إن الأمم التي عاشت نهضة سواء اقتصادية وثقافية وسياسية واجتماعية هي التي تصالحت مع إرثها وتعاملت مع تاريخها كمادة قابلة للتقييم والبحث والاستقراء، ومن ثم دخلت إلى مرحلة بناء دعامات أنظمتها الديمقراطية، فيما لم تجسر باقي الأمم على ولوج مخازن الأرشيف وعجزت عن فتح ملفات الماضي، والأنكى من ذلك أنّها تعاملت معه بكثير من التوجس وجعلت منه قبوًا محرم دخوله.
وصحيح أنّ “التاريخ أخطر العقاقير التي ابتكرتها كيمياء العقل” كما يقول الفيلسوف الفرنسي بول فاليري، لأنّه من جهة يصنع الهوية وملامح الشعوب، وكذلك يُخطط ويُحدد مساراتها مستقبلًا، إلاّ أن سوء توظيفه واستغلاله أو عدم التعامل معه كعلم يخضع لقوانين الكم والمقارنة من أجل إجلاء الحقيقة بأقسى درجات الموضوعية قد يجعل من تلك المجتمعات تدور في حلقة مفرغة تكرر أخطاء الماضي وتنتج فشلًا متنوع الأشكال.
وكغيرها من الدول العربية، تعيش الجزائر أزمة تأريخ وقائع وأحداث عاشتها زمن الاحتلال الفرنسي، وهي أزمة متواصلة خلقت جدلًا متجدد كلّما ظهرت تصريحات أو مقالات تُسلط الضوء على شخصية فاعلة في تلك الحقبة.
في السياق ذاته، يُعد السياسي الجزائري عبان رمضان من أكثر الشخصيات التي أثارت جدلاً ومازالت تُسيل الكثير من الحبر بسبب تضارب الشهادات والتصريحات حول الجهة التي وقفت وراء اغتياله في ديسمبر/كانون الأول عام 1957 بتطوان المغربية، إضافة إلى موقعه من النقاش والتاريخي حول الثورة الجزائرية وتحولاتها في الخمسينات من القرن الماضي، والجدل السياسي المتواصل بشأن مقاربة الديمقراطية التي قادها الرجل بسعيه إلى فصل العمل السياسي عن العسكري وتنظيم المهام والسلطات.
بداياته
ولد عبان رمضان في قرية عزوزة، ببلدية الأربعاء نايث إيراثن التابعة لولاية تيزي ويزو، في 10 يونيو/حزيران 1920، وهو (قبايلي) أمازيغي، تلقى تعليمه الابتدائي (1926 أو 1928) في مدرسة الأهالي الكائنة بعزوزة، وتميز منذ طفولته بالفطنة والذكاء والإصرار، ثم التحق بثانوية البليدة (1933-1942)، ونال شهادة البكالوريا ولكنه لم يواصل تعليمه الجامعي لضيق الحاجة وعمل سكرتيرًا عامًا لبلدية شلغوم العيد ثم جُند في صفوف الجيش الفرنسي أثناء الحرب العالمية الثانية.
الثورة والمعتقل
مثل العديد من الجزائريين، تأثر عبّان بمجزرة 8 مايو/آيار 1945، وإثر تسريحه من الجيش في 1946 تواصل مع حزب الشعب الجزائري وعيّن كاتبًا عامًا لبلدية (شاتودان دي رومال) بشلغوم العيد، ثم رئيسًا للولاية سنة 1948 في منطقة سطيف ثم وهران، وفي تلك الفترة انضم إلى المنظمة الخاصة وهي الجناح المسلح لحزب الشعب.
وبعد اكتشاف المنظمة الخاصة في عام 1950، فكّكت سلطات الاحتلال الفرنسي أجهزتها واعتقلت قادتها وأعضائها ومن بينهم: بوضياف، بن بلة، عبان، بن طوبال، بوصوف، ليتم الحكم على عبان رمضان بالسجن لـ6 سنوات و10 أعوام من النفي والحرمان، إضافة إلى 500 ألف فرنك فرنسي كغرامة بتهمة الإخلال بأمن الدولة.
وانتقل عبان خلال فترة محكوميته من سجن بجاية إلى بربروس والحراش، ثم إلى سجن بالألزاس في فرنسا (1952) تحت إجراءات أمنية مشددة تخضع لنظام الاحتجاز، بدأ خلالها إضرابًا عن الطعام إلى أن شارف على الوفاة ودام لمدة 36 يوم، ومنه إلى غرب فرنسا ألبي حيث انغمس في القراءة والتثقف السياسي من خلال الاطلاع على تجارب بعض الدول في العالم.
مؤتمر الصومام
بعد إطلاق سراحه بأيام، تم التواصل معه من قبل قادة الولاية الثالثة في 18 يناير 1955، فهرب من الإقامة الجبرية مختبأً وتوجه نحو العاصمة حيث كُلّف بمهمة تنظيم شبكة المناضلين، كما دعي في أفريل 1955 إلى توحيد الشعب الجزائري والتحضير لإعلان جبهة التحرير كممثل رسمي للشعب.
في هذه الفترة، لمع اسم عبان رمضان في كامل الجزائر وأصبح العقل المدبر رقم واحد في منظمة التحرير، من خلال قدرته على التنسيق والتواصل سواء مع قيادات الداخل أو الخارج في مصر والمغرب وتونس وفرنسا، كما كانت له اليد العليا في كثير من المسائل التنظيمية والهيكلية.
وبحسب المصادر الجزائرية، فإنّ عبان كرس طاقته وجهده لتنظيم المعركة ضد المستعمر، كما كان له فضل تجميع القوى السياسية الجزائرية في جبهة التحرير الوطني لإعطاء ثورة أول نوفمبر حجمها الوطني الموحد لكل الصفوف، وكان عبان إضافة إلى العربي بن مهيدي وياسف سعدي وراء قرار انطلاق معركة الجزائر العاصمة.
فقد بدأ عبان في العمل على وضع الأسس لتكملة وتنقيح أهداف بيان نوفمبر 1954، وذلك بدعم من العربي بن مهيدي، لتنتهي بإشرافه على مؤتمر الصومام أغسطس/آب عام 1956 في منطقة “إيفري أوزلاقن” (بجاية)، مرحلة فارقة في تاريخ الثورة من خلال تنظيم العمل المسلح (جيش التحرير) وفق مؤسسات ومناطق وتوسيعه، إضافة إلى العمل على تدويله، كما تبنى عباّن طرح أولوية الجانب السياسي على الجانب العسكري، والداخلي على الخارجي.
ومن أهم الإجراءات التي اتخذت عقب المؤتمر، إقرار تعديل على نظام مجلس الولاية وتشكيله من مسؤول عسكري وآخر سياسي وثالث للاستعلامات والاتصالات تحت إشراف قائد الولاية، والأخير تم تجريده من اتخاذ قرار تعيين أو فصل نوابه، وتم تعيين رمضان ضمن خمسة أعضاء يتولون الإدارة السياسية الوطنية، لجنة التنسيق والتنفيذ وهي المسؤولة عن تنسيق الثورة وتنفيذ توجيهات المجلس الوطني.
النشيد الوطني
يُحسب لعبان رمضان أيضًا فكرة النشيد الوطني عبر تكليف جبهة التحرير الوطني التي كان يرأسها للخضر رباحي باختيار شاعرًا لكتابة نص ثوري يواكب مسار الاستقلال ويكون شعارًا للدولة الحديثة، ويهدف أساسًا لرفع منسوب الوطنية عند الجزائريين ويشحذ هممهم ويشعل حماسهم لمواجهة المستعمر الفرنسي، واشترط قيادات الجبهة ألا يحوي النشيد اسم أيّ شخص مهما كانت جهوده في مواجهة المحتل.
ووقع الاختيار على الشاعر مفدي زكريا لكتابة الكلمات، وتم الانتهاء منه في يوم أو يومين بحسب الروايات المختلف، كما تُشير المصادر إلى أنّ الشاعر الجزائري كتب كلمات النشيد الرسمي بدمائه التي سالت بفعل التعذيب الممنهج في السجن، فكان من الطبيعي أن تخرج بهذا الحماس والتحريض الثوري.
الاغتيالات والروايات
في مؤتمر القاهرة عام 1957، تم التراجع عن هذه القرارات بحذف الأولويات، فاعتبر عبان رمضان ذلك إقصاءً له، وفي ظل تطور الصراع داخل لجنة التنسيق والتنفيذ التابعة لجبهة التحرير الوطني واتساع الهوة بينه وبين النواة الصلبة للثورة (الباءات الثلاثة) وهم كريم بلقاسم وبن طوبال وبوصوف، تم التخلص من عبان رمضان بعد استدراجه إلى المغرب الأقصى، وذلك وفقًا لأشهر رواية.
ومن أشهر الروايات التي رافقت عملية اغتيال السياسي ومهندس الثورة الجزائرية:
- يقول منصور بوداود، في شهادته المقدمة بتاريخ 4 أبريل/نيسان 2015 في بيت مقراني، إنه شاهد محمود الشريف رفقة شخص آخر في المغرب ورفض ذكر اسمه، وأنه التقى كريم بلقاسم في بيته بعد اتصاله بودادية الجزائر لمعرفة الحقيقة فقال له كريم بلقاسم: “إنه أعدم، ولو يعود سأقتله بنفسي“.
- الباحث بتاريخ الحركة الوطنية، عمر لشموت: ” إن “الباءات الثلاث؛ بلقاسم وبن طوبال وبوصوف، كانوا وراء اغتيال عبان، دون أن يعرضوه على المحاكمة، مثلما كان معمولا به”.
- بلعيد عبان في مؤلف “حقائق دون طابو.. اغتيال عبان، من وكيف ولماذا وماذا بعد؟” “اغتيال عبان جاء بقرار من بوصوف وبمباركة كريم بلقاسم”.
- أحسن خلاص: “غلبة العسكري على السياسي وغلبة الخارج على الداخل، وغلبة منطق القوة على قوة المنطق وغلبة منطق العصب على منطق المؤسسات”.
عبان رمضان و مصطفى بن بولعيد اُغتيلا من طرف رفقاء لهما…
— Ilyes (@Aiolias_) February 5, 2020
وفي الجانب الآخر، روايات أخرى تنفي اغتياله من قبل الباءات الـ3، وتتهم عبان رمضان بالخيانة والتبعية لفرنسا أو بسعيه للاستحواذ على السلطة والتخلص من خصومه، ومنها:
- رابح بلعيد: “بن بلة على صواب فيما قاله عن عبان.. ولا أستبعد ضلوع عبان في تصفية مصطفى بن بولعيد”.
- الصافي بوديسة: “عبان باشر حملة اغتيالات ضد أصحاب التيار العربي الإسلامي”.
- الرائد عثمان سعدي: “ما حدث في الصومام مؤامرة سياسية.. والمؤتمر جاء كنتيجة لمفاوضات سرية مع فرنسا”.
- رواية العقيد علي كافي في مذكراته ص 157: “أتذكر أنه جاءني (عبان) يطلب مساعدتي له، وحاول استمالتي نحوه في خلافه مع كريم بلقاسم وبن طوبال ولكنني بقيت محايدا، أما بالنسبة إلى صدور حكم الإعدام في حقه فإن من قابلتهم من قادة الثورة ينفون ذلك، وكل ما أكدوه لي هو وجود اتصالات بين عبان والفرنسيين“، إلاّ أن دحو ولد قابلية (رئيس الجمعية الوطنية لمجاهدي التسليح والاتصالات خلال الثورة التحريرية) يزعم أن مذكراته “ضمت حقائق مغلوطة أساءت إلى رمز الثورة عبان رمضان“؟.
تصحيح التاريخ يتطلب اجراء تحقيق معمق حول انشاء المنطقة المستقلة العاصمة بقيادة عبان رمضان في ابربل 56 ، يبدوا ان الهدف منها كان سحب قيادة الثورة من القادة الميصاليين و جيش التحرير الوطني ALN ، وجعلهانحت قيادة تنظيم سياسي جديد FLN بقيادة عبان رمضان ورعاية فرنسية
— Akhzeroune Hacene (@AkhzerouneH) February 7, 2020
أزمة تأريخ
رغم حرص العديد من المؤرخين على سبر أغوار تلك الفترة المفصلية في تاريخ الجزائر ومحاولتهم لكشف الوقائع الغامضة، إلاّ أنهم اصطدموا بعدة عوائق وإشكالات منعتهم من إعادة “تحقيبه” زمنيًا وكتابته، وفق أدوات علمية تستند إلى وثائق رسمية وشهادات موثقة.
وتأتي على رأس الحواجز، قلة الوثائق الرسمية والمراسلات التي بقيت بحوزة المستعمر الفرنسي الذي يعمل وفق نظرية ” لكم الاستقلال ولنا التاريخ”، فالأرشيف هو الآخر نوع من أنواع الاستغلال والاستعمار الثقافي تعمل من خلاله الدول الكبرى على منع إعادة إنتاج رؤية مغايرة للتاريخ قد تُسهم في تطور تلك البلدان وخروجها من سرداب التبعية.
ويمكن القول أنّ المؤرخين والأكاديميين الجزائريين يتحملون بعضًا من المسؤولية التاريخية، فقد فتحوا المجال لأصحاب الرواية (الحكواتية) لتلفيق وتزوير الحقائق من أجل إعادة تشكيل التاريخ والتحكم في مساره، وباتت الرواية بذلك العنصر الأهم في كتابة تاريخ الحركة الوطنية دون أن يقدم أحدهم على دحضها أو تكذيبها، وإن اجتهد بعضهم فينزلها إلى المقارنة مع نظيرتها، فيما خير بعضهم كارابح الونيسي الذي أكّد أنّهم يخشون ” النبش في الماضي خوفًا من إثقال حاضر سلبًا”.
وتمثل السلطة في الجزائر حاجزًا رسميًا أمام إعادة صياغته، فالسطلة القائمة على إرث “ثوري” يستمد نشاطه من العمل السري عادة ما يوصد أبوابه أمام المؤرخين سواء بإخفائه الوثائق أو بمنعه وجزره من يحاولون كشف بعض الحقائق، حيث يرون أنفسهم أوصياء على هذا التاريخ ويعملون على إلجام من عايشوه معهم وهو ما يُفسره صمت بعض المجاهدين الجزائريين من جبهة التحرير ومن شهدوا تلك الوقائع.
والعالم العربي عامة والجزائر خاصة، تعيش على وقع أحادية الرواية أو الرواية الرسمي والتي صبغت باقي مناحي الدورة الاجتماعية من فكر ورأي وثقافة، وترى في الشعب كائن واحد لا شتات بمعنى بأنّه لا يحتمل التناقضات وتعدد الفرضيات، وما دون ذلك فهو فتنة وإخلال بالنظام العام وهدم للنسيج الاجتماعي.
ومن الأسباب الأخرى، فإن القائمون على السلطة في الجزائر من الاستقلال إلى الآن تعمل على إعاقة أي مسعى لتناول الصراعات داخل الثورة وبين قياداتها، وترى فيه تقويضًا فكرة الدولة الأمة.
بالمحصلة، فإنّ لكل ثورة تناقضاتها وإرهاصاتها تفرز غانمون وضحايا، والثورة الجزائرية لا تخرج عن هذا السياق بصراعاتها الحامية بين قياداتها التاريخية من جهة والصاعدون الجدد إلى المشهد والكل حرص في ذلك الوقت على أن يكون الوصي أو الضامن، فاختلفت بذلك الرؤى والمسالك وتشابكت، ولا يمكن فهمها إلا في إطار فهم العلاقة المثقف بالسلطة وعلاقة المدينة بالريف وعلاقة العسكري بالسياسي، وأي محاولة لنبش التاريخ وفهم ميكانيزمات المجتمع ونخبته لن يكون إلا بفتح الكتاب المغلق والتخلص من فوبيا الذاكرة.