تصوير: يحيى نعمة
شمالي مدينة إدلب بينها وبين الحدود السورية التركية أنشَأ بعض المُهَجرين السوريين مخيمهم قرب قرية كفر يحمول، والمعروف باسم مخيم الداهوك، حيث يتسابق هؤلاء الأطفال بعد توقف الأمطار على الشارع الذي رصفته قبل مدة منظمة محلية بـ”البحص”، في محاولة لتخفيف وطأة الشتاء على قاطنيه.
أطفال يلعبون في مخيم الداهوك قرب كفر يحمول شمالي إدلب
لا يفهم كثير من هؤلاء الأطفال ضرورة التباعد أو الحجر المنزلي الذي تتحدث عنه المنشورات الصحية التي تملأ صفحات مواقع التواصل الاجتماعي التي تُعد صلة الوصل الأهم بين قاطني المخيمات والعالم من حولهم، أو تلك التي تحاول الفرق المحلية نشرها في المخيمات عبر حملات التوعية التي تقيمها فيها، فأكثرهم لا يدرك معنى للمنزل غير هذه الخيمة التي تفتحَت فيها وفي المخيمات طفولتهم، وطنًا وأسلوب حياة كامل!
فكيف يمكن لقاطن خيمة أن يحجر نفسه فيها عندما يضطر لكل غرض من أغراض العيش أن يغادرها، إلى الخلاء أو الحمام أو إعداد الطعام أو غسيل مِزَق الثياب التي سمحَت له الظروف بالإبقاء عليها؟! وأي معنى لـ”التباعد الاجتماعي” يبقى عندما يرتصف أهالي المخيم أمام خزانات المياه التي يتم ملؤها كل فترة، أو عندما يتجمعون حول سيارة توزع مساعدات عليهم كل حين يطول أو يقصر حسب حظوظ قاطنيه؟!
نازحات من قاطنات مخيم الأرامل قرب قرية الفوعة يتجمعن حول سيارة توزع مساعدات
تَعتبِر “أم موسى” – من أهالي ريف حلب الجنوبي أساسًا – نفسها محظوظة بنزوحها إلى مقلع حجارة قديم على طريق إدلب الغربي، بعد حملة جيش الاحتلال الروسي لاحتلال جنوبي حلب بدايات عام 2016، فقد تمكنت من حجز إحدى الغرف القليلة في المقلع سكنًا لها، على خلاف عدد كبير من العوائل الذين لم يجدوا غرفًا فارغة، فنصَبوا “شوادر” على أرضه مُحِيلينه مخيمًا.
أم موسى أمام غرفتها في مقلع حوله المهجرون إلى مخيم غربي إدلب
لكنها رغم ذلك لا تستطيع تطبيق فكرة “الحجر المنزلي” في غرفتها تلك التي لا تختلف عن الخيمة إلا بكون جدرانها من الحجارة بدل القماش، فما زال عليها مشي مسافة ربع ساعة تقريبًا – كحال كل قاطني المقلع – للوصول إلى “بيت الخلاء” الذي أنشأه متبرع على مسافة قريبة لخدمتهم، ومع ذلك يبقى بيت الخلاء الحجري ذاك في المقلع أفضل بكثير من “شِبْه الحَمام” الذي أنشأه بعض المُهَجرِين لخدمتهم في مخيم صغير عشوائي قرب قرية باتبو في أقصى ريف حلب الغربي، واختاروا لجدرانه بعض “البطانيات” التي وزعَتْها عليهم منظمة إغاثية محلية أول نزوحهم، تسنُدها بعض القضبان المعدنية، فيتشكل منها غرفة ضيقة تقصدها 50 عائلة – هي مجموع من يقطن المخيم – لقضاء الحاجة!
“بيت الخلاء” الوحيد في مخيم يضم 50 عائلة غربي حلب
في هذا المخيم العشوائي الذي أنشأه في بستان للزيتون بعض أهالي قرى وبلدات ريف حلب الغربي، المهجرين بسبب الحملة الروسية المجنونة أواخر العام المنصرم لاحتلال الشمال السوري، يلاقي القاطنون صعوبة بالغة في تأمين أساسيات العيش، لذلك تبدو فكرة اتخاذ “الاحتياطات الصحية” أمرًا بالغ الصعوبة!
رغم ذلك تجهَد نساء المخيم في توفير الحد الأدنى من الشروط الصحية لعوائِلهن بعد التحذيرات المتزايدة من فيروس كورونا، ومع غياب مواد التعقيم ضمن “سِلل الإغاثة” التي يتلقونها كل فترة واستحالة شرائها بسبب ارتفاع أسعارها وغياب المورد المادي لجل قاطني المخيم، تصبح المياه – كما أخبرتنا إحدى قاطنات المخيم – هي “الطَهُور” الوحيد المتوافر، حيث يقُمْن بتسخينه واستخدام ما توافر من منظفات بسيطة لغسل أطراف أبنائهن بشكل دوري، إضافة إلى غسل المواد الغذائية البسيطة المتوافرة، مع التزام الأهالي عمومًا بنظافة أيديهم.
نساء يغسلن أقدام أبنائهن في مخيم عشوائي غربي حلب
أما في مخيم شبيه على أطراف قرية الفوعة قريبًا من مدينة إدلب، فلا يوجد تغيير كبير في طريقة عيش قاطنيه، بعد انطلاق حملات التوعية بالفيروس، فما زالوا يقومون بأشغالهم اليومية بالطريقة نفسها التي اعتادوا – منذ تهجيرهم – القيام بها، لكن مع إجراءات إضافية هي كل ما يملك قاطنوه القيام به.
فغسيل الملابس الذي كان مناسبة اجتماعية للنساء من خيم متجاورة، بات مَهَمة تقوم بها كل واحدة منهن على حدة.. “طشط غسيل” وما توافر من منظفات وأيدٍ لم تتمكن السنون من إفقادها قوتها بعد! وكذلك طبخ الطعام الذي يتم بإشعال الحطب غالبًا، باتَت تقوم به النساء فرادى، بل إن إحداهن أقامَت ما يشبه موقدًا بدائيًا داخل خيمتها حدًا من الاختلاط بالآخرين الذي ما زالت تضطر له مع وجود الحمامَات المشتركة.
سيدة تغسل ملابس عائلتها أمام خيمتها في مخيم شمالي سوريا
سيدة تطبخ الطعام داخل خيمتها في مخيم شمالي سوريا
إضافة إلى هذه الإجراءات الذاتية الناجمة عن حملات التوعية التي تكثفها المنظمات المحلية في المخيمات، بدأَت النقاط الطبية القليلة المنتشرة في بعض المخيمات تُلزِم المسعفين باستخدام “الكمامات” والقفازات، إضافة إلى تبديل أدوات الفحص مع كل مريض جديد منعًا لانتقال الأمراض بينهم.
إلا أن هذه الإجراءات جميعها ليست كافية بحسب الطبيب محمد الشريف، الذي يخشى من كارثة ستضرب المخيمات في حال ظهور الفيروس في الشمال، بسبب اشتراك قاطني كل مخيم في المرافق العامة، التي ستوفر بلا شك وسائط لنقل الفيروس بسرعة كبيرة بينهم، مع غياب وجود قطاع صحي في المنطقة يقوَى على مواجهة أعداد مصابين كبيرة، لا سيما أن دولًا بأنظمة صحية متطورة وكبيرة تشهد حالات انهيار أمام الوباء.
الطبيب محمد الشريف في أثناء تقديمه الخدمات الطبية في مخيم الساروت قرب سرمدا
فبنية وطريقة تَشَكُل المخيمات تمثّل بيئة خصبة لانتشار الفيروس، ليس فقط بسبب اشتراك قاطنيها بالمرافق العامة، بل أيضًا بسبب التصاق الخيام في المخيمات الكبيرة ببعضها البعض، واستحالة منع قاطنيه من الاحتكاك ببعضهم.
انتشار الخيم بشكل متلاصق في مخيم شمالي إدلب قرب قرية قاح
ينتشر اليوم في المخيمات شمالي إدلب أكثر من 1.7 مليون مهجر، يعيشون ظروفًا استثنائية تجعل فكرة دخول وباء مثل “كورونا” إلى الشمال – لا قدر الله – مرعبة حقًا، تُنبِئ بكارثة إنسانية سيكون من الصعب بمكان مواجهتها.
والله المستعان.