احتل الشعراء والكتاب في الأندلس خلال عصر الخلافة الأموية وملوك الطوائف منزلة كبيرة لا تقل في السمو والرفعة عن مكانة الفقهاء والقضاة، وتعود شهرة الكتاب والشعراء في الأندلس إلى ارتباطهم الوثيق بالسلطة السياسية، إذ أدرك المجتمع الأندلسي وعلى رأسه الأمراء والخلفاء أهمية الاهتمام بالقيم الجمالية والفنية وذلك باعتبارها مرآة واقع الدولة ومستواها الحضاري، وفي هذا الشأن يقول ابن برد الشاعر الأندلسي “إن السيف والقلم مصباحين يهديان إلى القصد، وسُلمين يُلحقان بالكواكب وطريقان لمن بات يسري إلى المجد”.
وحين حل القرن الخامس الهجري، دخلت الأندلس عهد ملوك الطوائف الذي اتسم بالانهيار السياسي التام نتيجة انقسام الدولة الواحدة إلى دويلات عديدة وشهدت البلاد الكثير من التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الخطيرة، غير أن الحياة الثقافية والأدبية ازدهرت بشكل كبير ومن أشهر الشعراء الذين أثروا تلك الحياة الأدبية والثقافية الشاعر ابن حمديس الصقلي.
البداية من جزيرة صقلية
فتح المسلمون صقلية عام 826 للميلاد على يد القاضي الشهير أسد بن الفرات، وكان ذلك في عهد زياد ابن الأغلب والي إفريقيا، وقد عاشت الجزيرة ثلاثة أحداث كبرى في أثناء الحكم العربي غيرت كثيرًا من أحوالها، وهي: حكم صقلية بواسطة الأغالبة ثم الفاطميين وسلالة بني كلب، والفتنة الصقلية التي حدثت إثر انهيار إماراتهم وأخيرًا استيلاء النورمان على الجزيرة خلال عام 1072 وإنهاء الوجود الإسلامي العربي في هذه المنطقة الذي استمر لأكثر من قرنين ونصف من الزمان.
وعلى الرغم من ذلك، فقد نجت القصيدة الشعرية من هذه الاضطرابات السياسية والتغيرات الاجتماعية وحافظت على قيمتها الثقافية في مجتمع مليء بالخلافات الطائفية والعرقية والسياسية، ويرى نيكولا كاربنتيري الأكاديمي الأمريكي في دراسته عن القصيدة العربية بجزيرة صقلية أن النورمان اهتموا بتوظيف الثقافة العربية والقصيدة الشعرية في بلاطهم من أجل تعزيز قيم التعايش والتماسك الاجتماعي في أرض قستمها الخلافات السياسية العميقة.
عاش ابن حمديس في فترة الاضطرابات السياسية والفتن الطائفية، لكنه اعتكف على نظم الشعر وكتب الكثير من الدواوين
في هذا السياق السياسي والاجتماعي، نشأ الشاعر محمد عبد الجبار بن محمد بن حمديس الصقلّي الأزدي الذي ولد في مدينة سرقوسة بجزيرة صقلية خلال عام 1055 في أثناء الحكم الإسلامي للجزيرة، وقد نشأ في عائلة متدينة ومحافظة إذ عُرف جده وأبوه بالورع والتقوى وكانت عائلته متصلة بالثقافة الدينية والأدبية ورباه أبوه على حب اللغة العربية والثقافة ومع مرور الأيام نبغ ابن حمديس في علوم النحو واللغة والعَروض والتاريخ.
عاش ابن حمديس في فترة الاضطرابات السياسية والفتن الطائفية، لكنه اعتكف على نظم الشعر وكتب الكثير من الدواوين ولكن أغلبها فُقد ولم يصل لنا من تلك الفترة الزمنية التي عاشها في صقلية سوى ديوان واحد فقط.
وبسبب الصراعات والفتن الطائفية والعرقية لم يتمكن ابن حمديس من البقاء في بلاط النورمانيين وقرر الانتقال إلى الصحراء، وهناك عاش بين أبناء البادية ثم سمع عن البلاط الشعري والأدبي الشهير للمعتمد بن عباد ملك إشبيلية وقرطبة الذي كان مولعًا بالترف والشعر والأدب.
ابن حمديس ينتقل إلى الأندلس
لم تشهد الأندلس فترة أكثر توهجًا وإشعاعًا ونضجًا بالإنتاج الثقافي والأدبي كالذي حدث في عهد ملوك الطوائف، وفي هذا المجتمع الثري أبدع ابن حمديس بشدة ووجد أخيرًا ذاته الشعرية ونسج الكثير من القصائد، والحقيقة أن إبداع ابن حمديس تجلى بوضوح لسببين: أولهما قربه الشديد من المعتمد بن عباد الذي كان يحب أشعاره ويتباهى به أمام مجلسه، وثانيهما أن النزاع السياسي والعسكري في الأندلس انعكس بشكل محمود على التنافس الفكري والثقافي بين الطوائف وعليه فقد كان إبراز موهبته يعد حاجة ملحة للتفاخر وضمان استمرار دعم السلطة السياسية.
جدير بالذكر أن المعتمد بن عباد لم يكن ذواقًا للشعر فحسب ولكن كان هو نفسه صاحب شعر صادح، ولذا فقد أولى اهتمامًا خاصًا بعاصمته الثقافية، إذ نشطت في عهده حركة تجارة الكتب وتبادل الترجمات ودخلت إلى إشبيلية في عهده الكثير من أمهات الكتب مثل كتب الخوارزمي والفارابي وكتاب القانون لابن سينا ومقامات الحريري ورسائل بديع الزمان الهمذاني وديوان المتنبي.
الكتابة الشعرية لابن حمديس الصقلي
الأدب الناجح هو الذي يكون صدى يعكس لنا البيئة الاجتماعية والسياسية التي ينتمي لها الشاعر، ولا يقتصر الأمر على ذلك، إذ يجب أن تحتوي القصائد على المشاهد التصويرية التي تكون شاهدًا على جوانب الحياة الجغرافية والثقافية والسلوكية والاجتماعية التي عاشها الشاعر.
والحقيقة أن ابن حمديس أبدع بشكل كبير في أن يكون مرآة ناصعة لعصره، حيث كتب قصائده معبرًا عن تجاربه وأحلامه ومعاناته وطموحه، ومن أكثر الموضوعات التي عالجها ابن حمديس في قصائده: قوة الحنين والتفجع على ضياع وطنه إذ انشغل كثيرًا بأرضه وبلاده، وقد تميز كثيرًا في هذا المغمار على أترابه من شعراء الأندلس الذين كتبوا أيضًا عن الوطن ولكن إحساسهم لم يكن كإحساس ابن حمديس الذي كان يملك جذورًا قوية تربطه بجزيرة صقلية، وفي هذا الشأن يقول ابن حمديس:
ذكرت صقليةً والأسى
يجدد للنفس تذكارها
فإن كنت أخرجت من جنّةٍ
فإني أحدِّثُ أخبارها
ولولا ملوحة ماء البكاء
حسبت دموعي أنهارها
كتب ابن حمديس أيضًا شعر المدح في المعتمد بن عباد وفي أهل صقلية وكرم أخلاقهم، وفي مديحه لملك إشبيلية كان ينسب إليه كل الصفات النبيلة والجميلة وكان يصفه بالكرم والشجاعة والنبل، كما نظم أيضًا شعر الرثاء وذلك حين مات والده وابن أخته وجاريته جوهرة التي غرقت في البحر.
ومن أهم الأغراض التي اشتهر بها ابن حمديس في كتابة قصائده، الوصف فمعظم الدراسات التي تناولت الأدب الأندلسي عرفته من هذا الغرض واهتمت بتسميته بشاعر الوصف وذلك لأنه أبدع بشدة في وصف الطبيعة وتغلغل في تفاصيلها ومحاسنها حتى بأشعاره التي نظمها في أغراض أخرى مثل المدح والغزل، ولقد كان لنشأة ابن حمديس في صقلية ذات الطبيعة الوارفة الظلال دورًا كبيرًا في ظهور فن الوصف لديه لتأتي بعد ذلك الطبيعة الأندلسية وتصقل تلك الموهبة بعناية شديدة.
كما ترك ابن حمديس أيضًا مقطوعات وقصائد عديدة في الغزل العفيف إذ كان يغلب على قصائده وصف عيون الحبيبة والشكوى من الفراق وظلم الحبيب واستعداده للتضحية من أجل الحبيبة، وعلى الرغم من أن تلك الفترة الزمنية قد اشتهرت بالغزل الصريح حتى بين الشاعرات مثل الولادة بن المستكفي التي قالت في قصيدة لها:
أنا واللَه أصلح للمعالي وأَمشي مشيتي وأتيهُ تيها
وأمكنُ عاشقي من صحن خدّي وأعطي قُبلتي مَن يشتهيها
فإن ابن حمديس لم يكتب غزلًا صريحًا وربما يعود ذلك الأمر إلى نشأته الدينية في الطفولة، وفي إحدى قصائده بموضوع الغزل يقول ابن حمديس:
أذبْتَ فؤادي يا فديتُكَ بالعَتْبِ
ولو بتَّ صبًّا ما عَنُفْتَ على صَبِّ
وقاتلتي بينَ الغواني كأنَّها
مصوَّرةٌ بالعينِ في حبَّةِ القلبِ
حياةٌ ولكنْ طَرْفُها ذو منيّةٍ
أما يُتَوقّى الموتُ من طَرَفِ العضبِ
شكوْتُ إليها لوعةَ الحبّ فانثنَتْ
تقولُ لتربيها وما لوعةُ الحبِّ
وقد اتسم شعر ابن حمديس برقة الموسيقى واستخدام الصور المتحركة ورهافة الحس والابتعاد عن الهجاء، إذ كان عفيف اللسان كما كان يقترن اسمه دومًا بالانتصار للجديد وتطويع الشعر لأفكاره ومعانيه، ويقول عنه ابن بسام صاحب كتاب “الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة” أنه كان “يقرطس أغراض المعاني البديعة ويعبر عنها بالألفاظ الرفيعة ويتصرف في التشبيه المصيب ويغوص في بحر الكلم على درر المعنى الغريب”.
بداية التدهور ثم النهاية
في عهد ملوك الطوائف كانت السياسة قذرة، إذ كان يتحالف الملوك ضد بعضهم البعض من خلال الاستعانة بملوك الصليبيين في قشتالة وجاءت الطامة الكبرى حين رضخ المعتمد بن عباد لألفونسو ملك قشتالة ووقع معه اتفاقية يتعهد من خلالها ألفوسنو بمد المعتمد بجنود مرتزقة يحارب بهم أمراء المسلمين مقابل أن يعطي لملك قشتالة جزية ضخمة وقد كان لهذا الاتفاق المخزي دور كبير في استيلاء ملك قشتالة على مدينة طليطلة.
فيما بعد جاء يوسف ابن تاشفين بقوات المرابطين إلى الأندلس وقرر القضاء على ملوك الطوائف وضم الأندلس لدولة المرابطين وقرر بن تاشفين أسر المعتمد ابن عباد في مدينة أغمات الواقعة بالقرب من مراكش في المغرب الأقصى، يذكر أن ابن حمديس لم يترك المعتمد وذهب إلى زيارته في المغرب أكثر من مرة على الرغم من خطورة هذا الأمر حيث واساه كثيرًا في أسره وكتب الكثير من القصائد توجعًا وتفجعًا على مصير ملك إشبيلية.
الحاكم يكون أشد حاجة للسيف في مرحلة نشأة الدولة واضمحلالها وما بينهما يستغني صاحب الدولة عن السيف ليكون القلم هو المعين والقادر على إرساء دعائم الاستقرار وإثراء الحياة العلمية والثقافية
عاد ابن حمديس إلى صقلية بإلحاح من أهله كما أنهم أصروا أيضًا أن يركب البحر الذي يكرهه ابن حمديس وفي طريق العودة غرقت السفينة وماتت جاريته جوهرة ولكنه نجا من هذه الحادثة ليقرر بعدها الهجرة إلى القيروان ويبدأ حياته من جديد بعد أن خسر جميع أمواله في رحلته الأخيرة وفي أسفاره المتكررة من الأندلس للمغرب.
وفي القيروان مدح أبا طاهر يحيى بن تميم الصنهاجي وابنه علي ثم ابنه الحسن، وفي أعوامه الأخيرة فقد ابن حمديس بصره وتوفي في جزيرة ميورقة عن نحو يناهز ثمانين عامًا ودُفن بجوار صديقه الشاعر ابن اللبانة.
في النهاية، يمكننا تذكر ما قاله ابن خلدون في مقدمته بأن الحاكم يكون أشد حاجة للسيف في مرحلة نشأة الدولة واضمحلالها وما بينهما يستغني صاحب الدولة عن السيف ليكون القلم هو المعين والقادر على إرساء دعائم الاستقرار وإثراء الحياة العلمية والثقافية، وربما لهذا السبب ترك ابن حمديس ضيق صقلية وذهب إلى رحابة الأندلس حيث القلم هو الحاكم والاستقلال الفكري والأدبي هو القائد لزمام الأمور.