رغم تفشي فيروس كورونا ـ كوفيد 19 – في جميع بلدان العالم، فإن إفريقيا ظلت صامدة لأسابيع، وخاصة بلدان جنوب الصحراء، قبل أن يستطيع الفيروس اختراق حصونها الشديدة، وإصابة ما يقرب من 1000 حالة، في نحو 40 دولة على الأقل، من أصل 54، بعضهم لا يزال يشكل عقبة حقيقية أمام تفشي كورونا، وهو لغز ما زال يحير الباحثين حول العالم الذين وقعوا بين الاستسلام لعدم فهم الموقف أو الذين أرجعوه لقلة رحلات السفر بين إفريقيا والصين، وإن كان هذا غير كافٍ، إذا استندنا إلى استمرار عمل بعض الخطوط الجوية إلى الصين منذ انتشار الوباء وحتى الآن.
ويرشح البعض المناخ الإفريقي ليكون سببًا رئيسيًا في ابتعاد الفيروس عن القارة وخاصة بلدان العمق، ومن أنصار هذا الرأي البروفيسور يزدان يزدانبا، رئيس قسم الأمراض المعدية في مستشفى بيشات في باريس، الذي يرجح عدم قابلية النظام البيئي الإفريقي للتعايش مع الأوبئة بسهولة وبالشكل الذي اخترق به “كورونا” أغلب بلدان العالم. ومع كل هذه الآراء، فإن التجربة الإفريقية، تؤكد حقيقة أن هناك جهودًا كبيرةً بذلتها بلدان غرب إفريقيا لمكافحة الأوبئة، حتى أصبحت لديها تجربة تراكمية مسجلة باسمها، وهناك تجارب شهيرة للتعامل مع الأوبئة على رأسها “إيبولا” الذي اجتاح العديد من البلدان، وكانت نيجيريا على سبيل المثال، صاحبة تجربة سباقة في كيفية التعامل معه، وأصبحت ملهمة لجميع بلدان العالم وربما نحن في حاجة لاستعراض التجربة والاستفادة منها.
المراقبة والحسم.. سر نجاح نيجريا في احتواء إيبولا
عام 2014، حمل رجل من دولة ليبريا ـ معقل وباء الإيبولا ـ المرض معه على متن طائرات تجارية إلى لاغوس، أكبر مدينة في نيجيريا، وأصبح هذا الرجل، مصدر العدوى خلال أسابيع، لما يقرب من 20 شخصًا، في مدينتين مختلفتين، وبعد أيام من فقدان التوازن، توفي 8 حالات منها، لكن السلطات النيجيرية تحركت على الفور ووضعت خطة لمراقبة أفراد عائلات الضحايا والمصابين كمرحلة أولى.
في المرحلة الثانية، وبالتنسيق مع منظمتي الصحة العالمية وأطباء بلا حدود ومختلف الخبراء الدوليين، استطاعت مراقبة ما يقرب من 900 شخص، ضمن سلسلة العدوى، وخصصت لهم 18 فريقًا من المتطوعين والعاملين في القطاع الصحي، كل مهمتهم تعقب حركة كل من كان له صلة بالمصابين، وعقمت هذه الفرق في الوقت نفسه بتعقيم الأماكن التي مرور بها.
ويختلف تشخيص الإيبولا عن كورونا، فالأول يستغرق ثلاثة أيام فقط، ورغم ضعف المدة مقارنة بالفيروس المتفشي في العالم حاليًّا الذي يحتاج إلى 14 يومًا، فإن الأيبولا أصاب أيضًا تسعة من العاملين في مجال الرعاية الصحية بالمرض، وهو ما تعاملت معه وزارة الصحة على الفور، بإعلان الطوارئ وإنشاء مركز إدارة الحوادث، الذي تحول إلى مركز عمليات الطوارئ فيما بعد، ويرجع إلى هذا المركز الفضل الأكبر في المساعدة، على احتواء تفشي الوباء بنيجيريا خلال وقت مبكر.
يمكن القول إن وزارة الصحة النيجيرية كان لها الدور الأكبر في قيادة الأزمة، بداية من تدشينها حملة إعلامية كبرى، شملت مختلف الوسائل الإعلامية من تليفزيون وإذاعة وإنترنت ورسائل على المحمول، ونجحت في تصدير أجواء تعبئة على وسائل التواصل الاجتماعي فيس بوك وتويتر، لتثقيف المجتمع النيجيري وربطه بالقضية وأخطارها، أما الدولة فتولت إجبار رجال الأعمال والمال وكل من لديه القدرة على المساعدة على الانخراط في هذه الحملة.
تمكنت الحكومة من جمع ما يكفي من التمويل والموظفين والأدوات من شركاء الدولة والمجموعات الدولية والمنظمات غير الحكومية لمواجهة تفشي المرض حال حدوث ذلك، على الفور، خاصة أن البلاد لم تكن جاهزة تمامًا، لكنهم حددوا حالة المؤشر مبكرًا.
بعض الدول العربية خططها للتصعيد في المراقبة بعد وفاة المئات حسب تصريحات الكثير من المسؤولين العرب
قادت نيجريا عمليات تحرٍ للوباء على مستوى عالمي، وبشكل قوي وصارم، وهو ما مكنها من تحديد الحالات مبكرًا، بعدما حصلت على قائمة بجميع جهات الاتصال للمشتبه بهم بالمرض، ووضعتهم على الفور، تحت مراقبة شديدة، وفرضت عليهم الخطوات الأساسية المتعارف عليها عالميًا في علم الأوبئة، بداية من العزل، نهاية بالحجر الصحي على كل أنواع الاتصالات معهم.
حددت الجهات المعنية، عبر فريق يضم أكثر من 150 متتبع اتصال، لتعقب كل فرد، يُحتمل تعرضه للفيروس، تم إجراء ما يقرب من 19 ألف زيارة مباشرة من الفريق مع المشتبه بإصابتهم، وجهًا لوجه، للتحقق من الحمى والأعراض الأخرى المرتبطة بالإيبولا، وسط أجواء صعبة للغاية، خاصة أن الناس في بلدان العالم الثالث، يعتبرون الإصابة بمثل هذه الأمراض، وصمة عار في المجتمع، ولهذا لم يترك لهم الأمر بل سارعت الدولة إليهم.
سارع الفريق بنقل أي شخص تظهر عليه الأعراض إلى جناح العزل لمزيد من الاختبارات، وبمجرد التأكد من الإصابة بفيروس إيبولا، يتم نقل المريض على الفور إلى مركز آخر، تم تخصيصة لعلاج فيروس إيبولا، ولم تترك حتى الذين اشتبه بهم، وأظهرت التحاليل نتائج سلبية، طالما أن لديهم أعراض تشبه أعراض الإيبولا، ولكن هؤلاء تم الاحتفاظ بهم بشكل منفصل عن مرضى الإيبولا، حتى شفائهم من جميع الأعراض.
التجربة الكبيرة لنيجيريا في استباق أعراض الفيروسات والأوبئة، جعلتها تتعامل على الفور بالشكل الملائم من جائحة كورونا، حيث أعلنت حظر رعاياها من السفر إلى 13 دولة تعاني من انتشار واسع لفيروس كورونا الجديد، بداية من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا والصين واليابان وإيران وسويسرا والنرويج وهولندا وفرنسا وكوريا الجنوبية وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا.
كما حظرت الرحلات الخارجية لمسؤولي البلاد، وأجلت جميع الفعاليات الرياضية المقررة مسبقًا، بعدما ارتفعت حالات الإصابة في البلاد إلى 9 أشخاص فقط، ولم تنتظر مثلما وضعت بعض الدول العربية خططها للتصعيد في المراقبة بعد وفاة المئات حسب تصريحات الكثير من المسؤولين العرب، وتعاملت بشفافية عالية عندما فقدت أول حالة وفاة رغم تواضع عدد الإصابات، وأعلن مركز نيجيريا لمكافحة الأمراض، تفاصيل حالة الوفاة، وهو رجل يبلغ من العمر 67 عامًا، عاد لبلاده من رحلة علاج في بريطانيا، وكان يعاني من مشاكل صحية مزمنة من بينها ورم نخاعي متعدد وداء السكري وخضع للعلاج الكيمياوي، لتصعد السلطات في المقابل وتعلن إخضاع 40 شخصًا من المخالطين للمتوفي في للحجر الصحي.
ما الدرس الذي يحتاجه العرب؟
ما يمكن أن يحتاجه العرب، للتعلم من الدرس النيجيري، أن الأوبئة أصبحت تجتاح كل مكان، ولكن هناك طرق شتى لمحاصرتها من البداية، للحصول على نتائج مختلفة، المهم أن تكون استجابة مؤسسات الدول المعنية – مثالية – بداية من التشخيص الجيد على جميع المستويات والتدريب المستمر وصيانة البنية التحتية والاقتناع التام بقدسية الصحة العامة.
بعد ذلك يجب تعزيز بروتوكولات السلامة الخاصة بالعاملين في مجال الرعاية الصحية الذين يتعاملون مع المرضى المصابين بالعدوى، وتعزيز آليات مراقبة المرضى بشكل أكثر صرامة وفق توصيات منظمة الصحة العالمية، لاتباع جميع قواعد السلامة عند التعامل مع مريض الأوبئة على وجه التحديد، خلال مدة المراقبة، خاصة أن العاملين في الرعاية الصحية غير المدربين، يتعاملون في بعض البلدان بالصفوف الأولى لمواجهة كورونا، ولم ينجحوا في واجباتهم الرئيسية، وأصابتهم العدوى ورأيناهم في حالة من الهلع هم وأسرهم، بسبب عدم الترابط المؤسسي مع هيئات الصحة، سواء من بداية التخاذل في التعرف السريع على الحالات، نهاية بالتدخلات المهنية والعلمية بأساليب كان يمكنها وقف انتقال العدوى، قبل استفحالها على النحو الذي طال جميع البلدان العربية!