في جلسته بتاريخ 4 من مارس 2020 أقر مجلس الجامعة العربية على المستوى الوزاري قرارًا ينص على رفض أي مساس بالحقوق التاريخية لمصر في مياه النيل أو الإضرار بمصالحها أو استخداماتها المائية، والتشديد على أن الأمن المائي لمصر جزء لا يتجزأ من الأمن القومي العربي، والتأكيد على تضامن الدول الأعضاء مع مصر في مواجهة المخاطر والتأثيرات والتهديدات المحتملة لملء وتشغيل سد النهضة دون التوصل لاتفاق عادل ومتوازن مع إثيوبيا.
تحفظ السودان على القرار بعد صدوره بحجة أنه لا يرغب في إقحام الدول العربية بموضوع ما زالت المشاورات بين أطرافه مستمرة، وأنه لا يرغب في قرارات قد تؤثر على العلاقات العربية الإفريقية خاصة مع قرب انعقاد القمة العربية الإفريقية بالرياض، بل وأنكر أي مشاورات بينه وبين مصر بشأن هذا القرار.
فيما أكدت القاهرة في بيان للخارجية أنها أبلغت الوفد السوداني قبل انعقاد الاجتماع بأربعة أيام واستجابت لطلب السودان بحذف اسمه من مشروع القرار الذي لم يتضمن إلا التضامُن مع حقوق مصر المائية والتأكيد على قواعد القانون الدولي والدعوة للتوقيع على الاتفاق المُعَد.
تزخر المواقع الرسمية المصرية والسودانية المسؤولة عن السياسة الخارجية كمواقع وزارات الخارجية وهيئات الاستعلامات وسفارتي البلدين وكذا التصريحات الرسمية بالعديد من الكليشيهات المكررة عن تاريخية العلاقات المصرية السودانية ومتانتها وقوة الروابط البينية، وكونهما عمقًا إستراتيجيًا لبعضهما، لكن ليس في مواقع وزارات التجارة والصناعة وهيئات الاستثمار وأجهزة الإحصاء في البلدين ما يدعم هذه العلاقات رغم افتراض تاريخيتها ومتانتها سواء لكونهما دولتي جوار عربي إفريقي حضاري تاريخي أم للاحتياجات الموضوعية لتبادل السلع والبضائع والبشر بين بلدان الجوار.
الروابط الاقتصادية قوية في الاتفاقات ومذكرات التفاهم وضعيفة في الواقع
رغم عضوية كلا البلدين في منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى وفي التجمع الاقتصادي لشرق إفريقيا المعروف بـ”الكوميسا”، وأن البلدين وفقًا للهيئة العامة للاستعلامات المصرية بينهما أربعة اتفاقات لتنظيم التجارة والنقل والازدواج الضريبي وما يزيد على 13 مذكرة تفاهم في مجالات التعاون المختلفة، يمتلكان العديد من المقومات الاقتصادية التي تسمح بتحقيق أضعاف حجم التجارة البينية لهما، كما أن تحليل هيكل التجارة بين البلدين يوضح أنها علاقة تكاملية وليست تنافسية، حيث تستورد مصر من السودان لحومًا حية وسمسم دقيق القمح ومواد خام، بينما يستورد السودان من مصر الصناعات الغذائية ومواد البناء والمنسوجات والأدوية، كما تتوافر بالسودان العديد من الخامات التعدينية المهمة التي تمكن البلدين من التعاون لاستغلالها صناعيًا، وبالتالي رفع القيمة المضافة منها للاقتصاد، إلا أن التبادل التجاري بين البلدين وفقًا للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء لا يزال ضعيفًا ولم تتجاوز قيمته 705 ملايين دولار في أي من السنوات العشرة الماضية، بل اتجهت للتراجع منذ 2016.
من إعداد الباحث بناء على بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء
هذه الأرقام لا تتناسب مع حجم السكان في كلا البلدين ووارداتهما من الخارج رغم عدم تشابه هيكل الصادرات والواردات نسبيًا، ففي أوضاع طبيعية بين دولتي جوار تعدادهما معًا يفوق الـ140 مليونًا يفترض أن تكون هذه الأرقام أكبر بكثير مما هي عليه دون حتى أن تكون بينهما روابط لغوية وثقافية وتاريخ مشترك.
عداء الثورة السودانية
بينما كان السودانيون يهتفون ضد العسكر والكيزان ولاحقًا ضد العسكر وحدهم، ظلت الصحف ووسائل الاعلام المصرية والخبراء الإستراتيجيون المصريون يتجاهلون الشق الخاص بالعسكر في هتافات ومطالبات الشارع السوداني ويروجون مع شركائهم الإقليميين في الإمارات والسعودية بأنها ثورة ضد الإسلام السياسي وحركة الإخوان المسلمين.
وبتعبير حيدر إبراهيم أحد أبرز المفكرين السودانيين “لم تظهر أي عاصمة عربية اهتمامها بما يحدث في السودان ولم يحظ الشأن السوداني بما يستحقه من متابعة وتحليل موضوعي ولا أقول مساندة أو دعم معنوي وتشجيع من وسائل الإعلام العربي ما عدا الاهتمام المتأخر من قناة الجزيرة مباشر وهذا سببه النزاع الخليجي – الخليجي ونكاية بدولة الامارات والسعودية”.
في الأيام الأولى للثورة بدت الدول العربية مؤيدة لنظام البشير وصولًا للاعتراف بالأمر الواقع مع انتصار الثورة عليه بعزله، ووفقًا لبعض التقارير فقبيل التوصل لاتفاق بين قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري حاولت كل من الإمارات والسعودية التنسيق مع مصر في إطار رئاستها الدورية للاتحاد الإفريقي من أجل التأثير على قرارات مجلس السلم والأمن الإفريقي، باتجاه كسب مزيد من الوقت لإضعاف القوة التفاوضية للشارع السوداني وتنظيماته القوية، في مقابل المكون العسكري ممثلًا في المجلس العسكري الانتقالي بقيادة البرهان.
بينما التقطت إثيوبيا (آبي أحمد) أطراف الصراع الداخلي السوداني وحاولت الوساطة بينهما مبكرًا، بعد رعاية إثيوبيا للاتفاق السياسي بين قوي الحرية والتغيير والمجلس العسكري وإسهامها في صياغة وثيقة الاتفاق والوثائق المكملة له وكذلك محاولاتها للضغط من أجل تضمين الحركات المسلحة في ترتيبات المرحلة الانتقالية ومحاولاتها وضغوطها من أجل التعجيل ببدء الحوار بين الحكومة الانتقالية والحركات المسلحة ودخولها كوسيط بين هذه الحركات، ازدادت المطالبات الشعبية لتقوية العلاقات بإثيوبيا، بل ويمكن ملاحظة التنصل من عروبة السودان في العديد من الخطابات الشعبوية السودانية، والمتابع للصفحات الإثيوبية الموجهة باللغة العربية يلحظ هذا التوجه الشعبوي بقوة.
السد والخطاب الشعبوي المتنامي
في إحدى أهم القضايا المحورية للعلاقة بين مصر والسودان كسد النهضة نجد خطابًا شعبويًا ينتشر عبر الصحافة السودانية متنصلًا من العمق العربي الإسلامي للسودان مثل صفحات أثيوبيا بالعربي، وإذاعة مستقبل أوروميا ويغلب على تعليقات السودانيين بهذه الصفحات خطاب ينكر أي أضرار للسد على السودان ويطالب بالوقوف مع إثيوبيا في حالة اندلاع مواجهة عسكرية باعتبار أن علاقات البلدين أقوى، وهو أمر لا يؤيده إلا البُعد السياسي فقط.
كما يتصاعد خطاب شعبوي مصري ضد السودانيين يمكن ملاحظته في التعليقات على صفحات الصحف الكبرى على فيسبوك في الموضوعات التي تتعلق بالسد والعلاقة مع السودان.
الأسوأ في تدهور هذه العلاقات تزايد مساحة الشعبوية لدى المجتمعين المصري والسوداني والاستقطاب الحاد على مواقع التواصل الاجتماعي
ورغم وجود بعض الأصوات العقلانية التي تناقش مخاوف السودانيين من الغرق والعطش وترى وفقًا لبعض التقارير التي شارك في إعدادها أحد أعضاء فريق التفاوض السوداني، أن تداعيات السد ستكون “مُدمرة” على السودان، بدرجة تتجاوز تأثيراته المحتملة على مصر، فإن الخطابات الشعبوية يتم ترويجها.
يغذي هذا حماقات السلطة وبعض الحماقات الشعبية في مصر تجاه السودان والسودانيين بدءًا من تنفيذ نظام مبارك مذبحة مصطفى محمود في مواجهة المتظاهرين السودانيين ووصوله بالعلاقات إلى ما يشبه القطيعة في التسعينيات وتطبيق تأشيرة دخول على السودانيين وتعطل اتفاق الحريات الأربعة (حرية الدخول والخروج والتنقل والامتلاك)، وصولًا لفرض النظام الحاليّ قيود أكبر على حركة المصريين للسودان في إطار مواجهة جماعة الإخوان المسلمين كفرض الحصول على تصريح أمني، ثم القيود على الطلبة والمقيمين السودانيين في مصر في الحصول على الإقامات وتجديدها واعتقال الشاب السوداني وليد عبد الرحمن في إطار تظاهرات 20 من سبتمبر التي دعا إليها المقاول محمد علي وإجباره على الاعتراف تليفزيونيًا بأنه جاء للمشاركة في التظاهرات ضد النظام في مصر وتدخل سفارة بلاده للإفراج عنه.
يبقى المشترك الأقوى حاليًّا بين مصر والسودان هو الحكومات العسكرية التي تحكم بكلا البلدين وإن كانت بحكم عسكري مباشر في مصر وشراكة هشة مع المدنيين في السودان خلال الأشهر الـ18 الأولى للحكم من عمر مجلس السيادة الانتقالي وفقًا للوثيقة السياسية وتحكم أجهزة الأمن والمخابرات وقوات الدعم السريع في مجريات الأمور مع محاولة تعزيز دورها فيما تبقى المكونات المدنية رهن هذه الأجهزة الأمنية والإرهاب وهو ما يفرض على الأقل تنسيقًا مشتركًا بين النظامين في الجانب العسكري والأمني لا يعتقد أنه سيكون دون مقابل لكليهما.
الأسوأ في تدهور هذه العلاقات هو تزايد مساحة الشعبوية لدى المجتمعين المصري والسوداني والاستقطاب الحاد على مواقع التواصل الاجتماعي الذي قد يرسخ لشقاق مجتمعي واسع ومساحات كراهية عريضة، ويقلل من فرص الأصوات العقلانية في ترتيب العلاقات بين الدولتين على أهميتها لكليهما.