أثار عدد غير قليل من الأعمال الدرامية المعروضة في الموسم الحاليّ من رمضان، حالةً واسعة من الاستقطاب المجتمعي، لا سيما في الفضاء الافتراضي، نظرًا للطابع الفكري والسياسي الذي اتسمت به هذه الأعمال، إن جاز التعبير.
ومن ضمن هذه الأعمال التي تسببت في موجة عاتية من ردات الفعل المتضاربة على مواقع التواصل الاجتماعي، كان مسلسل “الاختيار” الذي يتناول قصة حياة الرائد أحمد صابر المنسي، الذي توفي بعد هجوم مسلح على الكتيبة الصاعقة 103 عام 2017، والمعروفة إعلاميًا بعملية “مربع البرث” في شمال سيناء، لذلك، سنحاول، في هذا المقال، فك شفرة الرسائل التي أراد صناع العمل إرسالها ومعرفة المستقبلين وتأثير هذه الرسائل وكيفية التعاطي الصحي معها.
ما الذي نعرفه عن العمل؟
ما لا يعرفه كثير من متابعي العمل، أن الرئيس المصري الحاليّ عبد الفتاح السيسي هو الذي رسم المخطط النظري والهيكل الأساسي للعمل، متضمنًا عرض قصة حياة الرائد أحمد المنسي، في المقابل من قصة حياة زميله السابق في الجيش الذي تمرد لاحقًا، هشام عشماوي، لإبراز التضاد بين كلتا الشخصيتين، منتصرًا في الوقت نفسه لـ”المنسي” بطبيعة الحال.
ففي أكتوبر/تشرين الأول، من عام 2018، بمركز المنارة للمؤتمرات، خلال الندوة التثقيفية السنوية للقوات المسلحة، تساءل السيسي واضعًا نواة هذا العمل: “يا ترى الفرق بين هشام عشماوي إيه؟ وأحمد المنسي إيه؟ أنا بقولكم بس الحكاية، ما هو ده إنسان وده إنسان، وده ظابط وده ظابط، والاتنين كانوا مع بعض في وحدة واحدة، الفرق ما بينهم إيه؟ إن حد منهم أتلخبط وممكن يكون خان، وحد تاني استمر على العهد والفهم الحقيقي لمقتضيات الحفاظ على الدولة المصرية”.
وبعد عام من هذه الإشارة، وقبل نحو ستة أشهر من الآن، في مناسبةٍ رسمية شبيهة تضمنت تكريم أبطال فيلم “الممر” الذي لاقى دعمًا حكوميًا ضخمًا، عاود السيسي وخز الجهات المسؤولة نحو رغبته بتكرار إنتاج أعمال فنية تحمل مضامين سياسية وفكرية قائلًا: “إحنا محتاجين في ظل اللي إحنا بنشوفه، والتحديات اللي بنشوفها في المنطقة، ومحاولات سلب عقول وآمال شعوبنا، إنه يبقى فيه على الأقل كل ست شهور، فيلم زي ده”.
وقد تولت تلبيةَ مطلب السيسي وتوصيته شركةُ “سينرجي” (تامر مرسي) التي أنتجت العمل، وشركةُ “المتحدة لإعلام المصريين” التي اشترته، وكلتاهما شركتين مقربتين من جهاز المخابرات العامة المصرية، فيما أشرف على تدريب الممثلين ضابط الصاعقة السابق، الذي ساهم في تنفيذ عدد من الأعمال الدعائية بالتعاون مع “إدارة الشؤون المعنوية”، كان على رأسها نشيد “قالوا إيه علينا”، الرائد محمد وديع، ليصبح العمل عسكريًا رسميًا من أوله إلى آخره.
يحاول المسلسل تثبيت هذه الشريحة من المتابعين ورفع روحهم المعنوية بشكل واضح
رسائل العمل
تستهدف هذه النوعية من الأعمال الدرامية، التي شاعت مؤخرًا في الشرق الأوسط والمنطقة العربية، توصيل بعض الرسائل السياسية/الفكرية بشكل غير مباشر (اللاوعي) إلى شرائح مختلفة من الجمهور، ولكن ما يهمنا هو تفكيك هذه الرسائل وفهمها، قبل الحكم عليها، وقد بدا بوضوح أن رسائل “الاختيار” موجهة بالأساس إلى أربعة أنواع من المشاهدين.
أولًا: الجنود
يحاول المسلسل تثبيت هذه الشريحة من المتابعين ورفع روحهم المعنوية بشكل واضح، حتى إن صناع العمل دأبوا، خلال الحلقات الماضية، على اختلاق كثير من المشاهد غير الضرورية، بغرض التركيز على تمرير هذه الرسائل، التي تحث الجنود على الصمود أمام المسلحين، ودفع هواجس الخوف من “النسيان” في أرض سيناء باحتساب جهودهم عند الله، محاولين (الكُتاب) تشكيل بطانة دينية مقابلة للبطانة الدينية التي يُصدرها المسلحون خلال معاركهم مع الجيش.
في أحد المشاهد التالية للهجوم على أحد الأكمنة، يذهب الرائد أحمد المنسي إلى أحد المجندين المصابين في المستشفى ليلومه على خوفه قائلًا:”الخوف مش حاجة سهلة، الخوف كان هيجيب أجلك، الخوف بيخليك تفكر غلط”، وفي مشهد آخر يحاول طمأنة أحد الجنود المتخوفين من القناصة، الذي كان يخشى أن يواجه الموت بمفرده، فيما لا يشعر به أحد في الوادي:”ربنا حاسس بيك، وحاسس باللي بتعمله، وعارف إن أنت هنا عشان أهلك وبلدك”، وفي مشهد ثالث، يشدد المنسي على ضرورة عدم التراجع أمام المسلحين، لأن الحق مع الجيش وليس معهم.
على الأرجح، تحاول هذه الرسائل التصدي لتكتيكات الجماعات المسلحة، التي تستهدف التأثير على الجنود بإستراتيجيتَي الترغيب والترهيب، حيث قتل أحد التنظيمات، خلال إحدى العمليات النوعية الكبرى (عملية الواحات) الضباط حصرًا، وعفا عن المجندين الذين تركوا أسلحتهم أو استهدفهم بضربات في مناطق غير مميتة بالجسد.
فيما يشجع تنظيم الدولة المجندين على الفرار من الخدمة العسكرية نجاةً بحياتهم أو الانضمام إلى القتال في صفوف التنظيم، حتى لا يكون مصيرهم الموت مع “الطغاة” على حد قول التنظيم، وقد أظهرت كثير من الإصدارات المصورة للتنظيم، يعود بعضها إلى العام الماضي، استمرار الجنود في الفرار أمام هجمات المسلحين تاركين خلفهم أسلحهم ومعداتهم، وبحسب ما تؤكده منى الزملوط، أشهر الناشطات السينائيات في مجال توثيق الانتهاكات الرسمية، فإن الجنود ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: قسم لا يعرض للموت، وقسم لا يجوز التضحية به، وقسم يجوز التضحية به، وهم وقود الحرب، رغم افتقادهم أبسط مقومات الحرب على الإرهاب: التدريب، وعلى ما يبدو، فإن “الاختيار” يوجه حديثه إلى القسمين الأخيريْن بشكل واضح.
ثانيًا: الأنصار
فعلى الرغم من أن هذه الفئة التي تربطها خصائص عمرية واجتماعية متقاربة، تستطيع “إنتاج” قصصها الخاصة عن بطولات الجيش ووطنية قيادات الدولة، وخيانة “الآخرين” من “الإرهابيين” وغيرهم، بشكل يشبه طريقة تداول الآداب الشعبية، ومنها ما يخص منسي نفسه، الذي قالوا عنه إنه صُنف واحد من أقوى رجال الصاعقة في العالم، وقتل وحده عشرات المسلحين، وقبض على بعض رؤوسهم المختبئين خارج الحدود (غزة).
بيد أنها تحتاج دعمًا معنويًا موجهًا بشكل مباشر من الدولة بشكل أو بآخر، حيث تستفيد هذه الفئة من هذه الأعمال، ببعض العبارات والمشاهد التي تساعدهم في “السجالات” مع خصومهم من المعارضين على مواقع التواصل الاجتماعي، على غرار عبارة :”البسوا المموه بيخافوا منه” التي قيلت في فيلم “الممر”، وظلت تلوكها الألسنة فترة طويلة بعد عرض العمل، كما توفر هذه النوعية من الأعمال لهذه الفئة المستهدفة الزخمَ اللازم لخلق حالة من الأمان النفسي والدعايا المصنوعة (البروباغاندا).
تقوم هذه السردية على تقديم جانب معين من الأحداث، وحذف الجانب الآخر الذي لا يخدم رواية النظام الحاليّ
ويبدو أن هذا الهدف المنشود من العمل مسبقًا قد تحقق خلال الأيام الماضية، حيث تلقف أنصار النظام المسلسل بحفاوة شديدة، وتداولوا مقتطفاته ولقطاته ورسائله بكثرة، وأكدوا أنهم يحشدون عائلاتهم وأطفالهم أمامه لتكوين مناعة وطنية من الحلقات، مشيدين بعبقرية الفكرة وبراعة التنفيذ ودقة المعلومات، فيما أكدوا أن “كل الشعب المصري تأثر بالعمل وشخصية المنسي، إلا الإرهابيين”.
ثالثًا: الجماهير غير المؤدلجة
تمثل هذه الكتلة السواد الأعظم من المصريين عدديًا، وتمتلك صفات محددة تميل في معظمها إلى الاعتدال، اجتماعيًا وفكريًا ودينيًا (حزب الكنبة كما أطلق عليها بعد ثورة يناير)، إلا أنها تنفعل مع المُستجدات الحادة، حيث تكون هذه الانفعالات نتاجًا لتراكم حمولات شعورية مكبوتة لوقت طويل، وهي نفس الكتلة التي استجابت إلى دعوات الخروج على مبارك في وقت متأخر من الثورة، وهي التي انتخبت جماعة الإخوان المسلمين في سلسلة طويلة من الاستحقاقات الديمقراطية، وهي التي التف كثير منها حول “البطل الشعبي” المنتظر من القوات المسلحة في الثالث من يوليو 2013، وهي التي خرجت على نفس هذا “البطل” في سلسلة طويلة من الاحتجاجات التي تجلت في سبتمبر/أيلول 2019، وهي نفس الفئة التي اعتاد السيسي تحذيرها من الانصياع إلى المؤامرات (الثورة).
ويخاطب “الاختيار” هذه الكتلة منذ اللحظات الأولى من عرض المسلسل عبر عدة تقنيات من بينها “الحذف والتعديل”، محاولًا إعادة رواية تاريخ السنوات السبعة السابقة روايةً تتلاءم مع سردية السُلطة الحاليّة، فالدولة كانت تعاني من إرهاب مسلح متجذر منذ فترة طويلة إلى أن أطل برأسه في حادثة “رفح الأولى”، كما عانت خلال عام الإخوان من مشكلات اجتماعية مست حياة هذه الشريحة مباشرةً مثلما حدث في أزمة الكهرباء، ومن ثم كان ضروريًا أن تتدخل القوات المسلحة لتستجيب إلى نداءات هذه الكتلة، التي تعرضت بدورها إلى “إرهاب” إخواني في الوادي موازي للإرهاب الذي تعرضت إليه تمثلات الدولة الأمنية في سيناء، مثلما جرى في أحداث “الاتحادية”.
تقوم هذه السردية على تقديم جانب معين من الأحداث، وحذف الجانب الآخر الذي لا يخدم رواية النظام الحاليّ، فحادثة رفح، أُدينَت من جانب السلطة المنتخبة التي كان يمثلها الرئيس الأسبق محمد مرسي، بل زار مرسي سيناء بعدها مباشرة لتقديم الدعم المعنوي والسياسي للقوات المسلحة، وبحسب ديفيد كيركباتريك مراسل نيويورك تايمز في القاهرة، فإن مرسي كان يطلب من السيسي، وزير الدفاع الذي تولى قيادة الجيش بعد هذه الحادثة، أن يحاول وضع حلول عسكرية نهائية لهذه الجماعات التي تكفر الإخوان أنفسهم، شريطة ألا تتعارض مع أولوية احترام الخصوصية الثقافية والاجتماعية لسيناء، وألا تمس بالتطورات الإيجابية المتعلقة برفع الحصار عن قطاع غزة، التي صاحبت ثورة يناير وصعود الإخوان المسلمين، ولكن السيسي لم يكن متحمسًا لهذه الطريقة في العمل.
كما كان مرسي نفسه يعترف بتراجع دور الدولة في تقديم الخدمات اليومية الأساسية، ولكنه كان يفسر هذا التراجع تفسيرًا مغايرًا للتفسير الذي قدمه “الاختيار”، حيث كان يعزو هذا الإخفاق إلى تقاعس بعض أجهزة “الدولة العميقة” عن مساعدته، وتردي البنية التحتية الأساسية التي ورثها عن مبارك، وهو ما ثبت صحته لاحقًا، بالإشارة إلى الدور الإقليمي المؤكد لبعض دول الخليج في إفشال الثورة، الإمارات ثم السعودية بالأخص، مع استمرار بعض المشكلات في فترة ما بعد مرسي، مثل مشكلة انقطاع الكهرباء التي ظلت قائمة حتى نهاية 2014.
رابعًا: الضباط
من بين الثلاث شرائح السابقة التي يخاطبها العمل، تعتبر هذه الشريحة الأهم على الإطلاق، نظرًا لأنها الشريحة الأكثر قدرة على “الفعل”، منذ يوليو 1952(حركة الضباط الأحرار ضد الملكية)، حتى اصطلح على وصف الحالة السياسية المصرية – في بعض الأوساط الأكاديمية – وصفًا مركبًا يجمع بين الجماهير والعسكرية في نفس الوقت، هو “جمهورية الضباط”.
يعلم السيسي، وهو ضابط عسكري متشبع بالقيم البيروقراطية المصرية، أن نموذج الضابط المتمرد أحد أكثر النماذج خطورةً على حكمه
بشكل غير مباشر، يكمل المسلسل مهمة اغتيال نموذج هشام عشماوي، ليس بصفته إسلاميًا أو قاتلًا فحسب، وإنما بصفته “ضابطًا متمردًا” كذلك، وإذا رجعنا بالتاريخ قليلًا، سنجد أن هذا الهدف كان شاخصًا صوب أعين القيادة السياسية المصرية منذ أن قررت تصوير عملية استعادة عشماوي بالصوت والصورة، على نحو يشبه العمليات الحربية الخاصة، رغم أن هذا الحدث (استعادة مطلوب من حكومة حليفة) حدث عادي في الأعراف السياسية، فضلًا عن أن السلطات لم تشارك في عملية القبض عليه كي تحتفي بذلك.. لكن، ما الغرض من هذا الاغتيال المعنوي الذي بدأ بنقل عملية استلامه على الهواء وصولًا إلى إفراد مسلسل كامل لذمه؟
يعلم السيسي، وهو ضابط عسكري متشبع بالقيم البيروقراطية المصرية، أن نموذج “الضابط المتمرد” هو أحد أكثر النماذج خطورةً على حكمه، بغض النظر عن كون هذا التمرد وطنيًا أم إسلاميًا، وفي حديثه مع بعض ممثلي العملية السياسية الأمريكية، في الغرف المغلقة، قال السيسي، حسبما ترجمت “خالد سعيد نسخة كل المصريين” إن خطته للسيطرة على الحكم تتضمن الإطاحة ببعض الضباط المتمردين (من الإسلاميين)، كما قال في حديث صحافي مع ياسر رزق (سرب لاحقًا) إنه متأثر بتجربة الرئيس السادات الذي يعلم أن ضابطًا مصريًا رفيعًا من قادة حرب أكتوبر، سعد الدين الشاذلي، وصف من اغتاله بأنه “أحد أجرأ الضباط في الجيش”.
ومن خلال شخصية المنسي، يعيد المسلسل تعريف شرط الوطنية الجديد في عهد السيسي، فالضابط الوطني ليس ذلك الضابط الذي يطيع أوامر قياداته ويدافع عن تراب بلاده أمام الأعداء فقط، وإنما هو الضابط الذين يدين بالولاء إلى “الدولة”، التي لا تتقاطع وحسب، بل تتجسد في شخص الرئيس ومؤسسة الجيش، كما يعتقد الضابط الوطني أن المعركة مع الاحتلال الصهيوني انتهت بتوقيع معاهدة “كامب ديفيد” عام 1979.
لكن الحرب نفسها مستمرة، ضد عدو آخر، يسكن يين المصريين، وهي الجماعات الإسلامية، سياسية كانت أو حركية، التي انبثقت جميعها من رحم الإخوان الذين يعملون كوكلاء لبعض الدول الخارجية، بل إن على الفلسطينيين أن يقبلوا بحل نهائي للقضية الفلسطينية، بغض النظر عن التنازلات المقدمة، حتى يقطعوا الفرصة على الجماعات التي “تتاجر بالقضية”، وإلا فليحاربوا بأنفسهم، يقول “المنسي”، ممثلًا الضابط المثالي ومخيال المجتمع في نظر السيسي: “الدين بتاعنا، مفيهوش لا طوائف ولا جماعات ولا تنظيمات، اللي بيعمل كده عاوز يفرق ما يجمعش”.
ولعل ما حدث بعد العملية المسلحة التي تزامنت مع عرض المسلسل، وأودت بعشرة من عناصر الجيش في بئر العبد بسيناء، يوضح – عمليًا – عبارة “الدين بتاعنا” التي تدخل في شرط الوطنية الجديد، فقد اعتبر شيوخ الدولة بعض المسيحيين المقتولين في العملية “شهداء، شهداء الوطن”، فيما حذفوا اسم أحد قتلى المجندين، أحمد الكاملي، من لوحات الشرف، بعد ما رصدوه من كتابات معارضة للسيسي ومؤيدة للرئيس الأسبق محمد مرسي على صفحته في موقع “فيسبوك”.
عمل دعائي
لماذا نقول إن مسلسل “الاختيار” عمل دعائي يستهدف التأثير المعنوي على بعض الشرائح المعينة دون أن يحمل أي مضامين نقدية أو حجاجية ضد خصوم النظام المصري الحاليّ، خاصة من الإسلاميين بأطيافهم؟
نقول ذلك لأن النظام المصري الذي يمثله الرئيس عبد الفتاح السيسي لا يمتلك أي سردية متماسكة منطقيًا عن الأحداث التي مرت بها البلاد منذ الخامس والعشرين من يناير إلى الآن، بل تطرح مقولاته الوصفية والتفسيرية كثيرًا من الأسئلة بدلًا من تقديم الإجابات، ومن ذلك واقعة اقتحام عشرات المسلحين المنتمين إلى حماس وحزب الله الحدود المصرية الشرقية ثم قيامهم بفتح السجون، التي تفتح الباب على مصرعيه أمام السؤال عن كيفية تجاوز هذه العناصر مناطق نفوذ كل من الجيشين الثاني والثالث الميداني، وصولًا إلى قلب القاهرة وفتح السجون، وما ينبغي أن يترتب على ذلك من محاسبة للجهات العسكرية والأمنية التي كانت تتولى قيادة الجيش والشرطة في ذلك الوقت.
كما أن سرديات السيسي نفسه عن الساعات الأخيرة قبل انقلاب الثالث من يوليو ثم مفاوضات ما قبل فض اعتصام رابعة العدوية، التي كان مضمونها أن الدولة كانت تحاول التهدئة وتعرض الحلول في حين يتعنت الإخوان المسلمون ويصممون على المواجهة، قد قوبلت بالتشكيك من كثير من شهود هذه التفاصيل، كما حدث عند خروج هشام قنديل والدكتور سليم العوا وغيرهم، لتكذيب السيسي ورواياته، في النصف الثاني من 2013.
لذلك، فإن المسلسل لا يقدم تفريغًا لمضامين خطابات السيسي التي تتحدث دائمًا عن العلاقة العضوية بين كل الجماعات الإسلامية وحسب، وإنما يمثل أيضًا حالةً مشابهة لطريقة الحوار التي اعتادها السيسي عند مخاطبة الرأي العام، وهي الحوار من طرف واحد، مع مقاطعة ورفض كل من يقاطعه، سواء كان ذلك المقاطِع عضوًا منتخبًا في البرلمان يريد التفاوض على سياسة الحكومة الاقتصادية أم ممثلًا عن أهالي سيناء يريد التعبير عن غضب قبيلته من سياسة “التهجير” أم امرأة تريد سؤال الرئيس عن صحة ادعاءات المقاول.
يعيش المعسكر الآخر (أنصار النظام) حالةً كاذبة من الانتشاء بسبب تفسير انسحاب المقاول على أنه إقرار شعبي بنجاح النظام
وقد استعاض كتاب العمل عن المناقشة النقدية للأفكار بنموذج ساذج للحوار، يقوم على طرح أحد الأشخاص المكروهة الضعيفة، قشرةً سطحية من أفكار التيارات الإسلامية الجهادية، ليرد عليه أحد الأبطال المقبولين لدى الجمهور ردًا قاطعًا ينتهي به المشهد، للإيحاء بانتصار الطرف الذي يمثل النظام معنويًا على خصمه “التكفيري”، ومن ذلك مطالبة أحد من يمثلون الإسلاميين صديقه بالتوقف عن متابعة سحرة فرعون (الإعلاميين)، فيرد من يمثل سردية النظام: “سحرة فرعون دول اللي آمنوا بسيدنا موسى، أنت إيه يا معتصم، ما بتفتحش المصحف؟”.
تأثير العمل
نجح المسلسل في الوصول إلى معظم شرائح الشعب المصري، بفضل تقنية “المفارقة” بين المنسي وعشماوي التي تقوم عليها فكرة العمل، وهي تقنية جذابة بطبيعتها، بالإضافة إلى الميزانية الضخمة والدعم الدعائي الرسمي، واختيار شهر “رمضان” الذي بات موسمًا ترفيهيًا مثاليًا لإذاعة العمل، وبحسب إحصاءات تطبيق “تيليجرام” الذي هرع إليه المشاهدون لتداول الحلقات المسربة بدلًا من الدفع في تطبيق “واتش إت”، فقد وصل عدد متابعي المسلسل أكثر من 600 ألف مشترك، ليحل في المركز الثاني بعد مسلسل النهاية.
لكن، كما ذكرنا، فإن السيسي يعلم جيدًا أن التأثير المنشود على اللاوعي الجمعي للشعب المصري، فضلًا عن التأثير على شريحتي الجنود والضباط، يتطلب تكثيفًا لهذه النوعية من الأعمال، بل وتنويعًا في المواد المرئية التي تقدم سردية الدولة الجديدة، بين الدراما والسينما، ولكن السؤال الآن: ماذا عن الانبهار المزعوم بالعمل على مواقع التواصل الاجتماعي، ما دام الأمر لم يتجاوز مرحلة “الوصول” إلى مرحلة “التأثير” المطلوبة؟
تخضع مسألة التثبت من حقيقة توجه الرأي العام والمزاج الشعبي إلى عدة عوامل معقدة أصعب كثيرًا من النموذج التبسيطي الذي يراد الترويج له حاليًّا: حدث ما مؤثر، ردات فعل متعاطفة مثلًا، إذًا الجمهور يميل إلى الجهة المتعاطف معها.
بينما، في الحقيقة، ما يجري في مصر أن هناك حالة إحباط عامة، تشتد في الفئات المعارضة، منذ تهاوي الآمال المعلقة على حركة سبتمبر/أيلول الماضية، وفشل المقاول محمد علي، في تحقيق الهدف الصعب الذي وضعه لنفسه، وهو الإطاحة بالسيسي، وما تزامن مع ذلك من حملات اعتقالات جماعية، وفرض قواعد اشتباك جديدة أكثر قسوة من أجهزة الدولة الأمنية ضد المواطنين.
في المقابل، يعيش المعسكر الآخر (أنصار النظام) حالةً كاذبة من الانتشاء بسبب تفسير انسحاب المقاول على أنه إقرار شعبي بنجاح النظام، ثم تنامى هذا الانتشاء على وقع التدخل التركي في ليبيا ديسمبر/كانون الماضي، بعد أن رد عليه الجيش المصري باستعراضات عسكرية واسعة لاقت اهتمامًا إعلاميًا كبيرًا، وصولًا إلى حالة التماسك الرسمي الظاهري أمام جائحة “كورونا” (حتى الآن)، التي يعتبرها أنصار النظام دليلًا على الإدارة الناجحة للأزمة، خاصة في ظل ما تظهره الدولة من كرم شديد في مساعدة “الدول الكبرى”، وهو ما يعني أن المسلسل جاء حلقةً في سلسلة كبيرةً من التمدد “الرأسي” لأنصار النظام، مقابل خفوت واضح في الحركة الإعلامية للمعارضين في ساحة الصراع الأهم: مواقع التواصل الاجتماعي.
يذكرنا قنصوة بحقيقة أن النظام المصري لا يُلمع “المنسي” من أجل مآثره أو اختياراته، وإنما من أجل تقاطع هذه الصفات مع مصالح النظام السياسية
الاختيار الحقيقي
تحمل شخصية المنسي “الحقيقية” كثيرًا من الصفات الإيجابية بحسب ما أكده كثيرٌ من رفاقه وجنوده، كما يمكن أيضًا رصد بعض الملاحظات اللافتة أو المثيرة على الأقل، في شخصية “عشماوي” التي تمردت على الحظوة والسطوة العسكرية، وقررت أن تواجه دولةً بأكملها، رغم علمها، بخبرتها الميدانية، أن مصير هذه المواجهة سينتهي حتمًا بالموت، وأن المزاج الشعبي، مدفوعًا بكثير من الاعتبارات والتراكمات، بات يتوجس، إن لم يكن يرفض، تجارب التمرد العسكري المرتبطة بالإسلام الأصولي.
ولكن النظام المصري بتبنيه مسلسل “الاختيار”، لا يعنيه أبدًا تسليط الضوء على تلك الإيجابيات المرتبطة بشخصية “المنسي”، إلا من أجل تسويق “السردية” الكامنة خلف هذه الشخصية: الضابط التقني الذي يخضع لشرط الوطنية الجديد في دولة الثالث من يوليو، بل ويتفنن (النظام) في ابتزاز الجماهير بإبراز ونحت مزيد من المشاهد “العاطفية” عن شخصيته، في المقابل من سردية “عشماوي” ورفاقه، التي تتأرجح، بحسب المسلسل، على طرفي نقيض: الجُبن والخيانة تارة، وغسيل الدماغ واللامسؤولية وعداء المجتمع تارة أخرى؛ بما يجعل المشاهد أسيرًا للاختيارات والابتزازات الثنائية المتطرفة: المنسي أم عشماوي؟ السلطوية الوطنية أم التطرف الإسلامي؟ الاستقرار أم الفوضى؟
وبدلًا من الانصياع لسلطة الدولة في تخييرنا خيارات محدودة، تعلم مسبقًا أننا سنختار خلالها ما يضمن لنا الحدود الدنيا من الحياة والأمن مقابل التفريط في كل القيم الحضارية الأساسية، مثل الحرية والمجتمع المدني والفصل بين السلطات وتداول الحكم سلميًا، يمكننا، في هذا الظرف على الأقل، الخروج من هذا المأزق عبر استعادة ذكرى أحد الأشخاص الذين اختاروا فعلًا وليس ادعاءً، مثل الضابط أحمد قنصوة.
يذكرنا قنصوة بحقيقة أن النظام المصري لا يُلمع “المنسي” من أجل مآثره أو اختياراته، وإنما من أجل تقاطع هذه الصفات مع مصالح النظام السياسية، كما يذكرنا أن الدولة لا تنتقم من عشماوي لأنه معادٍ للمجتمع أو قاتل كما تدعي، وإنما من أجل أن تعاقبه على تمرده.
فـ”قنصوة” كان ضابطا كفئًا، حسن السيرة، حاصلًا على الدكتوراه في الهندسة المعمارية من جامعة “كاليفورنيا”، لم يقتل أحدًا ولم يسافر إلى سوريا، وكل ما فعله أنه “اختار” أن يترشح للرئاسة، بالبذلة العسكرية التي كان يشرف بها كما فعل السيسي تمامًا، على أرضية أكثر رشادًا وأخلاقية من قيم نظام الثالث من يوليو، فما كان من ذلك النظام إلا أن استنفر جهوده لإقصائه وتدمير مستقبله، فكان محبوسًا بعد أربعة أيام من إعلانه الترشح، ثم حكم عليه بالسجن ست سنوات مع الشغل والنفاذ، خلال أقل من شهر على خروجه للرأي العام، انتقامًا من “اختياره” الذي تعارض مع مصالح النظام.