تتسع رقعة الغضب الشعبي داخل الولايات المتحدة في أعقاب مقتل المواطن الأمريكي، ذي البشرة السوداء، جورج فلويد، على أيدي أحد رجال الشرطة، الإثنين الماضي، الأمر الذي أثار موجة عارمة من الاحتجاجات العنيفة شملت ما يزيد على 25 مدينة أمريكية، ما دفع إدارة الرئيس دونالد ترامب إلى إعلان الطوارئ ببعض المناطق.
الاحتجاجات التي أخذت في كثير منها طابع العنف كما تناقلتها مواقع السوشيال ميديا والقنوات الإخبارية أثارت حفيظة النخبة والساسة في الولايات المتحدة، حيث شن مسؤولون من الحزبين الجمهوري والديمقراطي هجومًا على بعض المجموعات والكيانات السياسية، محملين إياها مسؤولية تأجيج الأوضاع، وعلى رأسها المجموعة اليسارية “أنتيفا” (Antifa).
ترامب في تغريدة له أمس الأحد قال إن بلاده ستنصف تلك الجماعة المناهضة للفاشية كـ”منظمة إرهابية”، وذلك بعد ساعات قليلة من اتهام وزير العدل ويليام بار، لأعضاء أنتيفا بإثارة الفوضى، محملًا إياهم مسؤولية تفاقم الوضع عقب وفاة فلويد في أثناء اعتقاله في مينيابوليس بولاية مينيسوتا.
The United States of America will be designating ANTIFA as a Terrorist Organization.
— Donald J. Trump (@realDonaldTrump) May 31, 2020
مستشار الأمن القومي روبرت أوبرايان، هو الآخر دخل على خط الهجوم ضد تلك الجماعة، لافتًا في تصريحات تليفزيونية له أن ما يحدث في المدن والشوارع الأمريكية من أعمال فوضى وسرقة ونهب تقوم به الجماعة اليسارية مضيفًا “فعلوها في سياتل. فعلوها في بورتلند. قاموا بذلك في بيركلي. هذه قوة راديكالية مدمرة، لا أعلم إن كان يمكننا أن نسميهم يساريين. مهما كانوا، إنهم مسلحون يأتون ويحرقون مدننا، وسنصل إلى الحقيقة”، داعيًا مكتب التحقيقات الفيدرالي إلى ملاحقة أعضائها.
أعضاء داخل الكونغرس طالبوا بسرعة فتح تحقيقات في أعمال الفوضى التي عملت البلاد، وشملت إحراق لسيارات ومراكز تابعة للشرطة في نيويورك ودالاس وأتلانتا وغيرها، لافتين إلى أن “أنتيفا” بجانب جماعات يمينية أخرى مثل بوغالو (Boogaloo) يسعون لإشعال حرب أهلية ثانية، فما حقيقة جماعة (Antifa) التي أثارت كل هذه الضجة؟
ترامب.. بيئة خصبة للجماعة
“أنتيفا” تصنف بأنها حركة احتجاج يسارية متطرفة ضد الفاشية والموالين لها، تنشط بصورة أكبر خلال الصراعات السياسية، سواء على أرض الواقع أم على منصات التواصل الاجتماعي، رغم ما تدعيه من سلمية في تحركاتها، فإنها تعتمد العنف منهجًا لها في بعض الأوقات كتدمير الممتلكات والضرب والتحرش بمعارضيهم من الفاشيين.
تنهض الحركة في الأساس ضد الأفكار الرأسمالية والنيوليبرالية، وتعادي “الأفكار الفاشية والنازية واليمين المتطرف”، فيما تتكون من جزأين “العداء” (ANTI)، و”الفاشية” (FA)، ويصنفها البعض منظمة فوضوية شيوعية اشتراكية، لها ميول عدوانية هدامة في كثير من تحركاتها.
يعتنق أفرادها الأفكار الاشتراكية واللاسلطوية، فيما يتبنى القليل منهم الأفكار الليبرالية، يتميزون بمظهر لافت للنظر أشبه بالتيارات الفوضوية، وجوههم ملثمة، يلبسون الرداء الأسود، ليس لديهم أي مانع في عقد التحالفات مع الجماعات الأخرى التي تتقاطع مصالحها معهم حتى إن اختلفت أيديولوجياتهم.
ورغم أن الاستخدام الأولي لمسمى تلك الجماعة يعود إلى الحرب العالمية الثانية، في بعض البلدان كألمانيا وإيطاليا كما سيرد ذكره لاحقًا، لوحظ تزايد أعداد المنضمين للحركة في أمريكا بعد وصول الرئيس ترامب إلى السلطة، حيث تأسست أول مجموعة تحمل ذات الاسم في أمريكا عام 2017 تحت مسمى مجموعة “أنتيفا” روز سيتي، في مدينة بورتلند بولاية أوريغن، وقد تزايد ظهورها بعد سلسلة من الأحداث التي سلطت الضوء على المحتجين المناهضين للفاشية، خلال هذا العام، كالاعتداء على أحد الأعضاء في اليمين المتطرف وإلغاء فعالية للتيار المتطرف في جامعة كاليفورنيا بيركلي.
حركة سرية لا زعماء لها
يعترف أفراد الحركة بأنها سرية لا زعماء ولا قادة لها، كما تفتقد لوجود هيكل إداري أو تنظيمي لها، وذلك وفق ما ذكرت صحيفة “نيويورك تايمز” التي كشفت أنه من الصعب حصر العدد الحقيقي للمنتمين لها، سواء داخل أمريكا أم خارجها، في ظل عدم وجود إحصاءات رسمية بذلك.
ورغم أن الحركة تتبنى الفكر اليساري، فإنها لا ترتبط بأي حركات يسارية، وهو ما دفع بعض المتهمين بالحركات السياسية باعتبارها “تشويشًا” لا أكثر، كما ذكرت الصحيفة الأمريكية، وإن كان ذلك لا يمنع من تعاون أعضائها مع بعض الشبكات الناشطة الأخرى داخل البلاد التي تتوافق أفكارها معها مثل حركة “حياة السود مهمة” (Black Lives Matter).
وخلال الأعوام الثلاث الأخيرة نشطت حملات الحركة بجانب الجماعات المناهضة لعنصرية اليمين المتطرف ضد كل السلوكيات والإجراءات التي يصفونها بالعنصرية والاستبدادية، مثل كراهية الأجانب ومواجهة المثلية وغيرها من القضايا التي ترى الحركة ضرورة التصدي لها ولو اضطر الأمر لاستخدام العنف الجسدي.
أعضاء “أنتيفا” يسعون من خلال حراكهم إلى منع الجماعات اليمينة المتطرفة من أن يكون لها منبر للترويج لأفكارهم، حيث يرون أنه إذا سمح لتلك الجماعات بممارسة أنشطتها بحرية، فإن “ذلك سيؤدي من دون شك إلى عنف ضد المجتمعات المهمشة”، بحسب ما صرح به للصحيفة محاضر التاريخ في دارتمث كوليدج ومؤلف كتاب “Antifa: The Anti-Fascist Handbook”، مارك بريي.
متى ظهرت؟
ظهرت الحركة ابتداءً نهاية الحرب العالمية الثانية، نتاجًا لسياسات الديكتاتور الإيطالي بينيتو موسوليني، الذي نجح في توحيد السلطة في ظل حزبه الوطني منتصف عشرينيات القرن الماضي، حينها ظهرت حركات مناهضة للفاشية في إيطاليا وألمانيا وأمريكا، ومن رحم تلك الحركات ولدت أنتيفا.
تكونت النواة الأولى لتلك الحركة من النقابيين والاشتراكيين المهاجرين من إيطاليا، ويعتبر أنصارها أنهم خلفاء النشطاء المناهضين للنازية في ثلاثينيات القرن الماضي، الذين أخذوا على عاتقهم معارضة سيادة البيض والانتصار للجنس واللون على حساب الحقوق الإنسانية الأخرى التي يجب أن يتساوى فيها الجميع.
ومع مرور الوقت تحولت الحركة إلى مصدر إلهام للحركات المناهضة للعنصرية والتمييز في مختلف دول أوروبا وأمريكا، وقد حققت انتشارًا كبيرًا على المستويين، القاعدي والأفقي، غير أن نشاطها تراجع بصورة كبيرة خلال العقود الأربع الأخيرة وإن حافظت على مستوى معقول من الحضور ينشط بين الحين والآخر.
وفي أمريكا تشكلت تلك الجماعة من الأعضاء ذوي الميول اليسارية القريبة من الحزب الديمقراطي، المعادين للمحافظين الجدد، حيث أطلقوا عليهم “النازيين الجدد”، وبات هدفهم الأبرز مناهضة أصحاب تلك المعتقدات والأفكار عبر تشكيل جماعات صغيرة منفصلة عن بعضها تنتشر في بعض مدن البلاد، وإن كانت تتحرك وتنشط بصورة أكبر من خلال التنسيق عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
خلال السنوات الأخيرة تصاعد العنف كمنهج معتمد لأنصار أنتيفا، لتحقيق أهدافهم، سواء داخل الولايات المتحدة أم خارجها، بعضهم شارك إلى جانب الميليشات الكردية داخل الأراضي السورية، منضوية تحت لواء قوات سوريا الديمقراطية “قسد” خلال عامي 2017 و2018.
عناصر من تيفيا إلى جانب عناصر من تنظيم وحدات حماية الشعب الكردية السورية المدعومة أمريكيًا
وفي المجمل يرى البعض أن وصول ترامب للحكم أعطى أنتيفا قبلة الحياة، وزاد دافع أعضائها وحماسهم بضرورة محاربة السلطة في شخص الرئيس بشتى الصور، من بينها العنف، فيما يعتقد خبراء أن ترامب نفسه لا يحق له تسميتها منظمة إرهابية كما جاء في تغريدته، وأنه “إذا تم تمرير مثل هذا القانون، فإن الأمر سيواجه تحديًا خطيرًا للتعديل الأول في الدستور المتعلق بحرية الرأي” كما تعتقد البروفيسور ماري ماكورد، المسؤولة السابقة في وزارة العدل.
لم تكن أنتيفا وحدها المسؤولة عن تأجج الأوضاع داخل أمريكا خلال الأيام الماضية، حيث لاقت دعوات الاحتجاج قبولًا شعبيًا كبيرًا، تناغم بشكل ملحوظ مع الانتقادات الموجهة لسياسات إدارة ترامب، الأمر الذي ينذر باتساع رقعتها ساعة بعد الأخرى رغم جهود الاحتواء، ومن السابق لأوانه تقييم تداعيات تلك التحركات على مستقبل ترامب السياسي إلا أنها بلا شك سيكون لها تأثير على الرئيس الذي من شدة المأزق الذي بات فيه اضطر للاختباء داخل أحد المخابئ السرية أسفل البيت الأبيض، في تحول يحمل الكثير من الدلالات.