وجدت الجزائر نفسها في خضم حرب الأسعار التي اندلعت بين أبرز الدول المنتجة للنفط، في أزمة اقتصادية كبيرة من شأنها التأثير سلبًا على السلم الاجتماعي في البلاد، ذلك أنها تعتمد بشكل كلي على صادرات النفط الذي انهارت أسعاره في السوق العالمية بشكل غير مسبوق منذ عقود.
حرب أسعار
يتواصل تراجع أسعار النفط العالمية مع افتتاح السوق الأمريكية أمس الخميس لتفقد حتى الآن أكثر من 6%، نتيجة تجدد مخاوف ضعف الطلب العالمي، خاصة بعد فرض الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حظرًا على السفر من أوروبا عقب إعلان منظمة الصحة العالمية فيروس كورونا وباءً عالميًا.
وتراجع الخام الأمريكي بنسبة 6.8% إلى مستوى 30.72 دولار من مستوى الافتتاح عند 32.99 دولار، وسجل أعلى مستوى عند 33.60 دولار، وانخفض خام برنت بنسبة 6.9% إلى مستوى 33.22 دولار للبرميل، من مستوى الافتتاح عند 36.04 دولار، وسجل أعلى مستوى عند 36.45 دولار.
وسيؤدي فرض إجراءات حظر جديدة للسفر وفرض القيود على الرحلات، إلى هبوط آخر في مستويات الطلب على الوقود، خاصة أن هذا الأمر يتزامن مع تسجيل تراجع حاد في مستويات الطلب العالمي منذ اكتشاف فيروس كورونا بالصين.
وساهم فيض الإمدادات الرخيصة في هبوط أسعار النفط، مع تعهد المملكة العربية السعودية (أكبر مصدر للنفط في العالم) بزيادة الإنتاج إلى مستوى قياسي في مواجهة روسيا التي قررت رفع الإنتاج أيضًا، وتعهدت شركة أرامكو السعودية بتوفير 12.3 مليون برميل يوميًا خلال الشهر القادم مقابل نحو 9.7 مليون برميل يوميًا الشهر الحاليّ، وهي زيادة هائلة لإغراق السوق.
وجاء القرار السعودي، بعد رفض روسيا، الجمعة الماضية، مقترحًا جديدًا لمنظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك) بشأن تعميق وتمديد اتفاق خفض الإنتاج حتى نهاية 2020، بحجم خفض كلي 3.2 مليون برميل يوميًا.
وانتهى الاتفاق الذي استمر ثلاث سنوات بين منظمة الدول المصدرة للنفط وروسيا يوم الجمعة، بعد أن رفضت موسكو تأييد تعميق تخفيضات النفط للتأقلم مع تفشي فيروس كورونا، لترد أوبك على ذلك بإلغاء جميع القيود على إنتاجها.
تراجع أسعار النفط في بداية التعاملات الأسبوعية حتّم على السلطات الجزائرية اتخاذ إجراءات عاجلة لتفادي أزمة اقتصادية واجتماعية مرتقبة
بدورها ردت روسيا على القرار السعودي بتأكيد قدرتها على رفع الإنتاج أيضًا، حيث قال وزير الطاقة ألكسندر نوفاك إن بلاده لديها القدرة على زيادة الإنتاج بمقدار 500 ألف برميل في اليوم، وهذا من شأنه أن يضع إنتاج البلاد المحتمل عند 11.8 مليون برميل في اليوم، وهو رقم قياسي أيضًا.
ولحقت بالسعودية وروسيا أعضاء آخرون في منظمة الدول المصدرة للنفط، حيث قال العراق إنه سيزيد الشحنات بما يصل إلى 350 ألف برميل يوميا في الشهر المقبل، وستضيف نيجيريا إنتاج النفط بنحو مئة ألف برميل يوميًا، كما أعلنت الإمارات العربية المتحدة عن خطط لزيادة إنتاجها النفطي، وقالت شركة بترول أبو ظبي الوطنية “أدنوك” إنها تخطط لزيادة مبيعات الخام إلى ما يزيد على 4 ملايين برميل يوميًا، وتسريع الإنتاج بمقدار الربع إلى نحو 5 ملايين برميل يوميًا.
وتعيد هذه التطورات أحداثًا قديمة إلى الواجهة منها ما حدث بين 2014 و2016، عندما تنافست السعودية وروسيا على الحصص السوقية مع منتجي النفط الصخري الأمريكيين الذين لم يشاركوا قط في اتفاقات للحد من الإنتاج، حينها حاول المنتجون الكبار تضييق الخناق على إنتاج النفط الصخري من الولايات المتحدة عن طريق خفض الأسعار وتوفير المزيد من الإمدادات إلى آسيا.
خطط عاجلة لمواجهة الأزمة
تراجع أسعار النفط في بداية التعاملات الأسبوعية حتّم على السلطات الجزائرية اتخاذ إجراءات عاجلة لتفادي أزمة اقتصادية واجتماعية مرتقبة، حيث أعلن الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، الثلاثاء، خطة لمواجهة الصدمة النفطية التي عرفتها بلاده.
من بين بنود خطة الرئيس الجزائري، إعداد قانون موزانة تكميلي في أقرب وقت ممكن، يتضمن إجراءات لمعالجة الآثار المالية الناجمة عن الأزمة النفطية الحاليّة، وعادة ما تلجأ الجزائر عند الحاجة إلى قانون “الموازنة التكميلي” لإقرار مخصصات مالية جديدة أو تغيير تقديرات الإيرادات أو لإيجاد أخرى والترخيص بنفقات جديدة.
ووجه تبون، بحسب بيان عن رئاسة الجمهورية، تعليمات لوزير المالية عبد الرحمن راوية بأن يقدم في أقرب وقت ممكن موازنة تكميلية “ليتم إدراج إجراءات من شأنها معالجة الآثار المالية الناجمة عن الأزمة الحاليّة، وتحصيل الضرائب (الإيرادات الجبائية) والأتاوات الجمركية غير المحصلة”.
انهيار أسعار النفط في السوق العالمية
كما تتضمن الخطة، تسريع مسار إنشاء بنوك إسلامية (الصيرفة الإسلامية)، وجرى تكليف وزير المالية “بتسريع مسار إنشاء بنوك إسلامية خاصة”، مشددًا على رفض البلاد بشكل قاطع اللجوء إلى الاستدانة من الخارج أو التمويل غير التقليدي (طبع العملة دون غطاء نقدي).
فضلًا عن ذلك وجه الرئيس الجزائري، وزير التجارة كمال رزيق إلى ضمان تسيير ذكي للواردات دون حرمان المواطنين والاقتصاد من أي منتج، فيما وجه وزير الفلاحة والتنمية الريفية شريف عماري إلى زيادة الإنتاج بهدف تقليص مواد الاستهلاك الإنساني والحيواني، لا سيما الذرة واللحوم الحمراء إلى النصف على الأقل.
تداعيات اقتصادية وخيمة
“وجدت الجزائر التي اعتمدت على 50 دولارًا كسعر مرجعي للبترول في ميزانية الدولة للسنة الحاليّة، نفسها هذه الأيام بين فكي كماشة، لأن النفط انخفض بما يزيد على 20% انطلاقًا من السعر المعتمد كأساس للاقتصاد في الجزائر”، وفقًا للمحلل الجزائري رياض المعزوزي.
ويرى المعزوزي في حديثه لنون بوست أن الوضع في بلاده مع بلوغ البترول أسعار الـ30 وأبواب الـ20 من الدولارات، سيفتح أبواب جهنم على الاقتصاد الجزائري في حالة عدم تعافي الأسعار، باعتبار أن الاقتصاد الجزائري يعتمد أساسًا على النفط في تمويل جل القطاعات منذ الاستقلال وهو الخطأ الفادح والقاتل في نفس الوقت.
بدوره يقول الخبير الاقتصادي الجزائري عمر هارون لنون بوست: “الجزائر كباقي الدول النفطية ستتأثر بتراجع أسعار النفط، فعوائد المحروقات تمثل 98% من مداخيل البلاد، وقد توقعت الجزائر مداخيل في حدود 35 مليار دولار في سنة 2020 بسعر مرجعي في الميزانية قدر بـ50 دولارًا للبرميل، وهي التي تصدر ما بين المليون ومليون مئتين برميل يوميًا، هذه المعطيات كلها تبخرت عقب الأسعار الأخيرة”.
ويضيف عمر هارون “بعد التطورات الأخيرة ستخسر الجزائر ما يعادل 15 دولارًا في البرميل وهي قيمة مرتفعة وإذا تواصلت الأسعار على ما هي عليه فإن الخسائر السنوية قد تصل إلى حدود 15 مليار دولار وهو مبلغ ضخم يحد من قدرة الرئيس الجديد على الالتزام بوعوده”.
الإجراءات الرئاسية العاجلة الهدف منها توقي أزمات اجتماعية مرتقبة في البلاد نتيجة تأثر الاقتصاد بانهيار أسعار النفط
تتمثل هذه الوعود خاصة بتخفيض الضرائب على أصحاب الدخول الضعيفة التي تقل عن 30 ألف دينار جزائري، وبناء مليون سكن جديدة مع إكمال ما لم يتم إكماله من السكنات، بالإضافة لإدماج نحو 400 ألف موظف من أصحاب عقود ما قبل التشغيل وغيرها من الوعود التي أطلقت من أجل تطوير ما أصبح يعرف في الجزائر بمناطق الظل”، وفق عمر هارون.
فضلًا عن هذه الإجراءات التي يمكن اتخاذها في الأمد القصير، يرى الخبير الاقتصادي الجزائري عمر هارون “إمكانية توجيه تعليمات للدوائر الحكومية المختلفة من أجل ترشيد النفقات”، ويقول هارون في هذا الشأن “لعل أكبر تحدٍ سيواجه الحكومة الحاليّة هو إنعاش الاقتصاد الوطني في ظل ركود عالمي وتلبية المطالب الشعبية التي تعتبر أن حقها الطبيعي تحسن الظروف المعيشية في ظل ما عاشته في السنوات الماضية”.
ويشير عمر هارون إلى أن “الاختلالات الهيكلية في الاقتصاد الوطني هي ما يؤرق كل متابع للاقتصاد الجزائري يضاف إلى ذلك قدرة الحكومة الحاليّة على تطوير مجال المؤسسات في ظل بيئة أعمال متأخرة، وشح الاستثمارات الأجنبية الكبرى خاصة بعد ما يحصل الآن من مراجعة لدفتر شروط تركيب السيارات وتوقف كل الشركات الموجودة في السوق الجزائرية”.
أزمات اجتماعية مرتقبة
هذه الإجراءات الرئاسية العاجلة الهدف منها توقي أزمات اجتماعية مرتقبة في البلاد نتيجة تأثر الاقتصاد بانهيار أسعار النفط، وأدت أزمة أسعار نفط مماثلة عام 1986 إلى اندلاع انتفاضة شعبية في الجزائر في أكتوبر/تشرين الأول 1988، بسبب تردي الأوضاع الاجتماعية وندرة المواد الغذائية، إضافة إلى مسببات أخرى تتعلق بالفساد والأوضاع السياسية.
ويرى المحلل الجزائري رياض المعزوزي أن “تراجع أسعار النفط لو يطول فسيمس ذلك جيوب المواطنين شاء الرئيس تبون أو لم يشأ، خاصة ونحن على أبواب شهر رمضان الكريم المعروف عادة بارتفاع الاستهلاك فيه”.
ارتدادات اجتماعية مرتقبة نتيجة تراجع أسعار النفط
مضيفًا “لو استمر تراجع أسعار النفط وبقائها ما دون السعر المرجعي المعتمد 50 دولارًا، فإن وزارة التجارة والحكومة ستبقى في حرج خلال الشهر الفضيل الذي قد يحرك الجبهة الاجتماعية، ولا أحد يستطيع الإنكار بأن أحداث أكتوبر من عام 1988 كان سببها الأول الانخفاض التاريخي للبترول حينها لما تهاوى إلى ما دون الـ20 دولارًا”.
ويتابع محدثنا “ذلك التراجع أثر على ارتفاع سقف المواد الاستهلاكية، وتوقف المشاريع مع إغلاق عدد من المؤسسات الإنتاجية والاستثمارية مع تسريح آلاف العمال، ما فجر الجبهة الاجتماعية حينها وأدت إلى استقالة الرئيس بن جديد، وبدأت معها الأزمة الجزائرية التي قادت إلى عشرية من الهلاك”.
ويتخوف الجزائريون، وفق رياض، “من تكرار المرحلة، لا سيما أن أسعار البترول انخفضت كثيرًا، وبالتالي على الجزائر أن تحفظ الدرس وهو ضرورة تنويع الاقتصاد الوطني، لأنه من غير المعقول أن نبقى 60 سنة ونحن نعتمد على النفط، الذي هو هبة من الله، والأجدر كان الاستفادة من هذه النعمة وتطوير أمور أخرى بواسطتها، بينما حدث العكس، حيث بذرنا هذه الثروة دون عائد”.