في عائلة حلبية بورجوازية عام 1905 ولد ناظم القدسي الذي كان هم أسرته تحصيله العلمي والأكاديمي، فانطلق إلى دمشق ملتحقًا بكلية الحقوق لتتطلع نفسه بعدها إلى بيروت حيث الجامعة الأمريكية، ولكن عقله بقي معلقًا بالوصول إلى جنيف قِبلةُ دارسي القانون ليصلها ويحقق مبتغاه بدراسة الدكتوراه في الحقوق الدولية العامة عام 1929.
قرر الأكاديمي البورجوازي أن يدخل معسكر السياسة في بحرٍ متلاطم لا يستطيع خوض غماره إلا من أتقن الإبحار في خضم العواصف الهوجاء، وفي حلب التي كان يمارس فيها مهنة المحاماة شارك القدسي بتأسيس الكتلة الوطنية التي تصدرت ما عرف حينها بالكفاح السياسي في مواجهة الانتداب الفرنسي، ورشح نفسه للانتخابات البرلمانية في ظل الانتداب وفاز بمقعده في البرلمان السوري عن مدينة حلب التي مثلها خمس دورات برلمانية متتالية.
ناظم القدسي ..أول سفير سوري في واشنطن
كان ناظم القدسي من أشد المعارضين لتولي شكري القوتلي منصب الرئاسة شأنه في ذلك شأن الكتلة الوطنية التي أعلنت رفضها لهذا التولي، فما كان من الرئيس القوتلي إلا أن أصدر قرارًا بتعيينٍ ناظم القدسي أول سفيرٍ لسوريا في الولايات المتحدة الامريكية ليسافر إلى واشنطن ويقدم أوراق اعتماده أمام الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت يوم 19 من مارس/آذار 1945.
في واشنطن التي وصلها القدسي كان عليه أن يختار مبنى للسفارة السورية، فاشترى مبنى تاريخيًا من ثلاثة طوابق تعود ملكيته لعائلة الرئيس الأمريكي وليام هوارد تافت، ليغدو هذا المبنى مقرًا للسفارة السورية، وعند قيام الوحدة السورية المصرية، تحول المبنى بشكلٍ آلي لمقر لسفارة الجمهورية العربية المتحدة، ولكن هذا المقر بعد الانفصال بقي لصالح مصر، واستمر ذلك إلى أن أعيدت العلاقات الدبلوماسية بين دمشق وواشنطن عام 1974، فأعادته الخارجية المصرية إلى الخارجية السورية، ليعود مجددًا مقرًا للسفارة السورية.
وبعد أقل من شهرٍ على توليه السفارة في واشنطن انضم القدسي إلى الوفد السوري في المؤتمر التأسيسي للأمم المتحدة.
في مواجهة الانقلاب العسكري
عام 1947 كان القوتلي من أبرز المؤسسين لحزب الشعب مع رشدي الكيخيا وكان همه من ذلك بالدرجة الأولى حينها مواجهة “الحزب الوطني” الذي كان أبرز الداعمين للرئيس شكري القوتلي في ذلك الوقت، وكان القدسي من أشرس المعارضين للقوتلي في البرلمان السوري.
بقي القدسي وهو في الإقامة الجبرية يعلن رفضه للانقلاب العسكري ولسلطة حسني الزعيم لسياساته المتهورة
في 29 من مارس/آذار 1949 أطاح حسني الزعيم بالرئيس شكري القوتلي بانقلاب عسكري، فسارع ناظم القدسي إلى إعلان رفض هذا الانقلاب العسكري.
أصدر حسني الزعيم قرارًا يكلف فيه ناظم القدسي بتشكيل الوزارة، فأعلن القدسي رفضه الحاد لهذا التكليف معتبرًا أن استلام الزعيم للسلطة باطلٌ كونه جاء بانقلابٍ عسكري أطاح بالحياة الدستورية في البلاد، فاعتقل حسني الزعيم ناظم القدسي وزج به في سجن المزة وبقي فيه فترةً وجيزةً إلى أن قبل الزعيم عددًا من الوساطات فأخرجه ليغدو رهن الإقامة الجبرية في منزله بحلب.
بقي القدسي وهو في الإقامة الجبرية يعلن رفضه للانقلاب العسكري ولسلطة حسني الزعيم لسياساته المتهورة لا سيما إغلاقه الحدود من الأردن والعراق وإعلانه عزمه شن الحرب عليهما بدعوى عمالتِهما للبريطانيين.
في تلك الفترة رأى عامة السياسيين السوريين الرافضين لانقلاب الزعيم ومنهم القدسي أن مصلحة البلاد تكمن في الإطاحة بالزعيم بأي شكلٍ من الأشكال ولو كان انقلابًا عسكريًا جديدًا، وعندما أطاح سامي الحناوي بحسني الزعيم بانقلاب عسكري في 14 من أغسطس/آب 1949 سارع القدسي لمساندة ذلك الانقلاب كونه يخلص سوريا من سطوة وبطش وتهور حسني الزعيم من جهة، ولأن سامي الحناوي قريبٌ جدًا من حزب الشعب وتوجهاته السياسية من جهة أخرى.
في مواجهة العسكر مجددًا
بعد الانقلاب دعا سامي الحناوي الرئيس هاشم الأتاسي الذي كان قد أعلن اعتزاله العمل السياسي للعودة عن تقاعده وتشكيل حكومة مؤقتة تشرف على انتخابات من شأنها استعادة الحكم المدني، فامتثل الأتاسي لطلب الحناوي وكلف ناظم القدسي بتشكيل الحكومة.
في ديسمبر/كانون الأول من عام 1949 شكّل القدسي حكومته التي أعلن العسكر رفضهم الشديد لها كونها لا تحتوي على أي شخصية عسكرية ولأن القدسي بذلك أراد إبعاد العسكر عن الحياة السياسية، فاضطرت الحكومة للاستقالة بعد خمسة أيام فقط من تشكيلِها.
في 4 من يونيو/حزيران 1950 شكّل القدسي حكومة جديدة وحاول تأمين موافقة المعارضة بتعيين فوزي سلو ـ اليد اليمنى لأديب الشيشكلي ـ وزيرًا للدفاع، وبعد عشرة أشهر عجز فيها القدسي عن تحقيق أهدافه بالوحدة مع العراق بسبب تكبيل العسكر له، استقال من الوزارة في 27 من مارس/آذار 1951، ليتم انتخابه في الأول من أكتوبر/تشرين الأول من العام نفسِه ناطقًا باسم البرلمان.
عارض القدسي بشدة الوحدة مع مصر كونه كان ضد توجهات عبد الناصر والتحالف مع الاتحاد السوفيتي
في 28 من نوفمبر/تشرين الثاني 1951 استولى أديب الشيشكلي على السلطة بانقلاب عسكري وعين فوزي سلو رئيسًا مؤقتا للجمهورية وأرسل القدسي إلى سجن المزة بتهمة التآمر على النظام الجمهوري في سوريا ومحاولة إقامة ملكي عميلٍ لبريطانيا، وبعد بضعة أشهر أُخرج القدسي من السجن ليخضع للإقامة الجبرية حتى الإطاحة بالشيشكلي في فبراير/شباط 1954.
موقفٌ للتاريخ
عام 1954 بعد الإطاحة بالشيشكلي انتخب القدسي رئيسًا للبرلمان، وفي يومٍ من الأيام فاجأ الجميع بجلوسه على مقاعد النواب وليس على كرسي الرئيس، وقبل أن يسأله أحد عن السبب فتح محفظته وأخرج منها صحيفة الرأي العام، وخاطب النواب قائلًا:
“أيها الزملاء؛ لقد وجهت لي جريدة الرأي العام تهمةً مفادها أنني أمرت بفتح شارع يمر قرب قطعة أرضٍ لي بهدف رفع سعرها، وأنا منذ هذه اللحظة أضعُ نفسِي أمامكم موضع المتهم، وأطلب تشكيل لجنةٍ برلمانيةٍ ترافقها لجنةٌ فنيةٌ تخصصيةٌ تذهب إلى موقع الأرض وتعاينُ على الطبيعة صحة الاتهام. فإن ثبتت التهمة، أطلب منكم رفع الحصانة عني وتقديمي إلى المحاكمة”.
وفعلًا كان ما طلبه القدسي، فتشكلت اللجنة، وعاينت الموقع المذكور ورفعت تقريرها إلى البرلمان بإثبات بطلان التهمة، عندها وقف ناظم القدسي القدسي مخاطبًا البرلمان: “إنني أسقط حقي في إقامة دعوى على الصحافي القدير الأستاذ أحمد عسة، رئيس تحرير جريدة الرأي العام احترامًا مني لحرية الصحافة وتقديرًا لاهتمامه بالمصلحة العامة”.
ضد الوحدة مع مصر
عارض القدسي بشدة الوحدة مع مصر كونه كان ضد توجهات عبد الناصر والتحالف مع الاتحاد السوفيتي، وكان أكثر ميلًا للتحالف مع الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، كما أنه كان يتبنى مشروع تأسيس وحدةٍ فيدراليةٍ بين العراق وسوريا، تحافظ على حكومتين في القُطرين، ولكنها تقوم على التنسيق العسكري والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي التام بين البلدين، وقد بذل في سبيل ذلك الكثير من الجهود وجولات المحادثات التي أحبطها عبد الناصر.
وفي جلسة التصويت على الوحدة مع مصر صوت القدسي في البرلمان ضد الوحدة، وعندما كان قرار البرلمان بأغلبية التصويت معها اعتزل القدسي السياسة وغادر ليقيم في بيته بمدينة حلب ولم يُذكر له أي نشاط سياسي خلال سنوات الوحدة بين سوريا ومصر.
كفل حرية الرأي والتعبير والإعلام والصحافة ومنح الحرية الواسعة للاجتماع والتظاهر
آخر الرؤساء الشرعيين
عقب الانفصال أجرى البرلمان السوري انتخابات رئاسية فاز ناظم القدسي بموجبها ليصبح رئيسًا لسوريا في 12 من ديسمبر/كانون الأول 1961.
وقد تميزت رئاسة القدسي على قصرها بما يلي:
أولًا: محاولة التخلص من الإرث السياسي والاقتصادي لحقبة عبد الناصر: وذلك من خلال إعادة العلاقات السياسية مع كل الأنظمة التي قطعت علاقتها مع سوريا بسبب عدائها لعبد الناصر، لا سيما الأردن والسعودية ولبنان، وأعاد مد الجسور مع كلٍ من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا.
كما شرع في إلغاء قرارات التأميم الاقتصادي والإصلاح الزراعي التي أصدرها عبد الناصر وذلك ضمن برنامج إصلاح اقتصادي شامل.
ثانيًا: محاولة إبعاد العسكر عن القرار السياسي: وهذه السياسة أثارت عليه حفيظة ضباط الجيش الذين انقلبوا على ناظم القدسي يوم 28 من مارس/آذار عام 1962 قاده عبد الكريم النحلاوي قائد الحركة الانفصالية فيما عرف بانقلاب “الضباط الشوام” وذلك بذريعة إلغاء قانون الإصلاح الزراعي، فاعتقلوا الرئيس ناظم القدسي، لكن سرعان ما قام انقلاب مضاد بعد عدة أيام، وتحديدًا يوم 2 من أبريل/نيسان ليعيد الرئيس ناظم القدسي إلى الرئاسة، ويعيد البرلمان الذي حله النحلاوي، ولكن ما جرى خلال هذه الأسبوع كانت له آثاره العميقة في إعادة تشكيل الوجه العسكري لسوريا عقب ذلك.
ثالثًا: حراسة الدستور: كان ناظم القدسي أحد الذين صاغوا دستور عام 1950 الذي يعد أفضل دستور مر في تاريخ سوريا، حيث قلص إلى حدٍ كبير من صلاحيات رئيس الجمهورية وزاد من صلاحيات البرلمان ومنعه من التنازل عن صلاحياته التشريعية للحكومة ولو مؤقتًا، وعزز سلطة القضاء واستقلاله.
كما كفل حرية الرأي والتعبير والإعلام والصحافة، ومنح الحرية الواسعة للاجتماع والتظاهر وأوجب المحاكمة العادلة ومنع الاعتقال التعسفي والتوقيف دون محاكمة لفترة طويلة، كما حفظ حق الملكية والمشاركة في الحياة الاقتصادية، وقد تم تعطيل العمل به بسبب الانقلابات العسكرية، كما تم تعطيله إثر قيام الوحدة بين سوريا ومصر.
أعاد القدسي العمل بهذا الدستور بعد توليه الرئاسة، وبقي حارسًا له رافضًا أي تلاعبٍ به، ولو كان لصالح تعزيز صلاحيات رئيس الجمهورية، إلى أن وقع انقلاب البعث في الـ8 من مارس/آذار عام 1963 فألغي الدستور وعطلت الحياة الدستورية وخنقت الحريات واعتُقل الرئيس ناظم القدسي ثم وضع قيد الإقامة الجبرية ليطلق سراحه بعد مفاوضات طويلة، ويغادر إلى العاصمة الأردنية عمان ليموت بها يوم الـ6 من فبراير/شباط عام 1998.
وبالإطاحة بالرئيس ناظم القدسي يُسدل الانقلاب البعثي الستار على مسيرة آخر الرؤساء الشرعيين في تاريخ سوريا.