قفزة جديدة في سباق الاقتراض قفزتها الحكومة المصرية خلال الأيام الماضية، وصلت إلى أرقام غير مسبوقة في تاريخ الدولة، حيث بلغ إجمالي ما حصلت عليه خلال 20 يومًا فقط قرابة 17 مليار دولار، ما بين قروض مباشرة أو عائد بيع سندات دولية أو من خلال الموافقات المبدئية من المؤسسات المالية الدولية على قروض جديدة.
تزامن ذلك مع تراجع لافت للنظر في منسوب الاحتياطي النقدي الأجنبي، الذي يعاني من انخفاض شديد للشهر الثالث على التوالي، إذ فقد قرابة 9.5 مليار دولار خلال الفترة من مارس وحتى نهاية مايو الماضي، هذا في الوقت الذي يعاني فيه الاقتصاد المصري من حالة ركود شأنه شأن بقية اقتصادات العالم بسبب تداعيات جائحة كورونا.
لم تكن هذه المرة الأولى التي تلجأ فيها القاهرة للاقتراض، إذ باتت تلك هي السياسة الأيسر والأقرب لصناع القرار في مصر خلال السنوات الماضية، وذلك لسد العجز في الموازنة وتمويل المشروعات القومية والإنفاق على الموارد الحياتية، لكن الوضع هذه المرة مثير للجدل في ظل الأرقام الكبيرة المعلنة في هذا الوقت الضيق.
التساؤل الأبرز الذي يطل برأسه الآن: في أي المصارف وجهت تلك المليارات (17 مليار دولار قروض + 9.5 مليار دولار من الاحتياطي النقدي)؟ ربما يذهب الذهن مباشرة إلى تمويل ودعم الخدمات الصحية في مواجهة الوباء، غير أنه لم يصدر حتى كتابة هذه السطور أي تمويل جديد غير الـ100 مليار جنيه (6.4 مليار دولار) التي أعلنها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في 22 من مارس الماضي.. فأين ذهبت؟
17 مليار دولار قروض جديدة في أقل من شهر
البداية كانت في 11 من مايو حين وافق صندوق النقد الدولي على منح مصر قرض بقيمة 2.8 مليار دولار طبقًا لبرنامج أداة التمويل السريع، وذلك لمواجهة تداعيات كورونا، حيث أشار الصندوق في بيانه أن التحول الملحوظ في برنامج مصر للإصلاح الاقتصادي بات مهددًا بسبب تداعيات الوباء، ما تطلب تقديم حزمة جديدة من القروض.
وفي 22 من مايو جمعت مصر ما قيمته 5 مليارات دولار نتيجة إصدار وبيع سندات دولارية في أكبر طرح تشهده البلاد، وفي التفصيل أشارت وزارة المالية المصرية إلى جمع 1.25 مليار دولار من استحقاق 2024 بعائد 5.75%، و1.75 مليار دولار استحقاق 2032 بعائد 7.625%، بالإضافة إلى مليارَي دولار استحقاق 2050 بعائد 8.875%.
وفي نفس الوقت تقريبًا كشفت وكالة “بلومبرج” عبر تقرير منشور لها أن مصر تقدمت بطلب آخر للحصول على قرض قيمته 4 مليارات دولار من مؤسسات دولية وإقليمية أخرى، منها البنك الدولي والبنك الإفريقي للتنمية، لافتة إلى موافقة مبدئية على هذا الطلب وإن لم يتم الحصول على القرض بعد.
وفي الـ6 من يونيو الحاليّ أعلن صندوق النقد موافقته منح القاهرة لقرض جديد بقيمة 5.2 مليار دولار، حيث أشارت رئيسة بعثة الصندوق، أوما راماكريشنان في بيان أن الحكومة المصرية طلبت القرض في إطار ما يُعرف ببرنامج الاستعداد الائتماني، وذلك من أجل دعم جهودها “للحفاظ على استقرار الاقتصاد الكلّي وسط صدمة كوفيد-19، مع الاستمرار في دفع الإصلاحات الهيكلة الرئيسية” قدمًا.
9.5 مليار دولار انخفاض في الاحتياطي النقدي
الغريب أنه رغم تلك القروض التي حصلت عليها مصر ودخل معظمها خزانة الدولة، فإن الاحتياطي النقدي من العملات الأجنبية تراجع بصورة كبيرة، حيث فقد نحو 9.5 مليار دولار خلال 3 أشهر فقط، وهو رقم كبير للغاية، ولو استمر الوضع على هذا المنوال ربما تجد الحكومة المصرية نفسها في مأزق.
البنك المركزي وعلى موقعه الإلكتروني كشف انخفاض الاحتياطات الأجنبية من 45.4 مليار دولار نهاية فبراير إلى 40 مليار نهاية مارس، ثم وصل إلى 37 مليار دولار نهاية أبريل، ليواصل تراجعه إلى نحو 36 مليار دولار في نهاية مايو، ما يعني أن الحكومة سحبت قرابة 9.5 مليار دولار من فبراير وحتى مايو.
تزامن ذلك مع تراجع طفيف في سعر العملة المحلية (الجنيه) أمام العملات الأجنبية، فبعد انتعاشة دامت قرابة عام تقريبًا حقق فيها الجنيه ثباتًا وارتفاعًا أحيانًا أمام الدولار الأمريكي عاود الانخفاض مرة أخرى خلال الأسبوعين الماضيين، ليصل سعر الدولار نحو 16.17 جنيه تقريبًا بعد أن كان 15.55 قبل أيام قليلة وهو التهاوي الأكبر خلال الخمسة أشهر الأخيرة.
حالة من القلق أثارها هذا التوجه الحكومي في السحب بهذه الكميات من الاحتياطي الأجنبي، حيث حذر اقتصاديون من نتائج تلك السياسة التي تهدد مستقبل الاقتصاد وتضعه على المحك خاصة مع توقع إطالة أمد الأزمة الحاليّة إلى عدة أشهر قادمة، ما يعني استمرار السحب دون تغطية نقدية له، إلا عن طريق المزيد من الاقتراض، وهنا تتعاظم الكارثة.
ويرجع الانخفاض الملحوظ في الاحتياطي النقدي المصري إلى تراجع عائدات السياحة وقناة السويس وتحويلات العاملين، وهي المنافذ الثلاث للعملة الصعبة في مصر، التي تأثرت بصورة كبيرة وصلت إلى حد الشلل التام بسبب إجراءت مواجهة كورونا، الأمر الذي دفع الحكومة إلى طرق باب البنك المركزي لتغطية نفقاتها وتمويل خطتها المعدة في الموازنة السنوية لها.
أين ذهبت تلك المليارات؟
رغم ما هو معلن على لسان مسؤولي الجهات المالية المانحة لمصر عن أن دوافع الموافقة الرئيسية على إقراض القاهرة هو مواجهة فيروس كورونا، فإن التثبت من الالتزام بهذا الغرض في الإنفاق يحتاج إلى إعادة نظر ودراسة متأنية، وهو ما تكشفه التحركات الحكومية في الآونة الأخيرة.
الطبيعي أن توجه النسبة الكبرى من تلك القروض لصالح الجهود الصحية لا سيما مع ما يعاني منه القطاع الصحي المصري من تدهور وفقدان معظم إمكاناته في ظل الأعداد الكبيرة للمصابين بالفيروس، وهو ما دفع وزارة الصحة إلى مناشدة غالبية المرضى بالعزل المنزلي نظرًا لعدم وجود أماكن داخل المستشفيات الحكومية، ما أعطى القطاع الخاص فرصة كبيرة للابتزاز ورفع أسعار التشافي بصورة أثارت الكثير من الجدل والغضب داخل الشارع المصري.
غير أن مقاطع الفيديو التي تبث على منصات السوشيال ميديا وشهادات أفراد الأطقم الطبية داخل المستشفيات تؤكد معاناة المراكز الصحية بسبب عدم توافر المستلزمات الطبية، ما دفع بعض المرضى والأطباء لشرائها على نفقتهم الخاصة، في الوقت الذي غاب فيه دور الوزارة عن ضخ المزيد من الدعم بزعم عدم وجود تمويل مناسب.. وهو ما يدعو للتساؤل: أين ذهبت مليارات القروض؟
المتابع لمسار الإنفاق الحكومي المصري خلال الآونة الأخيرة يجد أنه حُصر في عدة منافذ أساسية يمكن من خلالها الإجابة عن السؤال الجدلي السابق، المنفذ الأول الذي يحتل مرتبة الصدارة يتمثل في سداد فوائد وأقساط الديون المصرية التي تبلغ قيمتها في موازنة 2019/2020 قرابة 971 مليار جنيه (62.5 مليار دولار) بزيادة قدرها 150 مليار جنيه (9.6 مليار دولار) عن العام المالي 2018/2019.
وزارة المالية المصرية في بيان لها كشفت أن حجم أقساط القروض – المحلية والخارجية – الواجب سدادها خلال العام المالي 2019-2020، تقدر بقيمة 375 مليار جنيه بما يمثل 18.9% من إجمالي الاستخدامات بموازنة العام المالي، وهو ما يعد الدافع الأبرز وراء الإفراط في الاقتراض بهذه الكيفية.
المحور الثاني الذي فرض نفسه، مثيرًا للجدل، فيما يتعلق بمنافذ إنفاق القروض المليارية التي حصلت عليها مصر، يتمثل في “دبلوماسية المستلزمات الطبية” حيث حرص النظام المصري رغم ما تعانيه البلاد من أزمات اقتصادية طاحنة أن يظهر قوته الناعمة إفريقيًا وعالميًا من خلال تقديم المساعدات لبعض الدول على رأسها الصين وإيطاليا والسودان والمملكة المتحدة وبعض دول إفريقيا، ولعل زيارة وزير الصحة هالة زايد، لكل من الصين وإيطاليا في أوج تفشي الوباء في هاتين البلدين أكبر دليل على هذا التوجه الجديد.
فيما جاءت العاصمة الإدارية الجديدة (شرق) كثالث المحاور التي احتلت نصيبًا كبيرًا من حديث الشارع، ففي الوقت الذي تعيد فيه الدول قائمة أولوياتها فيما يتعلق بمصادر الإنفاق، بحيث تخصص للمجالات الحيوية وعلى رأسها الصحة ودعم المتضررين من إجراءات الغلق، كان للحكومة المصرية رأي آخر.
حيث استمر العمل في بناء المشروعات داخل العاصمة – دون توقف – رغم الأزمة التي تحياها البلاد، وذلك بناء على توجيهات الرئيس السيسي بمواصلة العمل والمتابعة الدورية لمختلف الأعمال الإنشائية والمشروعات بالعاصمة، وذلك خلال اجتماع موسع عقده من قبل مع مصطفي مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، واللواء أمير سيد أحمد مستشار رئيس الجمهورية للتخطيط العمراني، بداية مايو الماضي، بحسب صحيفة “الأهرام” الحكومية.
وكان نتيجة لسياسة الإقراض التي اعتمد عليها نظام السيسي منذ قدومه، لتمويل خططه ومشروعاته، الحيوية منها وغير الحيوية، أن زاد حجم الدين الخارجي للبلاد بصورة غير مسبوقة، حتى وصل بنهاية ديسمبر 2019 قرابة 112.67 مليار دولار، بزيادة سنوية قدرها 16.1 مليار دولار عن العام 2018.
المثير للجدل أن المواطن العادي لم يشعر بعد بتأثير تلك المليارات التي تم اقتراضها، فما زالت معدلات الفقر في تزايد، والأجور تعاني من ثبات إن لم يكن تراجعًا بعد قرار تعويم العملة المحلية، ومعدلات البطالة تتزايد خاصة خلال الآونة الأخيرة بسبب كورونا، فضلًا عن غلق آلاف المشروعات الصغيرة.. ليبقى السؤال: من يسدد فاتورة تلك الديون الباهظة؟ وهو السؤال الذي ربما تحمل الأجيال القادمة الإجابة عنه.