منذ تفكك الاتحاد السوفيتي بداية تسعينيات القرن الماضي تراجع الدور الروسي الإقليمي والدولي بشكل ملحوظ، في ظل ما تعانيه من أزمات طاحنة في الاقتصاد والبنية المجتمعية والأمنية، خاصة بعد فتح العديد من جبهات المواجهة مع جيرانها وبعض القوى الدولية الأخرى في إطار الصراع على بعض الملفات.
ظلت موسكو على هذه الوضعية حتى 2015، حين قرر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين دعم نظام بشار الأسد في سوريا عسكريًا بصورة مباشرة، وتقديم جيشه وسلاحه لمواجهة الاحتجاجات التي كادت أن تطيح بالأسد وذلك بعد 4 سنوات من انطلاقها في منتصف مارس 2011، لتنجح موسكو في تقديم نفسها للمشهد العالمي مرة أخرى كأحد اللاعبين المؤثرين في المشهد السوري المعقد.
وعلى مدار خمس سنوات كاملة، ارتكتب القوات الروسية عشرات المجازر والجرائم بحق المدنيين السوريين العزل، أسقطت خلالهم عشرات آلاف القتلى وملايين المشردين في دول العالم المختلفة، حتى باتت روسيا المتحكم الأول في الملعب السوري بعدما صار الأسد وجيشه لعبة في أيدي بوتين يحركها لمصالحه قبل أي شيء وكيفما يشاء.
الدعم الروسي للأسد تجاوز المساعدات العسكرية الميدانية إلى آفاق السياسة الدولية الرحبة، فقد استخدمت موسكو داخل مجلس الأمن الدولي حق النقض “الفيتو” 13 مرة، وذلك عبر التصويت دائمًا ضد قرارات مجلس حقوق الإنسان كافة، وضدَّ تمديد عمل لجنة التحقيق الدولية في سوريا، وضدَّ إنشاء آلية التحقيق المحايدة المستقلة، وضدَّ عمل لجنة نزع الأسلحة الكيميائية، وكذلك عبر إمداد النظام السوري بالسلاح والمعدات الحربية.
ورغم عشرات التقارير والإحصاءات الصادرة عن هيئات ومؤسسات إعلامية وحقوقية سورية معارضة وعربية وغربية بشأن ما خلفه الهجوم الروسي من ضحايا في صفوف السوريين، فإن ذلك لم يحرك ساكنًا لدى بوتين وحكومته، فإحياء الإمبراطورية السوفيتية ومكانتها العالمية بات الهدف الأبرز حتى لو كان الثمن أشلاء وجماجم آلاف المدنيين، والتنكيل بملايين آخرين خارج الحدود، لتسطر موسكو بذلك صفحة دامية تضاف إلى سجلها الإجرامي الوحشي على مدار القرون الماضية.
335 مجزرة
خلال السنوات الخمسة الماضية ومنذ دخول القوات الروسية سوريا سقط قرابة 6686 مدنيًا خلال 335 مجزرةً ارتكبتها موسكو في الفترة من 30 سبتمبر 2015 حتى 30 سبتمبر 2019، وما لا يقل عن 1083 حادثة اعتداء على مراكز حيوية مدنية، بينها 201 على مدارس، و190 على منشآت طبية، بحسب تقرير صادر عن الشبكة السورية لحقوق الإنسان.
التقرير أشار إلى أن من بين الضحايا 1928 طفلًا و908 سيدات (أنثى بالغة)، حيث شهدَ العامان الأول والثاني للتَّدخل الحصيلة الأكبر من الضحايا، فيما تصدرت حلب قائمة المدن التي شهدت النسبة الأعلى في عدد الضحايا (2799 قتيلًا) تلتها إدلب (2408 قتلى)، فدير الزور (417 قتيلًا)، منوهًا أنه وفي ضوء تلك الأرقام لا يمكن الثقة بروسيا في أي عملية سياسية أو إعادة إعمار.
ما لا يقل عن 1083 حادثة اعتداء على مراكز حيوية مدنية منذ تدخل القوات الروسية بينها 201 على مدارس، و190 على منشآت طبية
وفي التفصيل ذكر التقرير أنه في الفترة من 2015 إلى 2016، سقط 3734 مدنيًا بينهم 1047 طفلًا، و414 سيدةً، وفي العام 2016 إلى 2017، سقط 1547 مدنيًا بينهم 448 طفلًا و236 سيدةً، أما في عامي 2017 إلى 2018، قُتل 958 مدنيًا بينهم 354 طفلًا و211 سيدةً، فيما قُتل 447 مدنيًا بينهم 79 طفلًا و47 سيدة في العام 2018/2019.
أما عن عدد المجازر ففي عامي 2015 و2016 ارتكبت القوات الروسية 172 مجزرة، مقارنة بـ90 أخرى في 2016/2017، وفي العام التالي بلغت عدد المجازر 59، ليختتم العام الماضي سجل تلك المجازر بـ14 مجزرة سقط خلالها آلاف القتلى وأضعافهم من المصابين والجرحى.
ووصلت الهمجية الروسية حد استهداف المراكز الطبية والدفاع المدني بشكل خاص وملاحقتها عبر عمليات استخباراتية وقصفها وتدميرها، حيث وثّق التقرير ما لا يقل عن 1083 حادثة اعتداء على مراكز حيوية مدنية بينها 201 على مدارس، و190 على منشآت طبية، ذلك منذ تدخلها العسكري في سوريا حتى 30 من سبتمبر 2019، فيما قُتل 107 من الكوادر الطبية وكوادر الدفاع المدني، إضافة إلى 21 من الكوادر الإعلامية.
3.3 مليون سوري مُشرد
من نجا من مجازر الروس داخل الأراضي السورية لجأ إلى النزوح هربًا من حروب الإبادة التي تشنها القوات الروسية، وتشير التقارير إلى أن حجم العنف المتصاعد الذي مارسته قوات بوتين كان له الأثر الأكبر في حركة النُّزوح والتَّشريد القسري، وساهمت هجماتها بالتوازي مع الهجمات التي شنَّها الحلف السوري الإيراني في تشريد قرابة 3.3 مليون نسمة.
استخدم الروس ومعهم ميليشات الأسد وطهران كل أنواع الأسلحة المحرمة دوليًا في حربهم ضد المعارضين والمدنيين، ورغم الإدانات الدولية والأممية، فإن ذلك لم يغير من الوضع على أرض الميدان شيئًا، حتى بات البقاء داخل البلاد مغامرة محفوفة بالمخاطر قد تكلف الموجودين حياتهم وإن كانوا بعيدين عن ساحة المعارك المباشرة.
الحرب السورية وفرت مجالًا لا يقدر بثمن لتجربة السلاح الروسي في ظروف ميدانية حقيقية لم تكن ساحات التدريب لتوفرها أبدًا
تشير التقارير الحقوقية إلى أن القوات الروسية استخدمت العديد من تلك الأسلحة وعلى رأسها الذخائر العنقودية، حيث بلغت ما لا يقل عن 236 هجومًا، إضافة إلى 125 هجومًا بأسلحة حارقة نفَّذها الروس – بمساعدة قوات الأسد وميليشيات إيران -، منذ تدخلها العسكري في سوريا.
الخبير العسكري والإستراتيجي السوري عبد الناصر العايد، أكد في لقاء متلفز له على قناة “الجزيرة” أن العاملين على الأرض في سوريا وثقوا استخدام هذه القنابل العنقودية، وبحوزتهم قنابل صغيرة لم تنفجر، وهي صناعة روسية، وهناك مقاطع فيديو لطائرات روسية وطائرات النظام السوري تلقى بها.
وأضاف أن هناك انتهاكات بغازات خانقة، والقذائف فائقة الانفجار التي يشبه أثرها ما تحدثه القنابل النووية الصغيرة ولكن دون إشعاع، والرصاص المتفجر، وكل ذلك مصدره روسيا، وكانت منظمة هيومان رايتس ووتش سبق أن وجهت اتهامات لموسكو باستخدام هذه القنابل.
حقل تجارب للأسلحة
حين وافق 158 عضوًا من إجمالي 170 بالدوما الروسي على نشر قوات روسية فوق الأراضي السورية في 30 من سبتمبر 2015 لم تكن هذه الخطوة كما سعت الآلة الإعلامية الروسية والسورية الترويج لها على أنها لحماية المدنيين في مواجهة الجماعات المسلحة، إذ تكشف بعد ذلك أن الأمر أعقد من ذلك بكثير.
فالتاريخ الدموي الروسي حيال شعوب آسيا على مدار قرون طويلة مضت يتنافى بشكل كبير مع تلك الادعاءات التي تحاول تجميل صورة التدخل العسكري لدعم نظام ديكتاتوري في مواجهة شعبه، إذ كانت العين الروسية أبعد بكثير من الأسد ونظامه، وإن اتخذت منهم ستارًا تداري به أهدافها الحقيقية من وراء تدخلها.
حوّل الروس السوريين إلى حقل تجارب لأسلحتهم الجديدة، وذلك بشهادة جنرالات موسكو أنفسهم، حيث أشار وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو إلى أن بلاده اختبرت “أكثر من 300 نوع من الأسلحة الروسية في سوريا”، لافتًا إلى أن العديد من نماذج الأسلحة الروسية الحديثة خضعت لاختبارات في ظروف صعبة بالمناطق الصحراوية، وأثبتت هذه الأسلحة بشكل عام متانتها وفعاليتها، وأوضح أن الطائرات الإستراتيجية الروسية استخدمت في سوريا ولأول مرة صواريخ جو أرض “إكس101” التي يبلغ مداها أكثر من 4500 كيلومتر من على الطائرات الإستراتيجية البعيدة المدى.
حصول شركة روسية على امتيازات في مصنع حمص يجيب عن جزء من التساؤل الذي يتعلق بالمكاسب التي حققتها موسكو مقابل مساعدتها العسكرية للنظام السوري
وسبق للرئيس بوتين أن قال في وقتٍ سابق: “الحرب السورية وفرت مجالًا لا يقدر بثمن لتجربة السلاح الروسي في ظروف ميدانية حقيقية لم تكن ساحات التدريب لتوفرها أبدًا”، وصرح رئيس اللجنة العسكرية في الجيش الروسي إيغور ماكوشيف، في وقتٍ سابق، أن اختبار أسلحة جيش بلاده في سوريا أتاح لهم إمكانية تحليل قدراتها وتعديل خطط تصميمها وتحديثها.
مجلة “ناشونال إنترست” الأمريكية في تقرير سابق لها كشفت أنّ روسيا استغلت وجودها في سوريا لاختبار العديد من الطائرات بما في ذلك المقاتلة (Su-35)، والمهاجمة الإستراتيجية (Tu-160)، والمقاتلة الشبح (Su-57)، بالإضافة إلى العديد من الصواريخ والقنابل الذكية، فيما أكدت مصادر رسمية في موسكو، في هذا الصدد، أنّ وزارة الدفاع قررت وقف إنتاج 12 نموذجًا من الأسلحة بعد تجربتها في سوريا وثبوت فشلها.
الجنرال فلاديمير شامانوف الذي يترأس لجنة نيابية مكلفة الدفاع، في تصريح له أمام الدوما الروسي قال: “لقد اختبرنا في دعمنا للشعب السوري (نظام الأسد) أكثر من 200 نوع جديد من الأسلحة”، وتابع “لقد أظهر ذلك فعالية الأسلحة الروسية أمام العالم أجمع” إلا أن شامانوف لم يحدد ماهية الأسلحة أو متى تم اختبارها في سوريا.
استنزاف موارد السوريين
منذ أن وطأت أقدام الروس التراب السوري وباتت كل موارد الدولة في خدمتهم بصورة أثارت الكثير من الشكوك بشأن دوافع التدخل العسكري ومداه الزمني والإستراتيجي، ففي أغسطس 2015 أي بعد تدخل القوات الروسية بأربعة أشهر وقعت موسكو مع نظام الأسد اتفاقية تسمح لها بتأسيس “قاعدة حميميم” الجوية في محافظة اللاذقية على الساحل السوري من أجل انطلاق عملياتها العسكرية منها.
الاتفاقية الممتدة على مدار أربعين عامًا، تسمح للروس بالإبقاء على القاعدة الجوية، فضلًا عن السيادة على الأرض أيضًا، وأن يكون لها 11 سفينة حربية، تشمل سفنًا تعمل بالطاقة النووية، وأن يكون لها الخيار لتمديد هذه الاتفاقية لمدة خمس وعشرين سنة أخرى.
وجد بوتين في سوريا الفرصة السانحة لتقديم نفسه للعالم مرة أخرى، وفرض كلمته كأحد أبرز اللاعبين المؤثرين في خريطة الشرق الأوسط، بعد سنوات من التهميش والتجاهل
في يناير 2017 عززت موسكو موقعها العسكري في الأراضي السورية بمصادقة البرلمان الروسي على اتفاق يقضي بتوسيع المنشآت المرفئية العسكرية الروسية في طرطوس شمال غرب سوريا، وستصبح قاعدة بحرية روسية دائمة، لتعقبه بعد ذلك خطوات تذهب في اتجاه تطوير القاعدتين بشكل يقوي الوجود العسكري الروسي، ليس في سوريا وحدها، ولكن في منطقة الشرق الأوسط بصفة عامة.
وعلى الجانب الاقتصادي، نشرت صحيفة فايننشال تايمز، تقريرًا في سبتمبر 2019، كشفت من خلاله الغنائم التي حصل عليها الروس وحلفاؤهم خلال سنوات وجودهم فوق الأراضي السورية، مستشهدة بما كسبه غينادي تيمشينكو، صديق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، متدثرًا بعباءة الشرعية التي منحه إياها النظام الأسدي.
الصحيفة حصرت الغنائم التي حصل عليها صديق بوتين بقطاع صناعة الفوسفات في سوريا الذي استحوذت عليه شركة يديرها تيمشينكو الذي يخضع للعقوبات الأمريكية بسبب المساعدات المالية التي قدمتها للغزو الروسي لشبه جزيرة القرم في عام 2014، ذاكرة أن جنود روس مدججون بالأسلحة يحرسون مصنع الأسمدة في حمص الذي يشكل العنصر الرئيسي في صناعة الفوسفات السورية.
التقرير اعتبر أن حصول شركة روسية على امتيازات في مصنع حمص يجيب عن جزء من التساؤل الذي يتعلق بالمكاسب التي حققتها موسكو مقابل مساعدتها العسكرية للنظام السوري، وبحسب الصحيفة البريطانية فإن وسائل الإعلام الرسمية والموالية للنظام أعلنت أنّ مجلس الشعب السوري (البرلمان) صادق في مارس 2018، على منح الشركة المذكورة عقدًا لتشغيل منجم للفوسفات بالقرب من مدينة تدمر، وأنّ شركة تيمشينكو حصلت على شراكة مع (شركة الأسمدة العامة) في مصنع حمص، كما حصلت الشركة الروسية على عقد لتشغيل ميناء طرطوس، حيث ستشحن صخور الفوسفات الخام والأسمدة إلى الخارج.
وجد بوتين في سوريا الفرصة السانحة لتقديم نفسه للعالم مرة أخرى، وفرض كلمته كأحد أبرز اللاعبين المؤثرين في خريطة الشرق الأوسط، بعد سنوات من التهميش والتجاهل، ومع مرور الوقت نجحت موسكو من خلال أشلاء الأبرياء في سوريا واليمن وليبيا في استعادة جزء من بريقها المنطفئ منذ ثلاثة عقود كاملة.
ما كان للأسد ونظامه أن يستمروا في الحكم يومًا واحدًا دون دعم القوات الروسية التي مارست تحت غطاء محاربة التنظيمات المسلحة كل أنواع التعذيب والتنكيل بالمدنيين السوريين، ولعل مجازر حلب والغوطة الشرقية ودوما ودير الزور، أكبر توثيق للهمجية الوحشية في التعامل مع الأبرياء دون أدنى مسؤولية، مستندة في ذلك إلى تخاذل المجتمع الدولي والوقوع في براثن لعبة المصالح التي ربما تجبر الكثير من القوى على غض الطرف حيال ما يمارس على أرض الواقع من انتهاكات ليل نهار.