لم نختر الحرب، لكنها اختارتنا .. هي تعلم أنّنا لا نخاف الموت، علمنا أجدادنا ألا نقبل الدنية، ألا نرضى الهوان، وإذا قاتلنا نقاتل حتى آخر بقعة دم، ننتصر أو نموت!
لا تلعنوا الأيام والعنوا الحرب، الفاجعة الأكبر لقلوبنا، كيف علينا أن نصمد في بقعة والحبيب في بقعة أخرى وسط نار الموت ينتظر دوره؟ هل علينا أن نكون أكثر جرأة ونقول لهم حينئذ: اثبتوا بين الموت ولا تخرجوا؟ خمسون ليلة قاسية، أقساها ليلة مجزرة الشجاعية، يوم استيقظنا على صور التدمير والتشريد، كان الصباح باهتًا والنساء مهرولات في فزع، يحاولن أن يكن أسرع من القذائف التي تملأ السماء، ولكنهن لم يكن أسرع من غمام الموت الذي كان يظللهم .. أحب هذا الحي وأحب ما فيه وأحب أهله الشجعان الذين يقولون عن حيهم الشجاعية “العاصمة” واليوم بات حبي له أكبر لأن عاصم (خطيبي) من سكانه.
لا أسكن الشجاعية، لكن الصور كانت كافية لتظهر بشاعة المجزرة، كنا نسمع أصوات الانفجارات ونحن في الطرف الآخر من المدينة، اتصلت بعاصم وبمجرد أن فتح الخط قلت له: “عاصم يلا اطلعوا، اطلعوا وتعالوا عنا، القصف قوي كتير وما ضل حد في الشجاعية، أمانة اطلعوا” رد بهدوء: “ما بنقدر نطلع يا إسلام” ثم جعل يهدأ من روعي ويخبرني أن الأمر ليس بالسوء الذي أعتقده، كل شيء كان يقول بأن هناك مجزرة، بل مجازر، وعاصم يصر على البقاء، اتصلت مباشرة بصديقاتي في الحي، إحداهن حدثتني عن عدد الجثث الملقاة على الرصيف والتي اضطرت للقفز من فوقها وهي تهرب، أخرى أرسلت لي رسالة بكلمة “نكبة” واكتفت، ثالثة لم ترد، اكتشفت لاحقًا أن هاتفها وقع منها وهي هاربة من الموت، الشيء الوحيد المشترك بينهن هو الهروب من الموت والصمود الذي كتبه أهل الشجاعية بدمائهم.
أذكر جيدًا حينما ذهبت للشجاعية في إحدى التهدئات القصيرة، تلك المرأة التي جلست بجواري في السيارة وأنا لا أعرفها وبدأت تحدثني عن فرحتها لعودتها لمنزلها، عن شوقها لغرفتها الصغيرة وخزانة ملابس أطفالها، كنت أفكر: “هل حقًا بقيت غرفتها الصغيرة؟ وهل حقًا نجت ملابس أطفالها؟”، كانت الشجاعية تحاول أن تظهر قوية كما كانت، تمسح دموعها وتبتسم، لكن الله وحده يعلم ما في قلوب المكلومين .. فجأة قام الاحتلال بخرق التهدئة وارتكب مجزرة بشعة ضد المدنيين على بعد 500 متر من منزل عاصم الذي كنت فيها، بدأت الصور تأتي سريعة جدًا، أصوات الإسعافات حولنا عالية جدًا، خرجت برفقة عاصم بسرعة من البيت، خرجنا نلتمس طريقًا آمنًا وليس في غزة مكان آمن، كنا نشتم رائحة الموت تخرج من بين أزقة الحي وتنتشر أكثر بين المباني المقصوفة، كنت أنظر لمن حولي بارتباك وكلما رأيتهم يهرولون أسرع شعرت بالموت أسرع وأسرع .. بعد دقائق صارت الشوارع فارغة، لا أحد سوانا يمشي بحثًا عن سيارة أو أي شيء يحملنا بعيدًا، مشينا طويلاً، وصلنا بيتي بعد تعب، وقف عاصم على باب البيت ثم رحل سريعًا بعد أن قال: “سلام!” مرت الدقائق بطيئة جدًا، أسمع القصف من حولي ولا أعرف ماذا أفعل، بعد 56 دقيقة بالضبط وصلتني رسالة: “أنا بخير، وصلت البيت الحمد لله” حينها بكيت كثيرًا ونمت.
الموت هنا أصبح عادة نمارسها كل يوم، ما من أحد في غزة إلا عاينه بنفسه، الموت الذي سبقناه قليلاً حينما مررنا من أمام منزل عائلة الدلو ونحن نتحدث عن الجنة ثم حوار عاصم مع سائق السيارة عن المقاومة وثبات الشعب معها .. فلما عبرنا الشارع قام الاحتلال بتدمير المنزل فارتكب مجزرة جديدة ضد المدنيين.
هرمت الحياة بعدما عشنا بضع أيام من التهدئة كنا فيها نسابق الزمن لنستقى من الحياة ما يكفينا، عادت الحرب وعدنا جميعنا لنتكوم بين جدران المنزل وفي زوايا الغرف، عدنا مرة أخرى لعتمة الليل وقصف الطائرات المرعب، عدنا وعاد الصغار للخوف!
خمسون يومًا، ولازلنا في كل صباح نستيقظ نحلم بمستقبلنا دون ملل أو يأس، لازالت فرح “أختى الصغرى” تلح علينا أن نذهب لنأكل المثلجات، وأختي هديل تريد تعويض (الفسح) التي حرمت منها في إجازتها الصيفية، بينما رِهام تشتاق للجامعة وللدراسة رغم تذمرها منهم دائمًا، والدي ووالدتي المعلمان النشيطان ينتظران العودة للمدارس بشوقٍ لم نعهده عليهما من قبل! لازلت وصديقاتي ننتظر العودة للحياة ونقسم ألا نتذمر مرة أخرى من روتينها، كل الحياة ستعود مرة أخرى بكل الحب، ستعود ربما أجمل مما كانت!
صحيح أن شرطي المرور الذي كان يقف على مفترق السرايا لن يعود، وذلك الصحفي الذي اعتدنا متابعة تقاريره لن يعود، وابن عمتي لن يعود، وشقيق صديقتي لن يعود، والسائق الذي كنا نركب معه لن يعود! صحيح أنهم لن يعودوا، لكننا سنعود نحبهم أكثر، سنمر على أماكنهم التي اعتدنا رؤيتهم فيها ونبتسم في كل مرة، كأنهم ما زالوا هناك .. سنعود لنحب أكثر كما قال لي عاصم، سنرمم أحلامنا التي ضعفت، نبني أيامنا التي قُصفت، ونعشق ذكرياتنا التي رحلت! سنعود ويعود الحب أبقى وأكبر، وإني أحبكَ أكثر.
رابط الشق المكمل للمدونة كتبه عاصم، تجدوه (هنـا)