تتضارب المصادر التاريخية عن بداية رحلات أجدادنا اللبنانيين إلى أمريكا اللاتينية، فمنها ما يشير إلى أن أول لبناني هاجر إلى تلك الأراضي، قصد فنزويلا، في ستينيات القرن التاسع عشر، وأخرى تذكر أنها بدأت عام 1835 حينما انتقل أفراد من عائلة بيروتية إلى مدينة ريو دي جانيرو (العاصمة السابقة للبرازيل)، وبصرف النظر عن تفاصيل الرحلة الأولى، فجميع المؤرخين يتفقون على أن المجاعة الكبرى التي ضربت جبل لبنان عام 1915 حفزت أعدادًا كبيرةً من السكان للهجرة، وبعدها فر عشرات الآلاف من الفلاحين الذين فقدوا مصدر رزقهم، وتبعهم حتى أوائل الثلاثينيات عمال النسيج من حمص والتجار من بيت لحم والمدرسون من بيروت ودمشق، على متن قوارب بخارية متجهين إلى أمريكا، شمالًا وجنوبًا.
ويُعتقد أن العرب وصلوا إلى أمريكا اللاتينية في البداية بالخطأ، إذ كانت أعينهم تصبو نحو أمريكا الشمالية ولكنهم فوجئوا عندما وصلوا إلى مدن الموانئ الإسبانية والبرتغالية أن تذاكرهم إلى العالم الجديد لم تكن تشير شمالًا، ومع ذلك أكملوا الرحلة، وبدا لهم أن المناخ المتشابه والثقافة اللاتينية تسمح لهم بالاندماج بوتيرة أسرع من أي مكان آخر.
وحاليًّا، يوجد لديها أكبر عدد من السكان العرب خارج منطقة الشرق الأوسط، فهي موطن من 17 إلى 30 مليون شخص من أصل عربي، وهذا أكثر من أي منطقة أخرى في العالم، ففي البرازيل وحدها، يوجد 7 ملايين برازيلي من أصل لبناني، أي أكثر من لبنان نفسه، وهي أكثر البلدان التي يظهر فيها الاندماج اللبناني بشكل واضح على أسماء الشخصيات البارزة في الوسط العام، وأكثرهم شهرة كارلوس سليم، مكسيكي من أصل لبناني، احتفظ بلقب أغنى رجل في العالم لمدة أربع سنوات متتالية، وميشال تامر الذي تولى الرئاسة الرسمية عام 2018، وغيرهم عدد لا يحصى من الفنانين والرؤساء والبرلمانيين ورؤساء البلديات.
الحروب والطموح.. عن الأسباب التي شجعت الهجرة اللبنانية
بدأت الهجرة من لبنان إلى العالم الجديد تتفاقم خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر عندما كان جبل لبنان مسرحًا للعديد من النزاعات الإقليمية والدولية التي أدت إلى حروب أهلية بين المسيحيين الموارنة والدروز بين الأعوام 1840 و1860، ولما انتهت هذه الحرب عام 1861 أقرت الدولة العثمانية في عهد التنظيمات الإدارية التي بدأها السلطان عبد المجيد الأول نظام “المتصرفية” مع خمس دول أوروبية الذي يحكم بإدارة جبل لبنان عبر متصرف مسيحي عثماني ومجلس إدارة يشترك فيه الموارنة والدروز مع ممثلين من السنة والشيعة وبقية الطوائف، حتى عام 1918، حيث جعل هذا النظام جبل لبنان منفصلًا من الناحية الإدارية عن باقي بلاد الشام.
لسنوات طويلة، استمرت الحرب الطائفية في إفراغ القرى والمنازل من اللبنانيين، ومع ذلك فاللوم لا يقع على الحرب وحدها، فقد أدى السلام أيضًا إلى تعزيز الهجرة في تلك الفترة، حيث أسس المبشرون مستوصفات طبية ومدارس في جميع البلدات والمدن ساعدت على الحد من الوفيات ورفع مستوى التعليم، ما ساهم في ازدهار ديمغرافي في منطقة جبل لبنان، الأمر الذي نتج عنه نزوح داخلي إلى بيروت بشكل رئيسي، حيث تضاعف عدد سكان العاصمة أربع مرات بين 1839 و1850، وبين 1865 و1920.
ثم تبعه موجة هجرة إلى مصر ودول أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية والجنوبية، بحثًا عن معارف ونجاحات أكبر من تلك التي يمكن أن يصادفونها في وطنهم الأم.
كما جلب عهد المتصرفية في الوقت ذاته تحديات جديدة للمنطقة، فقد سمح النظام السياسي الجديد بالتجارة الحرة، ما أدى إلى تدفق السلع الأوروبية إلى السوق اللبنانية، ونتيجة لذلك خرج اقتصاد جبل لبنان بسرعة من نظام الحكم الذاتي وانخرط في الاقتصاد العالمي، وسرعان ما أصبح الوجهة الرئيسية لمنتجات الحرير التي كانت تمثل العمود الفقري للاقتصاد اللبناني مع وجود نحو 200 مصنع لخيوط الحرير، يعمل بها 14 ألف شخص، أي ما يعادل 41% من إجمالي عدد السكان، إضافة إلى بلوغ صادراتها نحو 82%.
كتب مراقب معاصر من جبل لبنان، سالم حسن حاشي، عام 1908 أن أسباب الهجرة كانت “البحث عن الثروات في أقاصي العالم المأهول”
ولكن بعد 18 عامًا من ازدهار صناعة الحرير، واجهت البلاد تحديًا آخر، وهو “أزمة الحرير” التي غمرت بها منتجات الحرير الصينية رخيصة الثمن ومنخفضة الجودة الأسواق الأوروبية بدلًا من السلع اللبنانية، ما تسبب بإفلاس الكثير من الفلاحين وتراكم الديون عليهم، حيث تظهر السجلات التاريخية أن انخفاض أسعار الحرير اللبناني يرتبط بقوة بعدد المهاجرين الذين غادروا جبل لبنان آنذاك.
تزامنت هذه الأزمة الاقتصادية مع تطور الملاحة البخارية، حيث كانت تعمل ما لا يقل عن عشرة خطوط للملاحة البخارية بانتظام من مرفأ بيروت، وهكذا باتت بيروت مركزًا مهمًا في حركة الاستيراد والتصدير.
وصارت كذلك حركة المهاجرين أكثر سهولة من أي وقت مضى، فبإمكانهم السفر ذهابًا وإيابًا دون تعقيدات، حاملين قصص نجاحهم في دول العالم الخارجي لجذب كل الذين يبحثون عن الثروة والازدهار، فقد كتب مراقب معاصر من جبل لبنان، سالم حسن حاشي، عام 1908 أن أسباب الهجرة كانت “البحث عن الثروات في أقاصي العالم المأهول”.
أو كما يتذكر مايكل هادي، أمريكي لبناني خلال مقابلة في الستينيات: “في عام 1892، ذهبت عائلة إلى أمريكا وكتبوا في إحدى رسائلهم بأنهم جنوا 1000 دولار (خلال 3 سنوات)، وعندما رأى الناس في قرية عين العرب أن رجلًا واحدًا يكسب هذا المبلغ، هرع الكثيرون للمجيء إلى أمريكا، وكنا 72 شخصًا”، وبعبارة أخرى، ترك المهاجرون فرصًا محدودة في وطنهم لإمكانات أفضل في مكان آخر، من أجل كسب المال ثم العودة إلى ديارهم.
ومع ذلك، لم تكن الرغبة في حياة أفضل وأكثر استقرارًا الدافع الرئيسي للهجرة، إذ تكدست البواخر المتجهة إلى الأمريكتين بعدد كبير من الشباب هربًا من قانون التجنيد الإجباري الذي فرضته الإمبراطورية العثمانية عام 1909، وكانت غالبيتهم من مسيحيي بيروت وصيدا وطرابلس، وبحسب التقديرات المتوافرة، فإن نحو 45% من سكان جبل لبنان هاجروا بين عامي 1860 و1914، وأبلغت بعض القرى عن معدلات هجرة تزيد عن 50%.
ولكن بحسب بعض المصادر التاريخية، فإن غير المسلمين كانوا معفيين من الخدمة العسكرية في الجيش العثماني حتى عام 1909، بهدف جمع الإيرادات منهم، فقد فضلت الدولة العثمانية أن يدفع المسيحيون ضريبة إعفاء، سُميت بـ”iane-i askerî” أي المساعدة أو المعونة العسكرية، ثم “bedel-i askerî” أي الدفع بدلاً من خدمتهم، ورغم وجود هذا المرسوم الإمبراطوري والمعروف باسم “Hatt-ü Hümayun” أجبر غير المسلمين على الخدمة فقط خلال الحرب العالمية الأولى، وليس قبل ذلك.
يضاف إلى ذلك كله، دور المدارس التبشيرية التي أدخلت الثقافة الغربية على المجتمع اللبناني وشجعت الشباب والعائلات على التوجه الغربي بدراسة اللغات الأجنبية والتحدث بها والسفر إلى مواطنها الأصلية، بعد أن رسمت لهم صورة وردية ومزدهرة عن الحياة في الأمريكيتين، إلى جانب، ازدياد الإغراءات التسويقية (عقود العمل المسبقة والتذاكر المدفوعة مسبقًا) من شركات الشحن من أواخر سبعينيات القرن التاسع عشر، الأمر الذي سهل عملية السفر وجذب المهاجرين، وأخيرًا، الحرب العالمية الأولى والمجاعة الرهيبة المصاحبة لها التي قتلت ما يقرب من ثلث سكان منطقة جبل لبنان.
علاوة على كل المحفزات الجدية السابقة، لعبت الأسباب الفردية والشخصية دورًا في نشاط الهجرة اللبنانية، وكان إحداها الفرار من العلاقات الزوجية الفاشلة (كما فعلت والدة جبران خليل جبران)، ولم شمل الأسرة، والبحث عن المغامرة، ومتابعة التعلم والمعرفة.
دخول سوق العمل من أوسع أبوابه
عام 1895، كان اللبنانيون جزءًا من المهاجرين العرب الذين شكلوا 90% من الباعة المتجولين المدرجين في تقويم ساو باولو، ثم هيمنوا خلال سنوات على القطاع الخاص، بدءًا من صناعة القطن ثم انتقلوا بسرعة إلى مهن أكبر وأفضل.
في عام 1900، استقبل جبل لبنان حوالي 200.000 ليرة بريطانية سنويًا من المهاجرين في الخارج. بعد ذلك بعشر سنوات، في عام 1910 ارتفع هذا الرقم إلى 800000 في السنة، مما يعكس أعدادًا متزايدة من المهاجرين العرب ونجاحهم التجاري .وبحلول عام 1917، شكلت التحويلات أكبر مصدر اقتصادي وحيد لجبل لبنان، حوالي 220 مليون قرش عثماني مقارنة مع تجارة الحرير 60 مليون، والزراعة 30 مليون، و10 ملايين من قطاع الصناعة. يتضح من معدلات التحويل أن المجتمعات العربية في الخارج كانت تمتلك قوة اقتصادية كبيرة ومتنامية في البلدان المضيفة.
ورغم أن الإمبراطورية العثمانية صممت جواز سفر ، المسمى “mürûr tezkeresi”، لاستخدامه فقط للسفر داخل الإمبراطورية، لكن العرب الذين وصلوا إلى البرازيل والأرجنتين والولايات المتحدة اكتشفوا أن وكلاء الهجرة قبلوهم للسفر الدولي أيضًا. ومع ظهور حركة “تركيا الفتاة” (الأتراك الشباب) عام 1908، أعرب الحكومة الجديدة للإمبراطورية العثمانية عن اهتمامها في احتضان العرب المهاجرين سياسيًا، وألغيت القانون على أساس أنه كان ضد الحرية الشخصية.
اليوم، هم معروفون بتأثيرهم الكبير في قطاعات الاتصالات والمنسوجات ووسائل الإعلام والبناء وغيرها الكثير، حيث يتولون مهنًا مثل الأطباء والمحامين والمهندسين ورجال الدين، ونتيجة لذلك، أكسبتهم نجاحاتهم قدرًا هائلًا من الدعم بين مجتمعاتهم في أمريكا اللاتينية، مما مكنهم من بدء منظمات اجتماعية والمشاركة في السياسة والتأثير الثقافي على الدول التي يقيمون فيها.
هذه المنظمات السياسية والنوادي الاجتماعية والمؤسسات الدينية والمدارس أفسحت المجال لأجيال من رد الجميل لمجتمعاتها الكبرى، من خلال بناء المستشفيات وملاعب كرة القدم والتبرع لقضايا إقليمية، ما ساعد في اكتساب المجتمعات العربية اعترافًا بأنها ليست واحدة من أكثر المجموعات ثراءً أو نشطة سياسيًا فحسب، بل أيضًا واحدة من الأكثر عطاءً.
محاولات الاندماج
إذا نظرنا الآن إلى الجالية اللبنانية في المجتمعات اللاتينية، فسنسمع مئات القصص التي تشير إلى قوة انخراطهم واندماجهم، فمنذ البداية سعوا إلى القضاء على الاختلافات التي تجعلهم مختلفين عن سكان المنطقة، خوفًا من تبعات المشاعر القومية التي بدأت بالظهور خلال الثلاثينيات والأربعينيات، ولذلك توقف المهاجرون العرب بشكل عام عن تمرير لغتهم العربية إلى أطفالهم، ومنهم من اعتنقوا المسيحية الأرثوذكسية الشرقية التي اعتبرها الكاثوليك في أمريكا اللاتينية قريبةً جدًا من الإسلام، بينما اعتنق بعض المسلمين المسيحية.
يُلاحظ انتشار العديد من أكلاتهم في قوائم الطعام اللاتينية مثل الكبة والتبولة والحمص والصفيحة وغيرها من الأطباق التي تبنتها المجتمعات الجنوبية.
يضاف إلى ذلك جانب مثير للاهتمام، فبحسب ما يذكر الكاتب اللبناني ميخائيل نعيمة في كتابه “سبعون”، فإن المهاجرين بدلوا الأسماء أيضًا، وصحيح أنه كان يتحدث في كتابه عن المهاجرين في أمريكا الشمالية، إلا أن هذه العادة انتشرت بين غالبية المهاجرين بصرف النظر عن مكان إقامتهم، وقال: “في عقيدة مهاجرينا، فتبدل الأماكن والأزمنة كان يقضي بتبدل الأسماء كذلك. وهكذا أصبح أخي أديب “دجو” وأخي هيكل “هنري”. وكم من مهاجر ترجم حتى اسمه وكنيته ترجمة حرفية. فبات منصور حداد مثلًا “فكتور سميث”.
وبذلك نجحوا في التقرب اجتماعيًا وكسبوا قبول العالم الجديد باقتباس عاداتهم وطقوسهم ونهج معيشتهم، ومع ذلك الشيء الوحيد الذي نجا حقًا هو المطبخ اللبناني الذي احتفظوا بها كجزء من هويتهم، على عكس لغتهم ودينهم وملابسهم، إذ يُلاحظ انتشار العديد من أكلاتهم في قوائم الطعام اللاتينية مثل الكبة والتبولة والحمص والصفيحة وغيرها من الأطباق التي تبنتها المجتمعات الجنوبية.
دفعتهم هذه التغيرات إلى اقتناص فرص سريعة في المجتمع اللاتيني وظهرت مجموعة كبيرة من أسماء العائلات اللبنانية المؤثرة مثل معلوف وسعد ومظلوم، وغيرها التي بلغت مناصب ومراكز رفيعة في رئاسة البلديات والبرلمانات وحتى المناصب القضائية والإعلامية. نلاحظ أيضًا أن الكثير من الشوارع والأحياء البرازيلية المهمة والعريقة سميت بأسماء شخصيات أو دول عربية مثل شارع “ماريا معلوف” و”سليم فرح” و”شارع الجمهورية اللبنانية” و”جادة فلسطين” وغيرها.