تدخل حرب أسعار النفط بين السعودية ومنظمة أوبك من جهة وروسيا من جهة أخرى نفقًا جديدًا من التصعيد في ظل تمسك كل طرف بموقفه، الأمر الذي أثار مخاوف البعض بشأن وصول أسعار برميل النفط إلى السالب حال استمرت تلك الحرب التي تتزامن مع انشغال العالم بأزمة تفشي فيروس كورونا الجديد الذي أصاب الاقتصاد العالمي (من بينه سوق النفط) بحالة من الشلل.
ومن المتوقع في ظل الوضعية الحاليّة، ومع ارتفاع العرض بصورة هائلة وتراجع الطلب على الخام الأسود بصورة ملفتة، أن تصل المخازن والمصافي وأنابيب وناقلات النفط إلى أقصى قدرتها الاستيعابية وهو أمر لم يحصل منذ العام 1998، ما يعني أن النفط المنتج لن يجد سعة أو وجهة يقصدها، حسبما أشارت مؤسسة الخدمات المالية والاستثمارية “غولمدان ساكس”.
وأمام هذا التصعيد الذي يهدد سوق النفط العالمية ويضع الدول المنتجة في مأزق حقيقي، سعى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، إلى التدخل من أجل تخفيف حدة التوتر بين الطرفين، حيث أعرب عن اعتقاده، بأن روسيا والسعودية ستحلان خلافاتهما بشأن قضية أسعار النفط في الأيام القليلة المقبلة، لأن الوضع بات سيئًا لكليهما، على حد قوله.
وفي السياق ذاته، دعت وزارة الطاقة الأمريكية كل من الرياض وموسكو على العمل معًا لتهدئة سوق النفط، تزامن ذلك مع مباحثات مكثفة يجريها الرئيس الأمريكي مع قادة البلدين للتوصل إلى صيغة مشتركة، تجنبًا للوصول إلى السيناريو الكارثي الذي من المتوقع أن يخرج الجميع منه خاسرًا، فهل ينجح ترامب في أداء هذا الدور؟
معركة خاسر – خاسر
منذ الـ9 من مارس الماضي، حين أعلنت الرياض زيادة كبيرة في إنتاج النفط مع خفض سعر البرميل بما يتراوح بين 6 و8 دولارات، وذلك ردًا على رفض موسكو تمديد اتفاق خفض الإنتاج بين الدول الأعضاء في منظمة “أوبك” وخارجها (“أوبك+”) بشروط سعودية، دخل الطرفان مفاوضات غير مباشرة طيلة الفترة الماضية لأجل خفض الإنتاج وحماية الأسعار.
غير أن تلك المفاوضات لم تسفر عن أي تحرك إيجابي، في ظل تمسك موسكو بموقفها الرافض تخفيض إنتاجها، لافتة إلى أن الإبقاء على أسعار النفط في مستوى معين يخدم الشركات الأمريكية، لذلك اتخذت قرارًا بأن تحافظ على مستوى مرتفع لإنتاج النفط، بينما كان موقف السعودية أن ما يخدم مصالحها هو الحفاظ على سعر البرميل في حدود 50 دولارًا.
التناطح بين الطرفين في ضوء تباين الأجندات الميدانية لكليهما، أدخل الجميع في معركة “خاسر – خاسر” لأن لا أحد سيستفيد من هذا الوضع، بحسب خبراء يرون أن الوضع العالمي الحاليّ قد يؤدي إلى أزمة حقيقية مشابهة لتلك التي حصلت عام 2008، وأن الأزمة بحاجة إلى عام أو عامين لتجاوز تبعاتها مع الكثير من التخطيط والدعم، حتى يكون العالم قادرًا على جعل نتائج هذه الأزمة خلف ظهره.
الخسائر الناجمة عن تلك الحرب لم تتوقف عند حاجز طرفيها وفقط، بل تجاوزت ذلك إلى شركات النفط الصخري الأمريكية، التي منيت بخسائر جمة جراء تراجع الطلب على النفط بسبب فيروس كورونا بجانب حرب الأسعار الروسية السعودية
الخبير الاقتصادي في بنك “جيفريز الدولي”، جيسون جاميل، يرى أنه إذا أبقت السعودية على تلك الوتيرة، “فإن الحد الأدنى الوحيد لسعر النفط على المدى القصير هو الصفر”، فيما أوضح بيورنار تونهاوجن، مدير شؤون أسواق النفط لدى “ريستاد إنرجي”، أن “على السوق أن تعي أن موجة فقد الطلب العاتية الناجمة عن فيروس كورونا ستكون نحو أربعة أو خمسة أمثال سيل النفط القادم من منتجي أوبك في الربع الثاني على الأرجح”.
وفي السياق ذاته خفض “غولدمان ساكس” الذي توقع في 18 من مارس هبوط الطلب العالمي بواقع 1.1 مليون برميل يوميًا في 2020، توقعاته لبرنت في الربع الثاني من العام إلى 20 دولارًا، وهو ما يعني أن سوق النفط على أعتاب كارثة محققة إذا استمرت تلك الحرب التي من الواضح أنها تجاوزت أبعاد الربح والخسارة إلى آفاق أخرى ربما تحمل معها أبعادًا سياسية.
تدخل أمريكي
الخسائر الناجمة عن تلك الحرب لم تتوقف عند حاجز طرفيها وفقط، بل تجاوزت ذلك إلى شركات النفط الصخري الأمريكية، التي منيت بخسائر جمة جراء تراجع الطلب على النفط بسبب فيروس كورونا بجانب حرب الأسعار الروسية السعودية، حيث أدى ذلك إلى تعرض العاملين في هذه الصناعة لشبح البطالة، فيما جاءت نتائج الربع الأول من العام الحاليّ الأسوأ على الإطلاق.
كل هذا كان دافعًا قويًا لتدخل أمريكي مكثف للحيلولة دون تفاقم الوضع، حيث أشارت المتحدثة باسم وزارة الطاقة شايلين هاينس أن: “زيادة الإنتاج خلال هذا التوقيت من التراجع الذي لم يسبق له مثيل في الطلب العالمي أمر يدعو للإحباط ولا يجسد التخطيط التشاوري الذي نود أن نراه من شريكين ولا يفيد مصالحنا المشتركة في استقرار الأسواق”، مضيفة أن وزير الطاقة دان برويليت يجري محادثات مع نظيريه في الدولتين المنتجتين للنفط في محاولة لاستقرار الأسواق.
حال الفشل في التوصل إلى حل ينقذ الوضع الحاليّ، فإن ترامب لديه خيارًا آخر للتصرف بغية تسوية الوضع، إذا كانت روسيا والسعودية ستفشلان في إبرام صفقة، لكنه لا يرغب في اللجوء لذلك الخيار
وكان الكرملين قد أعلن أن الرئيس الأمريكي ونظيره الروسي اتفقا، في اتصال هاتفي، على إجراء محادثات بين وزيري الطاقة في البلدين بشأن تراجع أسواق النفط العالمية، وقال ترامب قبل أيام إنه سيتدخل لحل الأزمة التي خلقتها السعودية وروسيا في أسعار النفط، وانعكست سلبًا على الداخل الأمريكي مما حدا بمسؤولين في الكونغرس إلى انتقاد الرياض بشكل خاص، معتبرين أنها تمارس أفعالًا تضر بالاقتصاد الأمريكي ولا تناسب روح الشراكة مع واشنطن.
وبالأمس قال ترامب إنه سينضم إلى السعودية وروسيا، إذا تطلب الأمر، لعقد محادثات بشأن التراجع الحاد في أسعار النفط الناجمة عن تلك الحرب، لافتًا إلى أنه أجرى مباحثات إيجابية خلال اتصالات أجراها على نحو منفصل مع ولي عهد السعودية والرئيس الروسي.
وفي حال الفشل في التوصل إلى حل ينقذ الوضع الحاليّ، تابع ترامب أن لديه خيارًا آخر للتصرف بغية تسوية الوضع، إذا كانت روسيا والسعودية ستفشلان في إبرام صفقة، لكنه لا يرغب في اللجوء لذلك الخيار، الذي لم يعلن فحواه.
جدير بالذكر أن الرئيس الأمريكي في وقت سابق اتهم موسكو والرياض بالجنون بشأن أسعار النفط، وقال: “لا نريد صناعة ميتة تعرضت للتدمير”، مضيفًا “هذا سيئ لهم، وسيئ للجميع.. هذا الصراع بين روسيا والسعودية يتعلق بكم البراميل التي ستضخانها.. وكلتاهما أصيبتا بالجنون”.
هل تنجح دبلوماسية النفط؟
في تقرير أعده كل من خافيير بلاس وإيفنجيا بيسيمنيا، نشره موقع “بلومبيرغ” استعرض جهود ترامب للتوصل إلى هدنة توقف حرب الأسعار النفطية، مشيرًا إلى مقاومة الرياض جهود الرئيس الأمريكي في هذا الشأن، لافتًا إلى أنه – أي ترامب – اتصل مع ابن سلمان وبوتين في الوقت الذي لم تتصل فيه موسكو مع المسؤولين السعوديين منذ بداية الأزمة.
الكاتبان نوها إلى أن السعودية بدأت منذ بداية الشهر بزيادة مستويات الإنتاج إلى أكثر من 12 مليون برميل في اليوم، بحسب مسؤول مطلع على الصناعة النفطية في المملكة، لافتين إلى أن الرياض أكدت أنها لن تتراجع عن قرارها غمر السوق العالمية، إلا في حال اتفقت الدول المصدرة للنفط، بما فيها الولايات المتحدة، على تخفيض الإنتاج.
أما على الجانب الروسي، فيستدرك التقرير بأن موسكو قدمت موقفًا تصالحيًا أكثر وقالت إنها ستوافق على زيادة الإنتاج دون أن تقدم مقترحات بشأن كيفية إنهاء العداء مع حليفتها السابقة فيما عرف بأوبك+، كما أفاد بلاس وبيسيمنيا بأن قرار ترامب القيام بدبلوماسية النفط جاء بسبب النتائج الكارثية لانهيار أسعار النفط على صناعة النفط الصخري، التي تتركز في تكساس وبقية الولايات الموالية للجمهوريين.
العديد من التساؤلات طرحها التقرير عن نجاح الجهود وقدرة “التنسيق، سواء من أوبك+ أو الولايات المتحدة وغيرها من الدول المنتجة للنفط على إنقاذ السوق، غير أنه أورد نقلًا عن مسؤول روسي سياسي بارز، قوله إن موسكو، رغم عدم حديثها مع السعودية، لا تخطط لزيادة الإنتاج في ظل الوضع الحاليّ للسوق، ولم يقدم أي إشارة عن استعداد روسيا التفكير في تخفيض الإنتاج.
السوق العالمية تحتاج يوميًا إلى 100 مليون برميل، إلا أن الطلب سيقل بنسبة 30 مليون برميل في اليوم في شهر أبريل الحاليّ
الكاتبان أرجعا انهيار أسعار النفط إلى قرار موسكو عدم الانضمام للدول المنتجة والمصدرة للنفط “أوبك”، بتخفيض معدلات الإنتاج، مشيرين إلى قول المتحدث باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، للصحافيين أول أمس الثلاثاء: “تقليديًا يرحب الجانب الروسي بالحوار المتبادل والتعاون من أجل تحقيق الاستقرار في أسواق الطاقة”، وأشار إلى أنه لا توجد لدى الرئيس بوتين أي خطط للاتصال مع ولي العهد السعودي.
الموقع الأمريكي نقل عن العضو التنفيذي في شركة الاستشارات “فيتول”، كريس بيك، قوله إن السوق العالمية تحتاج يوميًا إلى 100 مليون برميل، إلا أن الطلب سيقل بنسبة 30 مليون برميل في اليوم في شهر أبريل الحاليّ، لكن أثر ذلك لم يظهر بعد بسبب الإغلاقات التي نتجت عن انتشار فيروس كورونا.
غير أنه في الجهة الأخرى نقل عن المسؤول الروسي، قوله إنه من غير المنطقي قيام الدول المنتجة للنفط بزيادة معدلات الإنتاج في ظل الوضع الحاليّ، فيما قال وزير الطاقة ألكسندر نوفاك، الشهر الماضي، إن بلاده قادرة على المدى القصير، على زيادة الإنتاج بمعدل 200 ألف إلى 300 ألف برميل في اليوم، وعلى المدى البعيد بمعدل نصف مليون برميل في اليوم، وهو ما يساوي جزءًا قليلًا من خطة السعودية لزيادة الإنتاج بمليوني برميل في اليوم.
حالة من الترقب تخيم على سوق النفط العالمية في انتظار ما ستسفر عنه جهود التهدئة الأمريكية لخفض وتيرة الحرب المستعرة بين موسكو والرياض، غير أن المستجدات التي طرأت على مسار تلك الأزمة من التنسيق الواضح بين الولايات المتحدة وروسيا في هذا الشأن ربما تلعب دورًا مؤثرًا في التوصل إلى نتائج إيجابية حال استجابت السعودية للضغوط الأمريكية، ومن جانب آخر ربما تهدد عرش منظمة أوبك كرائدة لصناعة النفط في العالم، وهو ما ستكشفه الأيام المقبلة.