تعد مذابح الروس في شبه جزيرة القرم من أكثر المذابح التي وثقتها صفحات التاريخ ضمن قائمة الجرائم الإنسانية الأشرس في العالم، حيث سقط فيها ما يزيد على نصف مليون مسلم على أيدي القوات الروسية، فيما شُرد أضعافهم خارج بلدانهم، ومن تبقى عاش حياة أقرب للموت.
تعد القرم إحدى أجمل بقاع العالم التي استوطنها المسلمون التتار لعدة قرون وأقاموا فيها إمارات إسلامية خضعت لها موسكو في يوم من الأيام وكانت تدفع لأميرها الجزية، وهي تقع في البحر الأسود، ولا تتصل بالبر القاري إلا من خلال شريط ضيق من جهة الشمال، وتبلغ مساحتها 27000 كيلومتر مربع، وسكانها 2.5 مليون نسمة.
يشكل الروس نحو 50% من سكان الجزيرة، فيما تبلغ نسبة الأوكرانيين 30%، أما الباقي فهم من المسلمين، عاصمتها “سيمفروبل” وكانت تسمى في الماضى “اق مسجد” أي المسجد الأبيض قبل أن يستولى عليها الروس، ولم تصبح القرم جزءَا من أوكرانيا إلا في عام 1954، عندما قرر الزعيم السوفييتي نيكيتا خروتشوف – وهو أوكراني الأصل – إهداءها إلى موطنه الأصلي.
كانت جمهورية القرم من أنشط الجمهوريات الإسلامية في الدفاع عن الإسلام ونشره والتعريف بهديه وتعاليمه السمحة، وبرز من بين تتار القرم علماء أثروا الحياة الفكرية والثقافية بمؤلفاتهم القيمة في مختلف المعارف والعلوم، ودوَّن هؤلاء العلماء مؤلفاتهم باللغة العربية وباللغة التتارية المدوَّنة بالحروف العربية.
وتسجل صفحات التاريخ صورًا عدة من الجرائم التي تعرض لها مسلمو القرم على أيدي القوات الروسية في الفترة من 1670 وحتى اليوم، ما بين قتل وتنكيل، وتهجير وتحقير، وسلب للحقوق وإجهاض للأحلام، حتى تحولت تلك البقعة من إحدى أهم مناطق العمران البشري إلى أطلال مهلهلة بعد أن أُبيدت كلَّ معالم الإرث الإسلامي فيها، من مساجد ومعاهد وكليات إسلامية.
القبيلة الذهبية
عام 1339 وبينما كان التتار يغزون دول العالم الإسلامي حتى أسقطوا عاصمة الخلافة – آنذاك – بغداد، شرح الله صدر قبيلة تترية للإسلام، فأشهرت على الفور إسلامها، وكانت تعرف بالقبيلة الذهبية التي أسسها “باطوخان” أحد أشهر أحفاد جنكيز خان، القائد التتري المعروف.
وعن طريق هذه القبيلة بدأ الإسلام في الانتشار على طول نهر الفولجا (ينبع من موسكو ويصب في بحر قزوين) الذي أصبح نهرًا إسلاميًا من منبعه إلى مصبِّه، كما انتشر الإسلام بواسطة التتار في منطقة جبال الأورال، ونشأت إمارة القبشاق إحدى ممالك المغول الكبرى، التي سيطرت على أجزاء واسعة من روسيا وسيبيريا، واتخذت من مدينة سراي في الفولغا عاصمة لها.
في 1771 طبق الجيش الروسي شعاره الشهير (من غير انتظار ولا عودة يجب محو التتار من هذه الأرض)، وارتكب خلالها عشرات المذابح التي سقط ضحيتها أكثر من 350 ألف تتري مسلم
ومع مرور الوقت باتت شبه جزيرة القرم كلها إسلامية بفضل تلك القبيلة، وأصبحت أغلب المناطق التي عرفت فيما بعد بالاتحاد السوفييتي خاضعة لحكم التتار المسلمين، واستمر حكمهم لهذه المناطق زهاء ثلاثة قرون، كانت خلالها موسكو إمارة صغيرة تخضع لحكم أمير قازان المسلم، وتدفع الجزية ولا يعين حاكمها إلا بعد استشارة الأمير.
ومع مرور الوقت تكالب على الإمارة حكام ضعاف ودبت الخلافات بينهم، ما كان سببا قويًا لإحكام الروس القبضة على الجزيرة، وفي 1552 استطاع قيصر روسيا “إيفان الرهيب” القضاءعلى الإمارات الإسلامية بالجزيرة التي تحولت إلى ثلاث إدارات صغرى هي: استراخان وقازان والقرم.
في 1678 حاصر بطرس الأول القرم التي سقطت فيما بعد في عهد الإمبراطورة آنا أوانوفنا عام 1736م، واحتلَّت الجيوش الروسية العاصمة بخشراي، وأحرقت الوثائق التي كانت تعدُّ ذخيرة علمية لا تقدر بثمن، وكانت رمزًا تاريخيًا للشعب التتري المسلم في هذه المنطقة.
مذابح ضد المسلمين
ما إن سيطر الروس على الجزيرة حتى عاثوا فيها قتلًا وتنكيلًا بكل ما هو مسلم، أناس كانوا أو أبنية أو كتب ومؤلفات، هذا بخلاف حملات التهجير الإجباري الذي دفع إليها مئات آلاف المسلمين، في واحدة من أقسى عمليات التهجير والنزوح قسوة في القرن الثامن عشر والذي يليه.
في 1771 طبق الجيش الروسي شعاره الشهير (من غير انتظار ولا عودة يجب محو التتار من هذه الأرض)، وارتكب خلالها عشرات المذابح التي سقط ضحيتها أكثر من 350 ألف تتري مسلم، إلى درجة أن الجثث لم تجد من يدفنها، وانتشرت الأوبئة التي أودت بحياة القتلة الروس أنفسهم.
كما نفوا نحو 500 ألف مسلم بعيدًا عن بلادهم وإحلال الروس مكانهم، فيما مارست السلطات وقتها شتى ألوان القهر والتعذيب ضد شعب التتار، وصادرت أراضيهم ومنحتها لمواطنيها، وصادرت مساجدهم ومدارسهم، واضطُرَّ زهاء مليون وعشرين ألف منهم أن يفرُّوا إلى تركيا، وهجرت روسيا الباقي إلى داخل المناطق الخاضعة لها، وذلك تطبيقًا لاقتراح الأمير الروسي منشكوف، وعندما فشل الروس في زراعة أراضي القرم التي صادروها من أهلها التتار لعدم خبرتهم بها أجَّروها مرةً أخرى لهم لكي يزرعوها لهم.
عام 1944 اتهم ستالين مسلمي القرم بالتعاون مع النازيين الألمان في الحرب العالمية الثانية، فهجر في مايو من العام نفسه أكثر من 400 ألف منهم في قاطرات نقل المواشي إلى أنحاء متفرِّقة من الاتحاد السوفييتي
وفي 1783، شنت القوات الروسية عدة حملات تهجير بحق المسلمين إلى سيبيريا التي توصف بأنها أكبر صحراء جليدية في العالم، وإلى دول آسيا الوسطى كتركيا وبلغاريا ورومانيا ومارست ضدهم شتى أنواع العنف وهدَّمت مساجدهم ومدارسهم وبيوتهم وأحرقت مصاحفهم وجميع وثائقهم التي كانت تعد إرثًا تاريخيًا وحضاريًا مهمًا لتتار القرم.
ومع قيام الثورة البلشفية سعى الشيوعيون لتخدير المسلمين ببيانات خادعة بشأن معاملتهم معاملة الشركاء في الثورة، لكن ما إن استتب لهم الأمر حتى انقلبوا عليهم مرة أخرى، واستطاع الروس البلاشفة بسط سيطرتهم على جمهورية القرم المسلمة بالقوة بعد هجمات متتالية في أعوام 1918 و1919 و1920م، وتعاملوا مع مسلمي القرم بمنتهى القسوة، حيث نصبوا لهم المذابح وشرَّدوهم من ديارهم.
وفي عام 1920 أعلن تتار القرم قيام جمهوريتهم المستقلة برئاسة نعمان حيجي خان، إلا أن الشيوعيين سرعان ما أسقطوا الحكومة وأعدموا رئيس الجمهورية وألقوا بجثته في البحر، وفي 1928 عندما أراد جوزيف ستالين إنشاء كيان يهودي في القرم، ثار عليه التتار بقيادة أئمة المساجد والمثقفين فكان الرد إعدام 3500 منهم.
موجة الإعدام لم تتوقف عند حاجز المواطنين العاديين فقط، بل شلمت جميع أعضاء الحكومة المحلية بمن فيهم رئيس الجمهورية ولي إبراهيم، وفي العام التالي مباشرة نفي أكثر من 40 ألف تتري إلى منطقة سفر دلوفسك في سيبيريا، كما أودت مجاعةٌ أصابت القرم عام 1931م بنحو 60 ألف شخص.
ما بعد الحرب العالمية
أسفرت مذابح الروس بحق مسلمي القرم وسياسة التهجير والتنكيل المتبعة، سواء في عهود القياصرة أم خلفائهم البلاشفة، عن تراجع عددهم من 9 ملايين مسلم عام 1883 إلى نحو 850 ألف نسمة عام 1941، وهو العام الذي جنّد فيه ستالين قرابة 60 ألف مسلم لمحاربة النازيين الذي هجروا عند استيلائهم على القرم زهاء 85 ألف مواطن إلى معسكرات حول برلين، وذلك للاستفادة منهم في أعمال السُّخرة.
وفي عام 1944 اتهم ستالين مسلمي القرم بالتعاون مع النازيين الألمان في الحرب العالمية الثانية، فقام في مايو من العام نفسه بتهجير أكثر من 400 ألف منهم في قاطرات نقل المواشي إلى أنحاء متفرِّقة من الاتحاد السوفييتي خاصة سيبيريا وأوزبكستان، الأمر الذي أدى إلى وفاة نحو 14 ألفًا منهم، بجانب 45 ألفًا آخرين لقوا حتفهم في المخيمات التي وُطِّنوا فيها بسبب المرض والجوع في 1948.
علاوة على ذلك أحرق الجنود الروس ما وجدوه من مصاحف وكتب إسلامية وأعدموا أئمة المساجد وحوَّلوا المساجد إلى دور سينما ومخازن، هذا بخلاف طمس مؤلفات المسلمين جميعها، وما نجا منها صار نادر الوجود جدًا، لكن هذا لم يجبر سكان القرم على التوقف عن الإبداع.
ففي أوائل عهد لينين استطاعوا أن يُنتجوا أدباء ومفكرين جددًا، ولحسن الحظِّ فإن الشيوعية لم تقمعهم في بادئ الأمر فعادت الصحافة وعاد الأدباء وإن كان ذلك لمدة وجيزة، ومن أدباء ما بعد القيصر: شهاب الدين مرجاني وهو صاحب اجتهادات كثيرة في الفقه الإسلامي والحضارة والمدنية وعلم الاجتماع، وهو الرائد في إعطاء المرأة حقَّها ومشاركتها في السياسة التي أخذت أولى اهتمامه، وأحد المناضلين من أجل دينه وحضارته وأدبه، ومؤلَّفاته التي تدعو إلى الحرية والانفتاح كلُّها مترجمة إلى اللغات الفرنسية والألمانية وغيرها.
وما إن وضعت الحرب أوزارها وانتصر الروس فيها على حساب الألمان، اتهم السوفييت المسلمين بالخيانة والتعاون مع الألمان، وعليه تم إصدار حزمة من العقوبات المغلظة ضد سكان القرن، أخذت صورًا عدة من العذاب والتنكيل، إلا أن أبرزها كان تهجيرهم من البلاد في مايو 1945.
القرم إلى أين؟
عام 1985 وبعد أن أعلن آخر زعماء السوفييت ميخائيل غورباتشوف، برنامجه الإصلاحي، تحت شعار إعادة البناء “بريسترويكا”، بدأ مسلمو القرم المهجرين رحلة العودة إلى بلادهم التي أصبحت جزءًا من أوكرانيا ولكن بلا أي حقوق، وتشير التقديرات إلى أن عدد من عاد في هذا الوقت قرابة 300 ألف شخص.
غير أن الحياة التي وجدوها تحت الحكم الأوكراني لم تكن على المستوى المطلوب، فعاش معظمهم في ديارهم حياة بائسة وسط ظروف مأساوية بالغة الصعوبة، إذ يخيِّم عليهم شبح المجاعة الذي أودى بحياة عشرات الآلاف منهم، علاوة على الإهمال المتعمد من الحكومة التي رفضت منحهم الجنسية الأوكرانية.
وأمام تلك الوضعية المذرية، تفشت الأمراض وخاصة بين الأطفال، فيعد 80% من أطفال القرم مصابين بأمراض فتَّاكة جرَّاء نقص المستشفيات والأدوية، ويكفي للوقوف على حجم تلك المعاناة أن شبه الجزيرة بالكامل ليس بها إلا مستوصف واحد فقط، ما كان له أسوأ الأثر في المستوى الصحي للسكان.
ورغم مرور ما يزيد على ربع قرن على تلك المذابح الدموية، فإن رائحتها لا تزال تزكم الأنوف في تلك المنطقة الباكية من العالم
أما على المستوى التعبدي فحدث ولا حرج، حيث يعاني المسلمون هناك من جهل شديد بأمور دينهم، فأغلبهم لا يعرف النطق بالشهادتين، فضلًا عن معرفتهم بالصلاة وأحكامها، إذ تقلَّص عدد المساجد في الجزيرة بصورة كبيرة، من 1200 مسجد في 1940 إلى 7 مساجد فقط تعاني التصدُّع والإهمال، نتاجًا لحرب الإبادة والتشريد التي شنَّها الشيوعيون على أهالي المنطقة، كما أنه لا توجد إلا مدرسة دينية واحدة فيها عدد من المدرِّسين الأتراك الذين يعلِّمون القرآن الكريم.
وفي أعقاب استقلال أوكرانيا عن الاتحاد السوفييتي في 1991 عقد أهل القرم مؤتمرهم الأول في 26 من يونيو/حزيران 1991 بمدينة سيمفروبل، حيث أسسوا المجلس الأعلى لتتار القرم ممثِّلًا للشعب التتري المسلم، وانتُخب المناضل التتاري – الذي كان قد حُكم عليه بالسجن مدَّة 15 عامًا – مصطفى جميل رئيسًا للمجلس.
ومن هنا بدأت رحلة النضال من أجل الاستقلال، وفي مايو 1999 تظاهر أكثر من 200 ألف مسلم في شوارع العاصمة الأوكرانية (كييف) مطالبين الحكومة بتعويضات عما قامت به من قتل وهدم وتشريد للمسلمين أيام العهد الشيوعي، وضرورة إصلاح أوضاعهم المعيشية والاقتصادية وتوسيع دائرة عضويَّتهم في البرلمان.
وبالفعل استقبل الرئيس الأوكراني عقب المظاهرة زعماء المسلمين واستمع إلى مطالبهم ووعدهم بإجراء بعض الإصلاحات وتحسين أوضاع المسلمين المعيشية مع العمل على توسيع عضويتهم في البرلمان، وهو ما يناضل المسلمون من أجله حتى اليوم رغم الأوضاع الاقتصادية الصعبة.
ورغم مرور ما يزيد على ربع قرن على تلك المذابح الدموية، فإن رائحتها لا تزال تزكم الأنوف في تلك المنطقة الباكية من العالم، التي يدفع سكانها فاتورة ما تعرضوا له من حملات التطهير والتنكيل حتى اليوم، فليس هناك متر واحد من الجزيرة لم يتخضب بدماء الأجداد والسلف، لتبقى تلك الجرائم سبة في جبين الدولة الروسية أبد الدهر.