مرّ العالم بالكثير من النوائب في مختلف العصور ولكنه لم يتوحد في ألمه كما وحدته جائحة كورونا، التي سوف تنتهي بصورة أو بأخرى، لكن العالم بعدها لن يظل على حاله.
عادات ستختفي وأخرى ستظهر، مفاهيم جديدة ستعيد تشكيل العلاقات بين الدول وتعاملات الأفراد، حتى التكنولوجيا ستأخذ بُعدًا آخر، إذ إن الفيروس العالمي الجديد الذي يبقينا محتجزين في منازلنا – ربما لأشهر – بدأ بالفعل في تغيير علاقتنا بالحكومة والعالم الخارجي وبعضنا البعض.
ربما أوقات الأزمة تمنحنا فرصةً أيضًا من أجل استخدام تكنولوجيا أكثر تطورًا ومرونةً، وإعادة تقديرنا للأماكن العامة ومتع الحياة البسيطة الأخرى.
الذكاء الاصطناعي والتنبؤ بالأمراض
الحكومات في جميع أنحاء العالم تعمل بالتعاون مع مقدمي الرعاية الصحية على متابعة ومنع انتشار الأمراض، وفي المقابل، يحلل خبراء الصحة معطيات الفيروس عن طريق استخدام الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي، بهدف تعزيز الجهود لمنع المزيد من انتشار الأمراض والعدوى.
أثبتت البيانات والتحليلات التي نشرت في وقت سابق، أنها مفيدة في مكافحة انتشار الأمراض، فقدرة التعلم الآلي على استيعاب أعداد هائلة من البيانات أو المعلومات من شأنها تقديم رؤى لمعرفة أعمق بالأمراض وتمكين الجهات المعنية من اتخاذ قرارات أفضل خلال فترة تطور انتشار الأمراض أو الأوبئة.
ويمكن للجهات الصحية والطبية الاستفادة من تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي بأربع طرق، وذلك بهدف الحد من انتشار فيروس كورونا المستجد:
– التنبؤ
نمو عدد سكان العالم واستمرار التفاعل مع الحيوانات، عزز انتشار الفيروسات ذات المنشأ الحيواني، وأدى إلى سهولة انتقالها للبشر.
وهذا ما تم كشفه مع فيروس إيبولا عام 2018 في غرب إفريقيا، فبحسب مركز السيطرة على الأمراض الأمريكي، ثلاثة من كل أربعة أمراض جديدة في البشر تأتي من الحيوانات.
تدمج هذه التكنولوجيا مختلف البيانات عن الفيروسات المعروفة سابقًا وعدد الحيوانات والتركيبة السكانية والممارسات الثقافية والاجتماعية، للتنبؤ بحدوث تفشٍ للمرض.
– الكشف
عندما تنتقل الفيروسات غير المعروفة إلى الإنسان، يصبح الوقت موردًا ثمينًا من أجل اتخاذ الإجراءات ومعالجة المصابين بشكل فعاّل.
طور عدد من الاختصاصيين مناهج باستخدام التعلم الآلي لاستخراج بيانات من وسائل الإعلام الاجتماعية للحصول على مؤشرات لأعراض الأمراض، ومن خلال استخدام الذكاء الاصطناعي تم الوصول إلى نتائج بشكل أسرع في اكتشاف الأمراض.
– الاستجابة
بعد اكتشاف وتحديد المرض، يعد اتخاذ القرارات في الوقت المناسب أمرًا بالغ الأهمية للحد من انتشاره وتفشيه، ويمكن للذكاء الاصطناعي دمج بيانات السفر والسكان والمرض، للتنبؤ بمكان ومدى سرعة انتشار المرض أو الفيروس، كذلك يمكن استخدامه من أجل تحسين العلاجات وتطبيقها والإسراع في تطوير علاجات جديدة.
في حالة كورونا، يمكن استخدام صور الأشعة للمصابين بالفيروس في الذكاء الإصطناعي كبيانات حتى يتمكن الأطباء من إجراء تشخيصات أسرع.
أما بالنسبة لإيجاد لقاحات لمثل هذا الفيروس، فيعد أمرًا صعبًا، ولكن يمكن الاستفادة من الذكاء الاصطناعي من خلال فحص البيانات من الأمراض الفيروسية المماثلة، وهذا ما تم فعله حاليًّا باستخدام علاج الملاريا لمرضى كورونا.
– الاحتواء والشفاء
بمجرد احتواء انتشار المرض وانتهائه، تتخذ الحكومات والأجهزة الصحية والطبية المعنية، قرارات بشأن كيفية المنع أو الحد من انتشاره في المستقبل، في هذه الخطوة يمكن استخدام التعلم الآلي عن طريق اختبار سياسات ومبادرات صحية والتحقق منها.
الذكاء الاصطناعي يسمح للجهات المعنية بتحليل المعطيات والقيام بتخمينات بناءً على فرضية “ماذا لو” التي من الممكن أن تساعد في اتخاذ قرارات تعتمد على البيانات وزيادة احتمالية فعاليتها.
تقنيات وتطبيقات
دعنا نتعرف الآن على أهم التقنيات والتطبيقات التي استخدمتها الدول والجهات المعنية لمراقبة ورصد الفيروس وتطوراته.
خوارزمية التنبؤ BlueDot
لجأ العلماء إلى استخدام خوارزمية “BlueDot” التي تعتمد على الذكاء الاصطناعى للتنبؤ بانتشار الفيروس، حيث تتابع الخوارزمية تقارير الأخبار وشبكات الأمراض الحيوانية والنباتية والإعلانات الرسمية لإصدار تحذير مسبق لتجنب مناطق الخطر لانتشار الفيروس.
لا يمكن الاعتماد على الحكومات لتوفير المعلومات في الوقت المناسب، لذلك تستخدم “بلودوت” بيانات شركات مختصة لمتابعة تطورات الأحداث غير العادية، وبالفعل تنبأت الخوارزمية بشكل صحيح بفيروس كورونا، وأنه سينتقل من ووهان إلى بانكوك وسيول وتايبيه وطوكيو في الأيام التالية لظهوره الأول.
وسائل التواصل الاجتماعي وما قدمته من دعم لمحاربة الوباء
في خطوة جديدة اتخذتها منصات التواصل الاجتماعي وعدد من المواقع الأكثر استخدامًا على مستوى العالم، أصدرت شركات التكنولوجيا تطبيقات لمعالجة نشر المعلومات الخاطئة في أثناء أزمة فيروس كورونا.
ونشر كل من فيسبوك وجوجل ومايكروسوفت وتويتر ويوتيوب ولينكد إن بيانًا في 17 من مارس/آذار 2020، يقول إن تلك الشركات “تعمل جميعًا بشكل وثيق لتعزيز جهود مكافحة المعلومات الخاطئة عن فيروس كورونا، ومهمتها:
- مساعدة الناس للبقاء على اتصال خلال فترات الحجر الذاتي.
- محاربة التضليل الذي قد يظهر على منصاتها.
- مكافحة الاحتيال والمعلومات المضللة عن الفيروس بشكل مشترك.
- مشاركة التحديثات المهمة بالتنسيق مع وكالات الرعاية الصحية الحكومية حول العالم.
روبوت للمهام الطبية
مؤخرًا أطلقت شركة يابانية روبوتًا جديدًا يحمل اسم Robear ويعمل كممرض داخل المستشفيات ويمكنه أن يؤدي مهامًا متعددةً، وهو مهم في سبيل الحد من التعامل المباشر مع المرضى المصابين.
الروبوت الجديد وفقًا لموقع mashable الأمريكي يزن 140 كيلوغرامًا وله شكل جسم الإنسان مع وجه دب ظريف ليكون مناسبًا للمرضى ولا يفزعهم، وهو يتحرك ببطء وسلاسة بفضل الأدوات الميكانيكية، كما أنه مزود بالعديد من التقنيات الحديثة التي تساعده في التعامل مع المرضى وتلقي الأوامر وتنفيذها بشكل سليم.
التطبيب عن بعد
سيغير الوباء نموذج مكان تقديم الرعاية الصحية، إذ ظلت فكرة التطبيب عن بعد على الهامش طوال سنوات، بوصفها منظومةً قليلة التكلفة وعالية الراحة، ولكن الضرورة قد تزيد شعبية زيارات الطبيب عن بعد بالتزامن مع جائحة كورونا وما بعدها، إذ إن البقاء في المنزل وإجراء محادثة فيديو يبقيانك خارج إطار العدوى وبعيدًا عن غرف الانتظار والمرضى الذين يحتاجون إلى رعايةٍ مركزة.
المراقبة الرقمية
عندما تظهر أعراض الإصابة بفيروس كورونا على شخص ما، فإن هذا يعني أنه أمضى خمسة أيام قبل ظهور الأعراض بصورة طبيعية، وعاش وسط عائلته والتقى بجيرانه وأصدقائه وزملاء العمل وغيرهم.
وتكمن المشكلة الأساسية في التعرف على هؤلاء الأشخاص الذين احتكوا به، ويمكن أن يكونوا حاملين للفيروس، وهي عملية كانت مستحيلة خصوصًا في المدن الكبرى، لكن حاليًّا مع التكنولوجيا الرقمية تمكنت الحكومات من تتبع أثر مسار المرضى والملامسين وإرسال إشارات تحذيرية لهم.
تطبيق مراقبة مسار المريض
أطلق كريستوف فريزر الخبير في طرق الوقاية من الأمراض المعدية بجامعة أكسفورد مشروعًا لتطوير برنامج معلوماتي في بداية مارس/آذار، للعثور على كل الأشخاص الذين كانوا على اتصال مع المريض.
يستخدم البرنامج بيانات تحديد المواقع الجغرافية وحجمًا هائلًا من المعطيات وما تتضمنه (تطبيقات) أدوات الاتصال والمعلوماتية المختلفة، بحيث يمكن التعرف على كل شخص كان على اتصال مع المريض لفترة تتجاوز الربع ساعة وعلى مسافة تقل عن مترين خلال الأيام الخمس التي سبقت ظهور أعراض المرض.
سوار رقمي ذكي
طور الصينيون تطبيقات للهواتف المحمولة لمراقبة الأشخاص الذين لا يحترمون إجراءات العزل، بل واستخدموا أدوات الذكاء الاصطناعي التي تفحص معطيات سوار إلكتروني يحمله كل مواطن، وفي حال كان يحترم حدود العزل يسمح له باستقلال المترو أو الدخول إلى هذا المبنى أو ذاك.
وفي كوريا الجنوبية وتايوان تم استخدام برامج ترصد مسار المريض والأماكن التي زارها قبل ظهور أعراض المرض.
التقنية الرقمية للتعرف على الوجوه
كما الصين، ذهبت موسكو بعيدًا مستخدمةً شبكة من الكاميرات المنتشرة في الأماكن العامة، التي تضم مئة وسبعين ألف كاميرا، تتمتع بتقنية التعرف على الوجوه، بحيث تسجل السلطات صور المرضى، ثم تراقب كاميرات التعرف على الوجوه المارة للتأكد من أن أحدًا من المرضى خالف تعليمات العزل وغادر منزله إلى الشارع.
رؤية تبدو مرعبة بالنسبة لقيم المجتمعات الديمقراطية، وما ينبغي أن تلتزم به من احترام خصوصية الحياة الشخصية، وسرية البيانات الخاصة والالتزام بالامتناع عن استخدام هذه المعطيات لهدف آخر غير المعلن.
ختامًا
لقد أثبت الذكاء الاصطناعي قيمته باعتباره السلاح الأهم في حربنا لمكافحة الأمراض المعدية، فباستخدام أنظمة الكمبيوتر المتقدمة، تزداد قدرتنا على فهم ظهور تلك الأمراض وانتشارها وهو ما لم يكن بإمكاننا معرفته أو القيام به من قبل.
إن التقنيات الحديثة والبيانات الذكية أتاحت لنا إمكانات للتعامل مع هذه الكارثة العالمية بدقة وإتقان غير مسبوقين، وبنظرة متعمقة، نرى أن الذكاء الاصطناعي يمكنه كذلك أن يعزز دفاعاتنا ضد الأمراض المعدية في مواطن لا حصر لها.