أوبورن: كوربين يترجل شامخ الرأس بعد أن أثبت نفسه
ترجمة وتحرير: نون بوست
ثمّة قاعدة أساسية في السياسة البريطانية، كما قال المؤرخ البريطاني العظيم إيه جيه بيه تيلور: المتطرفون والحالمون يعانون في حياتهم من الإقصاء والاحتقار. لا يسمح لهم بالاقتراب من السلطة قيد أنملة إلا إذا باعوا وتخلوا. المؤسسة الحاكمة هي التي تقف حجر عثرة في طريقهم.
إلا أنه يعوضهم عن ذلك أن أفكارهم تفوز في النهاية. فبعد مغادرتهم المسرح السياسي بقليل يصبح هدى ما كان ذات مرة ضلالاً. وللتعبير عن ذلك بطريقة أخرى يمكن القول إنهم يخسرون الحاضر ولكن يكسبون المستقبل.
إن التحليل الذي قدمه تيلور في كتابه المتميز “المشاغبون” – والذي يصدقنا القول اليوم كما فعل عندما ألفه قبل ستة عقود – ينطبق بالضبط على جريمي كوربين، زعيم حزب العمال الذي يترك منصبه نهاية هذا الأسبوع.
تحدي الحكمة الجماعية
لم يتعرض سياسي من التيار العام في الزمن المعاصر للسخرية والإجحاف والتشويه كما حصل مع كوربين. ولكني لا أجد أحداً ثبتت صحة مواقفه المرة تلو الأخرى أكثر من كوربين.
في تحد للحكمة الجماعية لمؤسسة الحكم، تزعم كوربين حملة ضد غزو العراق. وها نحن نرى بعد سبعة عشر عاماً دموية أن الولايات المتحدة مازالت تبحث عن سبيل لتخليص نفسها من تلك الورطة. واليوم يكاد الجميع يقرون بأن كوربين كان على حق.
في السنوات الأخيرة تمثل ذلك في مطالبة كوربين بإنهاء التقشف، والتراجع عن الخصخصة وفي نفس الوقت إنفاق مزيد من المليارات على الخدمات العامة
وقبل ذلك كان كوربين قد حذر من القيام بغزو أفغانستان، وبعد عقدين من غزوها ها قد أبرمت الولايات المتحدة صفقة مع الطالبان وهي الآن في طريقها للخروج من هناك خائبة مخزية.
وكان كوربين واحداً من عشرة نواب فقط من نواب البرلمان البريطاني صوتوا ضد قرار التدخل في ليبيا لكل من رئيس الوزراء البريطاني السابق دافيد كاميرون والرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي. وأي كارثة نجمت عن ذلك التدخل. مرة أخرى، ثبت أن كوربين كان محقاً في موقفه.
وأما في الجبهة الداخلية فقد أثبتت الأيام، وبشكل مدهش، كم كان كوربين محقاً فيما كان يقوله. فعلى مدى نصف قرن من احترافه للعمل السياسي ظل كوربين يناضل ضد ما نسميه اليوم اللبرالية الجديدة (النيولبرالية). أي أنه كان باستمرار يعارض انكماش الدولة وإسقاط ضمانات الحماية للعمال ويعارض خصخصة الخدمات العامة.
وفي السنوات الأخيرة تمثل ذلك في مطالبة كوربين بإنهاء التقشف، والتراجع عن الخصخصة وفي نفس الوقت إنفاق مزيد من المليارات على الخدمات العامة. ونتيجة لذلك ندد به خصومه السياسيون (سواء داخل حزب المحافظين أو، وهذا هو الأكثر غرابة، داخل حزبه هو، حزب العمال) واتهم بأنه ماركسي مخبول كل همه أن يدمر الاقتصاد البريطاني بل وأن يمسح بريطانيا من الوجود.
وعلى الرغم من أنني كنت ناقداً شديداً لكثير من أفكار كوربين الاقتصادية، إلا أنني أشرت من قبل إلى أنه لم يكن يطالب بشيء أشد صرامة من استعادة التسوية الديمقراطية الاجتماعية التي سادت في بريطانيا ما بين الحرب العالمية الثانية وصعود مارغريت ثاتشر في ثمانينيات القرن الماضي.
فيروس كورونا فيما يبدو سوف يحدث تغييراً جذرياً في أسلوب التعامل مع من يعملون في رعاية المسنين، والعاملين في القطاع العام، والممرضين والأطباء
وبالطبع ثمة مفارقة عجيبة تشهدها لحظتنا هذه، إذ بينما يغادر كوربين منصبه تنهمك حكومة رئيس الوزراء بوريس جونسون في تطبيق نسخة أكثر تطرفاً من السياسات المحلية التي كان يدعو إليها كوربين خلال الدورتين الانتخابيتين الماضيتين.
استخدمت الصحافة الموالية لحزب المحافظين مصطلحاً للدلالة على سياسة جريمي كوربين الاقتصادية هو كوربينوميكس. مستويات غير مسبوقة من الإنفاق الحكومي. عمليات إنقاذ للمؤسسات التجارية المخفقة. وزيادة مضطردة في الاقتراض الحكومي. وإعادة التأميم. كل هذه وضعها موضع التنفيذ نفس رئيس الوزراء الذي حذر مراراً وتكراراً قبل الانتخابات الأخيرة من أن بريطانيا تحت حكم كوربين سوف تعاني من “نكبة اقتصادية”.
مازالت الخناجر مشرعة
تلاقي إجراءات وزير المالية ريشي سوناك إشادة إلى السماء من قبل نفس الصحافة اليمينية التي حذرت من أن الاقتصاد سيمحى تماماً فيما لو أصبح كوربين رئيساً للوزراء. ينطبق ذلك حتى على ما كشف عنه وزير المالية من إسراف في الإنفاق في ميزانيته التي سبقت دخول البلاد في أزمة فيروس كورونا.
بل وأكثر من ذلك فيما بعد. مع أنه من المبكر لأوانه القول على وجه التأكيد، إلا أن فيروس كورونا فيما يبدو سوف يحدث تغييراً جذرياً في أسلوب التعامل مع من يعملون في رعاية المسنين، والعاملين في القطاع العام، والممرضين والأطباء، وكذلك تجاه المهاجرين. بدأ الناس يدركون أن بعض هؤلاء هم الأبطال الحقيقيون في المجتمع البريطاني.
وهذا يقودني إلى نقطتي الأخيرة. بينما يستعد كوربين للترجل عن موقعه كزعيم لحزب العمال، يعمد خصومه إلى غرس الخنجر في ظهره للمرة الأخيرة.
في مقاله الذي نشرته له صحيفة ذي تايمز، لخص مات تشورلي زعامة كوربين بالقول إنها كانت “حسنة النية لدرجة السطحية ولكن محيرة في عقمها”. وفي مجلة ذي سبيكتاتور، ندد ستيفن ديزلي بما وصفه “إرث كوربين السام” قائلاً: “خذ عقدتك المهدوية وطائفتك الضئيلة التافهة وانقلع من هنا.”
ماذا كانت مشكلة كوربين؟ لقد ارتكب المرة تلو الأخرى الجريمة الكبرى في عالم السياسة، ألا وهي أن يكون مصيباً في تقديره للقضايا الكبيرة وما يلزمها من حلول
كبراء المحافظين والعمال على حد سواء لا يفوتون فرصة أخيرة للنيل من الزعيم العمالي المغادر. لم يكن مستغرباً أن يعمد اللورد ماندلسون، مهندس فكرة “حزب العمال الجديد”، إلى تصنيف سياسات كوربين على أنها “التعصب والشقاق”. وتلك بلا شك جرأة من ماندلسون الذي ربما كان أكثر شخصية مسببة للشقاق والخلاف أفرزها حزب العمال في تاريخه.
وأما سكرتير ثاتشر الصحفي بيرنارد إنغهام فنعت كوربين في مقال له في صحيفة ذي يوركشاير بوست بأنه “سلطوي حتى الرقبة”. وهكذا يتم التعامل مع الرجل بازدراء منقطع النظير.
الجريمة الكبرى
والآن سوف يستلم قيادة حزب العمال زعيم جديد هو كير ستارمر. لم يتم اختباره بعد ولكن يعجبني شكله. كثيرون ينصحون ستارمر بأن يمحو تماماً إرث كوربين، وأن يسقطه من سجل التاريخ، تماماً كما فعل طوني بلير مع سلفه جون سميث. ولكن لو كان لدى ستارمر أي بصيرة لعمد إلى تكريم كوربين والإشادة بإرثه.
وماذا كانت مشكلة كوربين؟ لقد ارتكب المرة تلو الأخرى الجريمة الكبرى في عالم السياسة، ألا وهي أن يكون مصيباً في تقديره للقضايا الكبيرة وما يلزمها من حلول. ولن تغفر المؤسسة الحاكمة له ذلك أبداً.
والحقيقة هي أن كوربين الهادئ والبسيط المتواضع، سواء أحببت ذلك أم لا، كان زعيماً حكيماً لحزب العمال. لقد ارتكب أخطاءً بطبيعة الحال، وأساء التقدير في بعض المواضع. إلا أن التاريخ سيكون أكثر لطفاً وكرماً معه مقارنة بجونسون أو بلير أو تيريزا ماي.
بإمكان جريمي كوربين أن يترجل نهاية هذا الأسبوع عن زعامة حزب العمال وهو شامخ الرأس.
المصدر: ميدل إيست آي