ظلت صفقة الأسلحة المصرية الإيطالية، على مدار أربعة أشهر متواصلة، أحد أكثر المواضيع بحثًا واهتمامًا، ليس بين القاهرة وروما فحسب، أو حتى في معادلة شرق المتوسط، بل في منطقة الشرق الأوسط بأكملها، نظرًا لآثارها البالغة – إن تمت – على موازين القوى العسكرية في المنطقة.
ومع وصول هذه الصفقة المهمة إلى منعطف سياسي حاد، بالتزامن مع بلوغ التصعيد في منطقة شرق المتوسط بين القوى الدولية والإقليمية المتصارعة إلى مستويات غير مسبوقة، فإننا نحاول من خلال هذه الإطلالة أن نلقي الضوء على تاريخها وأهميتها ومستقبلها وأبرز العقبات التي تعترض تنفيذها.
الجذور
بدأت القصة في الأول من فبراير/شباط من هذا العام، حيث أعلنت عدد من الوكالات الإخبارية الاقتصادية في إيطاليا وجود مساعٍ مصرية للحصول على قرض ميسر بقيمة نصف مليار يورو، عبر تحالفٍ خماسي من المصارف الإيطالية يتكون من مؤسسات: كاسا وساس وإنتيزا سان باولو وبي إن بي باريبا وسانتاندير.
ويهدف هذا القرض الميسر إلى تغطية طلب مصر شراء فرقاطتين بحريتين من طراز “فريم بيرجاميني” المصنوعتين بواسطة شركة “فينكانتيري”، بالإضافة إلى عدد من طائرات التدريب المتقدم والقتال الخفيف من طراز “إيرماكي M-346 FA”، المصنوعة بواسطة شركة “ليوناردو” الإيطالية.
الفرقاطة “البيرجاميني” هي واحدة من أكثر الفرقاطات تقدمًا في المهام البحرية المتعددة، وفي الدفاع الجوي على وجه الخصوص، وذلك نظرًا لامتلاكها 16 خلية إطلاق عمودية لنوعين من الصواريخ، هما إستر 15، ضد الأهداف قصيرة ومتوسطة المدى، وإستر 30 الذي يتصدى للصواريخ بعيدة المدي، كما تشغل رادارًا عملاقًا طراز “كرونوس جراند نافال”، يعمل نمط “إيسا”، ويوفر تغطية فعالة لمديات تصل إلى 300 كيلومتر.
تسعى مصر، في هذه المفاوضات، بحسب الصحف الإيطالية إلى الاستفادة من ميزة جاهزية هاتين الفرقاطتين للتوريد مباشرةً، نظرًا لأن الشركة المصنعة كانت قد تعاقدت على بيعهما للبحرية الإيطالية في بادئ الأمر، حيث ينتظر أن تصل قيمة الصفقة الإجمالية بين مصر وإيطاليا إلى مليار ونصف المليار يورو.
صفقة القرن
بمرور أسبوع واحدٍ فقط، أي بحلول الـ8 من فبراير/شباط، تضخمت الصفقة المصرية الإيطالية، كمًا ونوعًا، لتشمل طائراتٍ مقاتلة ولنشات صواريخ وأقمارًا صناعية وزيادة عدد الفرقاطات، لتحمل اصطلاحًا جديدًا هو “صفقة القرن”.
مصر في حاجة إلى إدخال نوع جديد من الفرقاطات لإحلالها بدلًا من الفرقاطات الأمريكية القديمة
تتكون صفقة القرن من 6 فرقاطات بيرجاميني، أي زيادة 4 فرقاطات على التفاهم السابق، و20 لنشًا صاروخيًا، و24 مقاتلة من طراز “يورو فايتر تايفون”، ونفس العدد من طراز “إيرماكي إم 346” سالفة الذكر، وعدد من الطائرة المروحية “أوغوستا ويستلاند – 149″، بسعر إجمالي يصل إلى 9 مليارات يورو.
وقد أحدث هذا التطور الذي أشارت إليه صحيفة “Sole 24 Radiocor”، وأكده موقع “Analisa Difesa” صدى واسع النطاق في الأوساط السياسية والعسكرية المحيطة، نظرًا لحجم الصفقة الهائل في ظل تردي الاقتصاد المصري المثقل فعلًا بالديون، وتشوش الرؤية لدى معظم المتابعين حيال طموحات الجيش المصري التسليحية، خاصة أن الصفقة الأولى لم تكتمل والصفقة الثانية تحوي أسلحة مختلفة كثيرًا عن السائد في تقاليد التسلح المصرية، وأثر هذه المفاوضات على التحالفات في شرق المتوسط.
احتياجات وتساؤلات
من منظورٍ عسكري بحت، فإن مصر في حاجة إلى إدخال نوع جديد من الفرقاطات، لإحلالها بدلًا من الفرقاطات الأمريكية القديمة التي خرجت من الخدمة طراز “نوكس”، كما تحتاج إلى هذا النوع المعزز في قدرات الدفاع الجوي، بغرض توفير الحماية اللازمة لحاملتي المروحيات الفرنسيتين “ميسترال”، ونفس الوضع ينطبق على اللنشات الصاروخية التي تحتاجها مصر لتعويض اللنشات العتيقة التي حاربت في أكتوبر 1973.
أما بالنسبة لطائرات التدريب المتقدم “إيرماكي”، فإن مصر تتطلع للحصول عليها منذ زمن طويل لتعويض خروج شقيقتها الإيطالية من طراز “ألفاجيت”، ويعد الحصول على طائرات مروحية من طراز “أوغوستا ويستلاند – 149” إضافةً لوجيستية مهمة للبحرية المصرية، نظرًا لتكفل هذا النوع من المروحيات بعدد كبير من المهمات الضرورية، مثل مكافحة الغواصات والبحث والإنقاذ والنقل والإنزال والدورية وإطفاء الحرائق.
وفي مجال الأقمار الصناعية، فإن مصر ينقصها امتلاك قمر استطلاع راداري من هذا النوع الإيطالي، بعد نجاحها في إطلاق (أو امتلاك) عدد من الأقمار الصناعية مختلفة الطرازات مؤخرًا، مثل أقمار التصوير والبث التليفزيوني وتأمين البيانات، وقد أشارت القيادة السياسية المصرية منذ أيام إلى رغبتها في استخدام هذه التكنولوجيا لمراقبة وضع البنية التحتية، خاصة عمليات البناء العشوائي.
ولكن ما أثار كثيرًا من علامات الاستفهام من حيث المبدأ، هو الأعداد الكبيرة من القطع التي تسعى مصر إلى شرائها في كل تخصص عسكري، وهو ما يشي بتغير واضح في العقيدة القتالية المصرية، وربما أبعاد سياسية متضمنة في مثل هذا النوع من الصفقات، بالإضافة إلى الرغبة في الحصول على مقاتلات “تايفون” الأكثر كلفة في السعر والتشغيل والصيانة من نظيرتها “رافال” الفرنسية، التي تتطلب أيضًا جهدًا مضاعفًا في استيعاب التكنولوجيا، خاصة في ظل تشغيل سلاح الجو المصري طيفًا واسعًا من الطائرات الأمريكية والروسية والفرنسية، وهو تنوع ربما يكون الأعقد في العالم.
تبادلت القاهرة وروما، منذ بداية المفاوضات، عددًا من الرسائل الإيجابية، خاصةً فيما يتعلق بالصفقة الأولى
وترجح بعض التقارير أن مصر لجأت إلى إيطاليا للحصول على مقاتلات “تايفون” باهظة الثمن، بعد رفض فرنسا تمويل باقي صفقة “الرافال” التي حصلت مصر منها على سرب واحد من أصل سربين تم الاتفاق عليهما، وذلك لأسباب تتعلق بمخاوف باريس من تساهل مصر في طلب القروض، كما حدث في “الميسترال” و”الجويند” و”الفريم”، وبعض المشروعات المدنية الكبرى.
ترحيب متبادل
تبادلت القاهرة وروما، منذ بداية المفاوضات، عددًا من الرسائل الإيجابية، خاصةً فيما يتعلق بالصفقة الأولى، صفقة الفرقاطتين “بيرجاميني” من “فيناكنتيري” وطائرات التدريب “إيرماكي” من “ليوناردو”.
في منتصف فبراير/شباط الماضي، قال جوزيبي بونو رئيس الشركة المصنعة للفرقاطات، في سبيل طمأنة الرأي العام المحلي، إن شركته سوف تعوض البحرية الإيطالية بقطعتين جديدتين، حال نجاحها في تصدير الفرقاطتين لمصر، مؤكدًا أن بحرية بلاده تمتلك 8 قطع من هذا النوع بالفعل.
وفي نهاية فبراير/شباط، قدمت مصر طلبًا رسميًا للشركة الإيطالية بغرض وقف تسليم هاتين القطعتين إلى البحرية الإيطالية، الذي كان مقررًا في الـ18 من مارس/آذار الماضي، مؤكدة أنها ترغب في تعديل أنظمة القطعتين بحيث تتوافقا مع الجيش المصري بدلًا من حلف الناتو.
ومنذ أسبوع واحد، وافق رئيس الوزراء الإيطالي، بعد اجتماعه مع مجلس الوزراء ووفد من البرلمان على إحالة الطلب المصري للحصول على الفرقاطتين إلى الهيئة الوطنية المختصة بإصدار تراخيص السلاح الإيطالي، في وزارة الخارجية، بغرض دراستها قانونيًا، وهي المرحلة الأخيرة في مسار هذه الصفقة.
وفي خضم الرسائل الإيجابية السابقة، كانت هناك مساعٍ حكومية إيطالية من أحد المسؤولين في رئاسة الوزراء، لطمأنة الجانب المصري على الصفقة الثانية، نهاية مايو/أيار الماضي، قال فيها إن صفقة التسليح الكبرى (صفقة القرن) ضرورية هي الأخرى، لأنها تخدم إيطاليا على عدة مستويات سياسية متوازية، وليست مفيدة في الجانب التجاري والصناعي وحسب.
شبح ريجيني
تريد مصر إتمام صفقة القرن العسكرية، وخاصةً في شقها العاجل المتعلق بالفرقاطتين الجاهزتين للتصدير، وفيما يبدو، فإن الحكومة الإيطالية تتوق بشدة هي الأخرى لإنجاح المفاوضات، لأسباب كثيرة أبرزها ضمان سرعة تعافي الاقتصاد المحلي من آثار صدمة وباء كورونا.
لكن يقف أمام هاتين الرغبتين شبح “ريجيني”، باحث الاجتماع الإيطالي الذي وجد مقتولًا وعلى جثته آثار تعذيب في مصر عام 2016، مدفوعًا بنضال والديه، ودعم الأحزاب اليسارية والجمعيات الليبرالية في المجال السياسي الإيطالي لهذه القضية.
الحكومة الإيطالية، ممثلةً في وزارة الخارجية، وتحت ضغط الأطراف السابقة، منحت مصر مهلةً أخيرة لتقديم نتائج إيجابية عن الجناة الحقيقيين في قضية مقتل ريجيني، وذلك خلال الاجتماع الذي سيعقد على مستوى الادعاء العام بين البلدين مطلع الشهر القادم.
وفي حال نجحت مصر في إيجاد صيغة تفاهمية مرضية للجانب الإيطالي في هذه القضية التي سبق تناولها في اتصال هاتفي بين الرئيس المصري ورئيس الوزراء الإيطالي في أبريل/نيسان الماضي، فإنه من المرجح أن يتم توقيع عقود إحدى الصفقتين، الصغرى أو الكبرى، في موعد أقصاه مطلع ديسمبر/كانون الأول القادم، حيث ستكون شركة “فينكانتيري” راعيًا رسميًا لمعرض مصر الدولي للسلاح في نسخته الثانية (إيديكس – 2020)، وسط تكهنات بأن يصل إجمالي الصفقتين إلى 18 مليار يورو، كما يقول بنك “أكروس” الإيطالي.