رسمت الحكومة التركية منذ تولي حزب العدالة والتنمية الحكم في البلاد خطة وخريطة دبلوماسية جديدة، خلقت فيها مكانًا للجميع تقريبًا، وسعت إلى الاستفادة من أقرانها الجدد على جميع الأصعدة الممكنة، فقد بدأت تظهر أكثر فأكثر على شاشة التلفاز وصفحات الأخبار الأولى وهي تستقبل زائر أو تصافح مضيف لعقد اتفاقيات سياسية وتجارية وأمنية ثنائية، وكان آخرها زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لباكستان، كأول زيارة رسمية يقوم بها زعيم أجنبي إلى باكستان منذ العام الحاليّ، برفقة نحو 70 من رجال الأعمال والمستثمرين الأتراك وممثلي المؤسسات التجارية.
توالت الزيارات المتبادلة بين أنقرة وإسلام آباد لأغراض مختلفة، ولكن هذه الزيارة على وجه الخصوص من المتوقع أن تنتقل العلاقات التركية الباكستانية إلى مستوى رفيع من التقارب والانتعاش، فمن المرجح أن يوقع البلدان عددًا من الاتفاقيات الثنائية ومذكرات التفاهم لتعزيز التعاون في مجالات مختلفة، وذلك ضمن مشاركتهما في أعمال الاجتماع السادس لمجلس التعاون الإستراتيجي بين البلدين. بناءً على ذلك، نتناول في هذا التقرير أهم جوانب هذا اللقاء، إضافة إلى العلاقات التاريخية والمصالح المشتركة والتحولات الجذرية التي وقعت في مسلك البلدين.
توقعات عالية من الزيارة
تطرح هذه الزيارة مجموعة من الاقتراحات والصفقات، وأكثرها تميزًا خطة تتعلق بحصول مواطني البلدين على جنسية مزدوجة، حيث ظهرت هذه الفكرة خلال اجتماع جمع بين وزير الداخلية الباكستاني إعجاز أحمد شاه والسفير التركي في باكستان إحسان مصطفى يورداكول الذي اقترح هذه الخطوة، بموجبها سيتمكن مواطنو كلا الطرفين من الحصول على الجنسية المشتركة وجوازات السفر المزدوجة.
أضافت باكستان تركيا إلى قائمة السفر دون تأشيرة في شهر مايو/آيار من العام الماضي، بهدف تشجيع السياحة والأعمال بين البلدين
يتبع ذلك مناقشات بشأن مسائل ثنائية أخرى مثل التعاون العسكري وتدريب الضباط وقوة الدوريات وشرطة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات على نمط قوة دولفين العاملة في لاهور بهدف تحسين كفاءة القوى العاملة ومكافحة جرائم الشوارع والاضطرابات المدنية وضمان الأمن حول الممر الاقتصادي بين الصين وباكستان (CPEC).
يعود ذلك إلى بروتوكول تعاون أمني قديم، تم توقيعه بين باكستان وتركيا خلال زيارة رئيس الوزراء نواز شريف إلى أنقرة، سعت بواسطتها إسلام أباد إلى إصلاح نظام الشرطة في البلاد من خلال تحسين أنظمة التجنيد والتدريب والقيادة والسيطرة وفعالية المعدات.
تركز هذه الزيارة أيضًا بشكل أساسي على الشق الاقتصادي، لا سيما في مجالي الدفاع والأمن، فقد زادت الصادرات التركية إلى باكستان من 155 مليون دولار عام 2008 إلى 352 مليون دولار عام 2017، كما تجاوز الاستثمار التركي في باكستان مليار دولار عام 2017، ورافقتها اتفاقية تجارة حرة تهدف إلى زيادة التجارة الثنائية من 900 مليون دولار إلى 10 مليارات دولار بحلول عام 2022.
ومع استمرار الخطوط الجوية التركية في التوسع ونمو إسطنبول كمحور طيران إقليمي، ستسهل هذه الاتفاقية أيضًا حرية التنقل بين البلدين، لا سيما بالنسبة إلى تركيا التي تتطلع إلى تعزيز السياحة من الدول الإسلامية لتعويض خسارة السياح من أوروبا الغربية في السنوات الأخيرة. في المقابل، أضافت باكستان تركيا إلى قائمة السفر دون تأشيرة في شهر مايو/آيار من العام الماضي، بهدف تشجيع السياحة والأعمال بين البلدين، مما زاد الثقة بين الجانبين.
تاريخيًا.. الكثير من المساندات والمجاملات
التقت الطرق بين تركيا وباكستان بعد فترة وجيزة من إعلان استقلال إسلام آباد عام 1947، حين عبر مؤسس جمهورية باكستان محمد علي جناح عن إعجابه بالنموذج التركي ورغبته في تطوير باكستان على النمط العلماني الحداثي الذي أسسه مصطفى كمال أتاتورك، فقد صرح قائلًا: “تعجب باكستان بماضي تركيا المجيد وإنجازاتها الإدارية وقدراتها التنظيمية في الماضي والحاضر. يبلغ عمر باكستان الآن شهرين، وفي المستقبل القريب، ستقيم الدولتان الشقيقتان علاقات ثقافية وتجارية وسياسية وثيقة، وستظهر حقبة جديدة سعيدة لهاتين الدولتين”.
تعاقبت منذ ذاك الحين، المجاملات والمساندات المعنوية والمادية، فقد كرمت تركيا الزعيم جناح، وأسمت شارعًا رئيسيًا باسمه في العاصمة التركية أنقرة، وكذلك فعلت باكستان التي أطلقت اسم أتاتورك على بعض طرقها في إسلام آباد وكراتشي ولاهور وبيشاور كبادرة للعلاقات الثنائية التي سوف تدوم لعقود طويلة.
يعود تاريخ هذه الروابط إلى فترة “حركة الخلافة” التي نشأت لتقديم الدعم للدولة العثمانية والتصدي للجرائم التي أحاطت بالأتراك من كل جانب.
خُلِق هذا الانسجام سريعًا كالشرارة بين الجانبين، بناءً على المصالح والمنافع المشتركة بين البلدين، فهما دولتان ذات غالبية مسلمة (تعد باكستان ثاني أكبر دولة إسلامية من حيث عدد السكان بعد إندونيسيا) وكان كلاهما حليفًا وثيقًا للولايات المتحدة خلال فترة الحرب الباردة، وخاضا كذلك معارك وصراعات للاستحواذ على استقلالهما، وفيما بعد جمعتهم العديد من المنظومات والساحات الدولية مثل منظمة التعاون الاقتصادي (ECO)، ومنظمة الدول النامية الثمانية (D8) للتعاون الاقتصادي، وذلك عدا عن اشتراكهما في روابط ثقافية وجيوسياسية واسعة النطاق.
يعود تاريخ هذه الروابط إلى فترة “حركة الخلافة” التي نشأت لتقديم الدعم للدولة العثمانية، الذكرى التاريخية التي ذكرها سابقًا عمران خان قائلًا: “علاقات السكان الذين يعيشون اليوم في هذه البقعة الجغرافية التي نسميها باكستان تعود إلى فترة “حركة الخلافة” التي بدأت عام 1920، وتأسست لوقف الهجمات التي تعرضت لها تركيا من كل حدب وصوب في تلك الفترة، التي عمل فيها سكان هذه المنطقة ومسلمو الهند على جمع الأموال لمساعدة تركيا، التي كانت تكافح ضد هجمات عدة بلدان أوروبية.”
هذه الحوادث التاريخية تصورات إيجابية وودية لكلا الشعبين عن بعضهما، كما أنها مهدت الطريق لتحالفات مشابهة مثلما شهدنا في قمة كوالالمبور الإسلامية التي عُقدت في ديسمبر/كانون الأول الماضي لدعم القيم الإسلامية الصحيحة وتعزيز التضامن بين الأمة الإسلامية
تبدأ القصة باختصار تقريبًا من تاريخ 4 أغسطس/ آب 1914 حين اندلعت الحرب العالمية الأولى، واجتمع في ذلك الوقت قادة المسلمين في دلهي (الهند)، وقرروا إرسال برقية إلى سلطان تركيا بعدم الانضمام إلى الحرب. ومع ذلك، انضمت تركيا إلى ألمانيا في الحرب ضد الحلفاء، مما أثار قلق مسلمي جنوب آسيا الذين حاولوا تقديم كل مساعدة ممكنة لتركيا، ولكن الحرب انتهت بتقسيم أراضيها بين المنتصرين. وفي يونيو/ حزيران 1916، ثار الشريف حسين ضد السلطان واستولى على السلطة في الحجاز، واعتبر مسلمو الهند البريطانية هذا التمرد طعنة بريطانية للدولة التي قادت العالم الإسلامي لعدة قرون، الأمر الذي دفعهم لتقديم الدعم الكامل للأتراك لإنقاذهم من التفكك التام. ونتيجة لهذه المشاعر، تأسست حركة الخلافة في الهند عام 1920 من أجل التصدي للجرائم التي أحاطت بالأتراك من كل جانب.
أسست هذه الحوادث التاريخية تصورات إيجابية وودية لكلا الشعبين عن بعضهما، كما أنها مهدت الطريق لتحالفات مشابهة مثلما شهدنا في قمة كوالالمبور الإسلامية التي عُقدت في ديسمبر/كانون الأول الماضي لدعم القيم الإسلامية الصحيحة وتعزيز التضامن بين الأمة الإسلامية، وتحقيق نهوض اقتصادي وتقني وعسكري بين الدول المشاركة، لكنها لم تكتمل كما خطط لها أن تكون بسبب الضغوط الإماراتية والسعودية على خان، إلا أنه في نهاية المطاف عبر عن ندمه بعدم الحضور قائلًا: “أصبح واضحًا الآن أن قمة كوالالمبور لم تكن تهدف إلى تقسيم الأمة، والنتائج التي توصلت إليها توحد الأمة وبالطبع كنت أتمنى الحضور”.
في أوقات الحرب والسلام
لم يترك البلدان أحدهما الآخر عالقًا في أوقات الحاجة أو الضيق، فقد أوفيا بعهودهما ومواثيقهما في السراء والضراء، إذ مر كلاهما بأوقات عصيبة ومنعطفات حادة، إلا أن تركيا ظلت دائمًا صديقًا حميمًا لباكستان، والأمر نفسه من جانب باكستان التي ساندت تركيا علنيًا على المسرح الإقليمي والدولي، ففي يوليو/تموز 1964، زار الرئيس الباكستاني آنذاك أيوب خان تركيا وأعرب عن قلقه إزاء الوضع في قبرص وأبدى اهتمامه ودعمه للجانب التركي، وردًا على هذا الموقف، أبدى رئيس الوزراء التركي حينها سليمان ديميريل امتنانه لهذه الخطوة.
شملت صادرات تركيا إلى باكستان القمح والحمص والعدس والديزل والكيماويات ومركبات النقل والآلات ومنتجات الطاقة، كما استثمرت الشركات الخاصة التركية بشكل كبير في المشاريع الصناعية والبناء التي تطور الطرق السريعة
تحولت هذه التلويحات الدبلوماسية إلى تعاونات تجارية، وبدأت عملية استيراد المنتجات الباكستانية مثل الأدوات الجراحية والصودا الكاوية (هيدروكسيد الصوديوم) والجلسرين وزيت الخروع ومنتجات الفولاذ المقاوم للصدأ. من ناحية أخرى، كان المستوردون الباكستانيون حريصين على شراء المواد الكيميائية والمنسوجات من تركيا. إلى جانب ذلك، حافظ كلا الطرفان على علاقات عسكرية طويلة الأمد، حيث زودتها تركيا بالأسلحة والمعدات العسكرية ودربت كذلك الضباط الباكستانيين.
ولاحقًا، اتسعت التبادلات التجارية واقتحمت مجال الأغذية والزراعة والصناعة والنقل والسياحة، وعليه فقد شملت صادرات تركيا إلى باكستان القمح والحمص والعدس والديزل والكيماويات ومركبات النقل والآلات ومنتجات الطاقة، كما استثمرت الشركات الخاصة التركية بشكل كبير في المشاريع الصناعية والبناء التي تطور الطرق السريعة وخطوط الأنابيب والقنوات في إسلام آباد.
توحدت وجهات نظرهما فيما يخص ظاهرة الإسلاموفوبيا ومكافحتها، الأمر الذي دفع رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان إعلان تأسيس قناة تليفزيونية لمواجهة هذا التحدي وتصحيح المفاهيم والتصورات السلبية
وبطبيعة الحال، تخللت هذه الاتفاقيات، تأييدات علنية سواء فيما يخص التطورات الخارجية أم الداخلية لأي من البلدين، على سبيل المثال أعلن أردوغان عام 2005 حزمة إغاثة من الحكومة التركية إلى الباكستانيين بقيمة 100 مليون دولار وسلع بقيمة 50 مليون دولار، بما في ذلك مليون بطانية وأطنان من الطعام، لمساعدتهم في محنتهم جراء الزلزال المدمر الذي ضرب منطقة كشمير آنذاك.
وفي أوقات ليست بعيدة، مدت أنقرة يد العون مجددًا إلى باكستان في ملف إقليم كشمير المتنازع عليه مع الهند، مع العلم أن جزءًا من اهتمام أردوغان بهذه القضية يعود إلى تقليده دور المدافع عن المسلمين في جميع أنحاء العالم، وليس طمعًا في رضى باكستان فقط، في الوقت نفسه لا تشوه هذه الإستراتيجية الصورة المثالية لأنه ومع استعراضنا لطبيعة علاقتها مع باكستان وتركيا، سندرك أن علاقتهما كانت منذ البداية علاقة تكاملية وبعيدة عن المشاحنات والمنافسة.
بادلت باكستان تركيا هذه المواقف بظروف مختلفة، ففي النصف الأخير من عام 2015 طلب الجيش التركي من المخابرات الباكستانية الدعم في أثناء حملته ضد حزب العمال الكردستاني، وخلال أزمة الليرة التركية الأخيرة، أطلق الشعب الباكستاني حملة لدعم الليرة، حيث تدفقوا إلى محال الصرافة لشراء الليرة التركية من السوق. وفي وقت سابق من هذا الشهر، مددت باكستان الموعد المحدد لتسليم طائرات الهليكوبتر الهجومية التركية T129، التي تأخرت بسبب العقوبات الأمريكية المفروضة على تركيا.
في إطار آخر، تشابهت أجندة البلدان في إطارات أخرى، فقد توحدت وجهات نظرهما فيما يخص ظاهرة الإسلاموفوبيا ومكافحتها، الأمر الذي دفع رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان لإعلان تأسيس قناة تليفزيونية لمواجهة هذا التحدي وتصحيح المفاهيم والتصورات السلبية التي التصقت باسم الإسلام وأجج مشاعر الكراهية والعنصرية ضد المسلمين في جميع أنحاء العالم.
بالمحصلة، حصد كلا الطرفين ثمار هذه التشابهات والتفاهمات على المستوى الدبلوماسي والعسكري والاقتصادي على مدار 72 عامًا، ولكن الأهم من تلك التفاصيل هو الإرث التاريخي والرابط الديني الذي يعزز علاقتهما ويجعلها بعيدةً عن الركود والبرود، لا سيما أن غالبية الدول الإسلامية في الوقت الراهن تعاني من اضطرابات وانقسامات داخلية، ما يجعلها في موقف ضعيف ومعقد، وهو الحال الذي تسعى كلتا الدولتين إلى تجنبه واستبداله بنفوذ إسلامي كبير وموحد في المنطقة.