بعد فترة صمت دامت طويلًا، عادت قضية مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي، للواجهة مرة أخرى، حيث طالب أعضاء من الحزبين الجمهوري والديمقراطي بمجلس الشيوخ إدارة الرئيس دونالد ترامب، برفع السرية عن معلومات الاغتيال، متهمين الرئيس بحظر نشرها بهدف حماية السعودية.
تزامن هذا التحرك مع تصريحات لمحامي عائلات ضحايا هجمات 11 من سبتمبر/أيلول 2001 أشار فيها إلى أن الصحفي السعودي المقتول في مقر قنصلية بلاده بإسطنبول، أكتوبر 2018، كان شاهدًا محتملًا في القضية، وأنه أجرى مقابلة مع محققة تمثل المدعين في أكتوبر/تشرين الأول 2017، مضيفًا أن خاشقجي يُثبت أن ادعاءات الرياض بعدم تخويفها الشهود غير صحيحة، وذلك ضمن رسالة بعث بها لقاضية فيدرالية.
وكان الكونغرس قد طلب العام الماضي من وكالة الاستخبارات الوطنية تسمية مَن أمر بقتل خاشقجي، لكن مدير الاستخبارات قال إن المعلومات يجب أن تبقى سرية لعدم إلحاق الضرر بالأمن القومي بالبلاد، وظلت القضية أسيرة أدراج التعتيم والغموض حتى عادت مجددًا لتفرض نفسها بعد طلب برلمانيين رفع السرية عنها.
إخراج القضية من ثلاجة التجميد في هذا الوقت أثار الكثير من التساؤلات عن دوافع واشنطن الحقيقية وراء طرح الحادثة للتداول مرة أخرى، خاصة بعدما أغلق ترامب وإدارته الباب أمامها بشكل شبه رسمي قبل ذلك، حين وكّل نفسه مدافعًا عن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، مستبعدًا احتمالية تورطه في هذه الجريمة، وذلك رغم الأدلة والوثائق التي قدمها المحقق التركي، التي تدين الصف الأول من حكام المملكة.. فما الجديد الذي شهدته الساحة لتعيد الولايات المتحدة القضية مرة أخرى؟
أسئلة حساسة
في رسالة مشتركة، طلب كل من رئيس لجنة الاستخبارات السيناتور الجمهوري ريتشار بور وكبير الديمقراطيين باللجنة السيناتور مارك وارنر، من القائم بأعمال مدير إدارة الاستخبارات الوطنية، رفع السرية عن التفاصيل الرئيسية المتعلقة بقتل الصحفي السعودي.
تفصيلًا.. كشف العضو الديمقراطي بلجنة المخابرات، أنه سيلجأ إلى سلطة تعود إلى فترة السبعينيات (قانون 1976) قلما يتم استخدامها، وبموجبها يمكن لمجلس الشيوخ نفسه نشر معلومات عن مقتل خاشقجي، إذا تقرر أن ذلك يصب في المصلحة العامة، مضيفًا خلال مؤتمر صحفي له أنه في حال صوتت اللجنة لكشف التقرير، فسيكون أمام ترامب خمسة أيام لتقديم اعتراض مكتوب، وبعدها يمكن أن يصوت مجلس الشيوخ بالكامل – ذو الغالبية الجمهورية – على القرار، وشدد بالقول “لقد كان هذا تسترًا تامًا وكاملًا”.
وأضاف وايدن الذي كانت تقف بجواره خطيبة خاشقجي، خديجة جنكيز “إذا لم يقم بلدنا وأصدقاؤنا وشركاؤنا بأي شيء في وجه هذا العمل الهمجي، فإن ذلك يبعث برسالة في جميع أنحاء العالم مفادها أنه موسم اضطهاد الصحفيين” وهو ما أيده فيه العديد من البرلمانيين في الحزبين الكبيرين.
من جهته، قال العضو الديمقراطي بمجلس النواب توم مالينوفسكي: “الإدارة لم تحاول حتى أن تثبت لنا أن هذا الأمر (النشر) يمكن أن يتسبب بهذا النوع من الضرر”، مضيفًا خلال المؤتمر الصحفي “ما يخشونه باعتقادي واضح للغاية، إنهم يخشون إحراج شخص يملك علاقة وثيقة مع الرئيس ترامب وإدارته”.
الرئيس الأمريكي يواجه منافسة قوية من خصومه السياسيين، ورغم نجاته من محاولة عزله إلا أن الأمور لم تستقر بعد، ومن ثم يسعى إلى توظيف كل ما لديه من أوراق ضغط يمكن اللعب بها للفوز بولاية ثانية
أما خطيبة خاشقجي فقالت إن نزع السرية عن التقرير يجيب عن “أسئلة حساسة مثل مَن أمر بقتله وأين تم التخلص من رفاته؟”، وأضافت “الخطوة الأولى لتحقيق العدالة لجمال هي في معرفة الحقيقة”، فيما اتهم وايدن ومالينوفسكي إدارة الرئيس بـ “المساعدة في التستر على جريمة قتل خاشقجي” وطالبا بنشر تقرير وكالة المخابرات المركزية (سي آي أي) والاستخبارات الوطنية عن الجريمة.
لم تكن هذه الرسالة الأولى التي تطالب برفع السرية عن التقرير، ففي رسالة مشابهة قدمها رئيس لجنة الاستخبارات بمجلس النواب النائب آدم شيف الأسبوع الماضي إلى مدير إدارة الاستخبارات الوطنية، يطالب فيها بكشف الحقائق المتعلقة بقتل الصحفي السعودي، لكن دون رد.
جدير بالذكر أنه وبموجب قانون ميزانية وزارة الدفاع، كان يتعين على إدارة ترامب إعلان تقييمها الرسمي بشأن المسؤول عن قتل خاشقجي، بحلول نهاية يناير الماضي، غير أن أجهزة الاستخبارات لم تُصدر التقييم علنًا، واكتفت بإطلاع الكونغرس على تقرير سري.
وتعتقد وكالة المخابرات المركزية أن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان أمر بقتله، وتنفي الرياض علاقة ولي العهد بالأمر، فيما تأرجحت إدارة ترامب في تحميلها الأمير الشاب مسؤولية الجريمة، إلا أنها في النهاية اختارت تنحيته عن مرمى الاتهام، مؤكدة أن هذه الواقعة لن تعرّض العلاقات بين البلدين للخطر، في الوقت الذي أشاد فيه الرئيس بالمملكة لشرائها أسلحة أمريكية ومشاركتها الولايات المتحدة العداء لإيران.
لماذا أعادت واشنطن فتح القضية؟
تباينت آراء الخبراء والمحللين بشأن دوافع واشنطن الحقيقية وراء فتح القضية مرة أخرى، حيث انقسموا إلى 3 فرق، كل فريق يحمل وجهة نظر مُعززة بما يراه من أدلة وبراهين، حيث ذهب الرأي الأول إلى أن إعادة فتح ملف خاشقجي في هذا التوقيت يعود في المقام الأول إلى الانتخابات الرئاسية الأمريكية القادمة.
أنصار هذا الرأي يميلون إلى أن قضية خاشقجي من القضايا المرنة التي لا تسقط بالتقادم، ومن ثم قابلة للاستخدام والتوظيف بين الحين والآخر، وهو ما لعب عليه ترامب أكثر من مرة، وعليه يرى هذا الفريق أن التوظيف الدعائي ربما يكون على رأس الأسباب الحقيقية وراء هذا التحرك.
عودة الملف مجددًا يبعث برسالة للقيادة السعودية مفادها أن المراهنة على ترامب والتقرب منه ومن الحزب الجمهوري مقارنة بأميركا ككل، قد يسببان لها مشاكل
معروف أن الرئيس الأمريكي يواجه منافسة قوية من خصومه السياسيين، ورغم نجاته من محاولة عزله، فإن الأمور لم تستقر بعد، ومن ثم يسعى إلى توظيف كل ما لديه من أوراق ضغط يمكن اللعب بها للفوز بولاية ثانية، وتعد قضية خاشقجي إحدى تلك الأوراق المهمة، سواء إيهام الناخب الأمريكي بنصرته للعدالة أم ابتزاز الرياض بحفنة جديدة من المليارات تنعش الخزينة الأمريكية مجددًا.
وفي الجهة الأخرى، ويمثلها الديمقراطيون، فإن هذه الخطوة من شأنها أن تسهم في مزيد من الضغوط على الرياض لعلاقتها القوية بترامب، وذلك في محاولة لإحراج القيادة الأمريكية بزعزعة العلاقة مع الحلفاء الأساسيين وعلى رأسهم المملكة، خاصة أن ليس كل الجمهوريين يتوافقون مع إدارة ترامب فيما يخص سياسته الخارجية.
الفريق الثاني يرى أن عودة فتح القضية له بعد قيمي وأخلاقي، يرتبط باسم وسمعة الولايات المتحدة عالميًا، وهو الرأي الذي يميل له الكاتب والمحلل السياسي عمر عياصرة، الذي يعتبر أن اجتماع الجمهوري والديمقراطي على ضرورة فتح هذا الملف مجددًا يدل على تلك الخصوصية القيمية والضمير الجمعي رغم الاختلافات السياسية.
عياصرة أوضح خلال مشاركته في حلقة الأمس، 4 من مارس، من برنامج “ما وراء الخبر” المذاع على قناة “الجزيرة” أن التقرير الاستخباراتي به ما يفوق الرواية السعودية ويتجاوز الرواية التركية، معتبرًا أن هذا التقرير سيضغط على الرئيس الأمريكي لاتخاذ قرارات ضد شخصيات في القيادة السعودية، لافتًا إلى أن الأمريكيين قد يكتشفون تستر ترامب على شخصيات سعودية متورطة في قضية الاغتيال، مرجحًا أنه لن يسمح برفع السرية عن التقرير لأنه سيحرج نفسه وكذا القيادة السعودية.
فيما يذهب الرأي الثالث إلى ضرورة توصيل رسالة لحلفاء إدارة ترامب وعلى رأسهم السعودية أن الولايات المتحدة ليست الرئيس وفقط، وأن الاعتماد على الرئيس ونظامه بعيدًا عن بقية مؤسسات الدولة رهان خاسر، ويمثل هذا الرأي المدير التنفيذي لمركز تحليلات دول الخليج جورجيو كافييرو، الذي أكد وجود رؤية لدى المشرعين من الحزبين أن إدارة ترامب قدمت الكثير من حرية التصرف للقيادة السعودية.
وتوقع كافييرو أن عودة الملف مجددًا يبعث برسالة للقيادة السعودية مفادها أن المراهنة على ترامب والتقرب منه ومن الحزب الجمهوري مقارنة بأمريكا ككل، قد يسببان لها مشاكل تتعلق بسمعة المملكة لدى الأطياف السياسية الأمريكية، إذ ستتهم إدارة ترامب بعدم الدفاع عن القيم الإنسانية.
وفي المجمل فإن عدم تقديم المتورطين الحقيقيين في مقتل الصحفي السعودي للعدالة ومساعي التحايل والالتفاف التي تتبعها الإدارة الأمريكية في هذا الملف، يجعل هذه القضية ورقة بأيدي الأمريكان، يستخدمونها بين الحين والآخر لتحقيق أهداف سياسية وأخرى اقتصادية.