لدى شريف بوبغلة، وكذلك رأس الضابط محمد بن علال بن مبارك، الذراع اليمنى للأمير عبد القادر.
وسبق أن بثّت قناة “فرنسا 24” الفرنسية، تقريراً كشفت فيه عن 18 ألف جمجمة محفوظة بمتحف “الإنسان” في باريس؛ منها 500 فقط جرى التعرف على هويات أصحابها، من ضمنهم 36 قائداً من المقاومة الجزائرية قُتلوا ثم قُطعت رؤوسهم من قبل قوات الاستعمار الفرنسي أواسط القرن الـ19، ثم نقلت إلى العاصمة الفرنسية لدوافع سياسية وأنتروبولوجية.
طمس الهوية الجزائرية
حاولت فرنسا طيلة قرن وثلاثين سنة من احتلالها للجزائر، طمْس الهوية الجزائرية من خلال ممارسة عملية مسخ ثقافي ولغوي ارتكنت إلى محوِ الشخصية الجزائرية التي تكونت بفعل التراكمات التاريخية.
فقد سعت فرنسا في تلك الفترة، إلى القضاء على الواقع الفكري والثقافي الجزائري عبر محو مقومات الشخصية الجزائرية، وإذابتها في المجتمع الأوروبي المستوطن، بهدف تغيير النمط المجتمعي والهوية الجزائرية، وهدم البنى الحضارية هناك وإعادة صياغته بما يتماشى ويكفل الهدف الاستعماري الاستيطاني.
ضمن هذه المساعي، سنت فرنسا قانونًا يلغي اللغة العربية ويعتبرها لغة أجنبية في الجزائر، من أجل التضييق على جمعية العلماء الجزائريين المسلمين. عرف هذا القانون الذي صدر في ثلاثينات القرن الماضي بمرسوم شوطون (أصدره رئيس وزراء فرنسا كاميي شوطون).
كما منع المرسوم مدارس جمعية العلماء المسلمين من مزاولة نشاطها إلا برخصة، في حين امتنعت سلطات الاستعمار عن إصدار الرخص رغم الطلبات المكثفة والملحة، للجمعية التي قررت محاربة الجهل ونشر الوعي والعلم بين أفراد الشعب الجزائري، ذكورا وإناثا.
فضلًا عن ذلك، عملت فرنسا على شن حرب شرسة ضد المساجد والمدارس القرآنية، فقد أسست أول مدرسة تبشيرية للمسيحية في عام 1836، ووضعت قوانين للتمييز العنصري، وعملت على تجنيس الآلاف من الجزائريين.
كما أقدمت سلطات الاستعمار على تأسيس مدارس فرنسية في عدة مناطق في البلاد، ومنع الحاكم العام الفرنسي للجزائر فتح مدارس لتعليم اللغة العربية، وطالب المستوطنون الذين افتكوا الأراضي بإلغاء التعليم الابتدائي للجزائريين، بهدف توفير اليد العاملة الرخيصة لخدمة مزارعهم.
نكتفي بهذه الجرائم المرتكبة في حق الجزائريين، فإن تطرّقنا إلى جميعها فلن تكفينا الكتب والمجلدات للحديث عنها نظرا لكثرتها، فالفرنسيون تفننوا في تعذيب الجزائريين للاستفراد بثروات بلادهم وطمس هويتهم، كأنهم سيخلدون فوق هذه الأراضي.