لم يكن دعم أبو ظبي لجنرالات الحكم في البلدان العربية والإفريقية من فراغ، فالتعامل مع القادة ذوي الخلفيات العسكرية أيسر بكثير في تمرير مشروعات استعمارية ومخططات تأمرية، مقارنة بالزعماء المدنيين ممن يعلون من شأن الديمقراطية ويرفضون إخضاع قرارهم السياسي واستقلالية بلادهم لأي أجندات خارجية مهما كانت المغريات.
في الحلقة الرابعة من ملف “مرتزقة أبناء زايد” نستعرض كيف استغلت أبو ظبي جنرالات السودان الجدد الذين أفرزتهم ثورة الـ19 من ديسمبر/كانون الأول، تلك التي أطاحت بنظام عمر البشير، في أبريل/نيسان 2019، لتحقيق أطماعها التوسعية في منطقة الشرق الأوسط.
كان قائد قوات الدعم السريع الفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي)، نائب رئيس المجلس العسكري الانتقالي بالسودان، ذراع أبناء زايد للحصول على خدمات آلاف المرتزقة من المقاتلين ذوي الكفاءة القتالية العالية، وذلك للقتال إلى جانب قوات التحالف في اليمن أو مليشيات اللواء متقاعد خليفة حفتر في ليبيا.
اختيار حميدتي على وجه التحديد لأداء دور سمسار المرتزقة في السودان لم يكن اختيارًا عشوائيًا، فالرجل قبل أن ينخرط – بمحض الصدفة – في العمل السياسي، تربطه علاقات وثيقة بالمليشيات المسلحة في بلاده، ولعل هذا السبب الرئيسي الذي دفع البشير للاستعانة به قبل أن يشارك هو بنفسه في الإطاحة به.
لا يتوافر إحصاء دقيق عن عدد المرتزقة السودانيين الذين جندهم حميدتي لأبو ظبي، غير أن المؤشرات تذهب إلى أن العدد ربما يصل إلى 3 آلاف مقاتل، وذلك بحسب اتفاق مبرم بين قائد قوات الدعم السريع والسلطات الإماراتية عقب عزل البشير بأيام قليلة، نص على توريد مسلحين لدعم حفتر لتسهيل سيطرته على العاصمة طرابلس.
زيارة مثيرة للجدل
أثارت الزيارة غير المعلنة لحميدتي للإمارات في 10 من يناير/كانون الأول الماضي، التي استغرقت 3 أيام كاملة حزمة من التساؤلات على ألسنة الشارع السوداني المتعطش لمعرفة دوافعها وما دار فيها ولماذا أحيطت بكل هذه السرية حتى إنه لم يعلن عنها إلا مصادفة عن طريق صحيفة محلية بعد عودة القائد السوداني من أبو ظبي دون ذكر تفاصيل عما دار فيها.
الصحفي السوداني بكري الصائغ في مقال له بصحيفة “الركوبة” الإلكترونية السودانية قدم عددًا من التساؤلات المتعلقة بالغموض الذي غلف تلك الزيارة، موجهًا حديثه لحميدتي قائلًا: هل سافرت إلى دولة الإمارات بصفتك عضو مجلس السيادة، والرجل الثاني في الدولة؟ أم بحكم منصبك كقائد قوات الدعم السريع؟ ثم هل هذه الزيارة لها علاقة بالحرب الدائرة في ليبيا، حيث هناك دعم من قوات الدعم “السريع” للجنرال خليفة حفتر الذي تواجه قواته هزائم وضربات متلاحقة هذه الأيام؟”.
ثم انتقل للملف اليمني قائلًا: هل هي زيارة لها علاقة بـ”الكتيبة السودانية” في اليمن؟ من صاحب الدعوة لزيارة الإمارات، الجهات الرسمية في الدولة أم الفلسطيني صاحب السمعة السيئة محمد دحلان؟ وما الهدف منها؟ ولماذا تكتمت على نتائجها؟ ولماذا امتنعت عن التصريح بشأن هذه المهمة الغامضة التي دامت ثلاثة أيام؟ وأخيرًا: لماذا – وتحديدًا – أنت حميدتي من دون باقي الأعضاء في المجلس الوطني، وحمدوك وباقي الوزراء قمت بزيارة أبو ظبي؟”.
واختتم الصحفي السوداني مقاله بالإعراب عن خشيته أن تكون لتلك الزيارة علاقة “بالحرب في ليبيا وإرسال ضباط وجنود من قوات “الدعم السريع” إلى مناطق القتال في ليبيا لمقاتلة القوات التركية التي نزلت أخيرًا في ليبيا لمناصرة حكومة الوفاق الوطني.. فكل شيء جائز في ظل تصرفات حميدتي التي حيرت الدنيا والعالمين”، على حد وصفه.
المرتزقة السودانيون يتلقون تدريبات عسكرية لمدة 3 شهور في منطقة غياثي بالإمارات، ثم بعد ذلك يتم نقلهم إلى المطارات القريبة من مدينتي بنغازي وسرت، وميناء رأس لانوف النفطي، وقاعدة الجفرة الجوية، ومنها إلى ساحات المعارك
أجندة إماراتية إسرائيلية
في الـ24 من يوليو/تموز 2019 أكدت شبكة “الجزيرة” من خلال مصادر خاصة بها تجنيد الإمارات لمئات من المرتزقة السودانيين من القبائل العربية في دارفور، بمساعدة حميدتي، حيث استخدم في نقلهم طائرات عسكرية إماراتية من طراز C17 وC130، من دارفور إلى عصب بإريتريا، وقد استغرقت عملية النقل قرابة شهر كامل.
المصادر ذاتها نقلت طلب أبو ظبي يومي 25 و26 من مايو/أيار 2019 تصريح نقل من الخرطوم إلى الخروبة بليبيا، على أن يكون مسار الرحلة بحسب الوثيقة التي حصلت عليها الشبكة: مطار أبو ظبي – الخرطوم بالسودان – الخروبة بليبيا – القاهرة بمصر مع مبيت ليلة هناك – مطار أبو ظبي.
وعن هويات المرتزقة الذي تم نقلهم فهم ينتمون لحركات وجماعات مسلحة عدة، أبرزها حركة تحرير السودان وحركة العدل والمساواة، بعضهم من الأطفال وصغار السن، وقد تم ترحيلهم إلى معسكرات تابعة لحفتر ومليشاته بقاعدة الجفرة جنوبي ليبيا، تحت إشراف مباشر من الضباط الإماراتيين وبتمويل من الإمارات والسعودية.
وتشير التقديرات إلى أن معظم قوات المرتزقة السودانيين الذين تستعين بهم أبو ظبي والرياض، سواء في اليمن أم ليبيا، تتشكل من مليشيات الجنجويد السابقة المسؤولة عن الإبادة الجماعية في دارفور، حيث يُستَخدمون في الصراع كجنود “مستهلكين” في الخطوط الأمامية.
حضور إسرائيلي فرض نفسه هو الآخر حيال الاتفاق الإماراتي مع حميدتي لنقل مرتزقة لليبيا، حيث أبرمت صفقة بقيمة 6 ملايين دولار بين الشركة الكندية “ديكنز آند مادسون Dickens & Madson” التابعة لضابط الاستخبارات الإسرائيلية السابق آري بن ميناشي، وحميدتي لتسويق المجلس العسكري الانتقالي، وكان من بين بنود تلك الصفقة نقل مرتزقة سودانيين إلى ليبيا للقتال بجوار حفتر من أجل السيطرة على “الهلال النفطي” الإستراتيجي في ليبيا الذي يضم البلدات المرفئية الثلاثة (رأس لانوف وسدرة والبريقة).
ورغم تلك التضحيات التي يقدمها المرتزقة السودانيون، فإن رواتبهم هي الأقل مقارنة بالجنسيات الأخرى، حيت يتقاضى المجند المبتدئ ما يعادل 480 دولارًا شهريًا، بينما يتقاضى مقاتل الجنجويد صاحب الخبرة ما يعادل 530 دولارًا، هذا بخلاف العلاوات الاستثنائية التي يحصل عليها البعض وتتراوح بين 185 إلى 285 دولارًا.
وفي مايو/أيار الماضي نقلت صحيفة “ليبيا أوبزيرفر” عن مصدر مطلع طلب أبو ظبي من قائد قوات الدعم السريع إرسال 1200 مقاتل بشكل عاجل إلى ليبيا، لدعم هجوم خليفة حفتر على طرابلس، ووعد حميدتي بتلبية هذا الطلب رغم المعارضة الداخلية، وذلك بعد تهديدات من الحكومة الإماراتية بقطع المساعدات المالية، بحسب المصدر.
شبكة علاقات متعددة
كان ملف إرسال قوات نظامية سودانية للمشاركة في القتال باليمن ضمن قوات التحالف السعودي أحد أبرز الملفات التي زادت من حدة الاحتقان الشعبي ضد نظام البشير الذي اتهم بـ”بيع جنود بلاده مقابل المال الخليجي” وهي الخطوة التي تم تداركها فيما بعد كأحد مطالب الثورة التي أطاحت بنظام الإنقاذ.
لكن مع تصعيد حميدتي سياسيًا كأحد أبرز أركان نظام ما بعد أبريل/نيسان 2019 تغيرت الأمور، وتحولت الدفة من تجنيد القوات النظامية إلى غير النظامية، والاستعاضة ببعض المرتزقة من الميليشات المسلحة عن الجيش الوطني السوداني، هذا في مقابل تمكين قائد قوات الدعم السريع اقتصاديًا وسياسيًا.
ومع مرور الوقت نجحت أبو ظبي في تدشين شبكة علاقات تجارية وسياسية وأمنية مع المسؤول السوداني بصورة تساعد في تنفيذ أجندة أبناء زايد في إفريقيا، لتتحول الدولة الخليجية إلى كلمة السر الكبرى في صعود القيادي المغمور وبروز نفوذه، سواء على المستوى السياسي عبر سياسة الاحتواء والدعم أم على المستوى الاقتصادي من خلال فتح نوافذ لاستيراد الذهب المهرب من بلاده.
“نون بوست” في تقرير سابق له نقل عن الناشط السوداني عبد الخالق سعد، قوله إن توجهات حميدتي الرامية إلى توسيع نفوذه عبر الارتماء في أحضان الإماراتيين، تكشفت بصورة كبيرة بعد الإطاحة بالبشير، لافتًا إلى أن تخصيص دبي لتصدير الذهب لها لم يكن اختيارًا عشوائيًا، وما يثار بشأن عدم وجود علاقة بين الجنجويد والقائد العسكري حديث لا ينطلي إلا على السذج على حد قوله.
تدريب بالإمارات ثم التوجه إلى ليبيا
في الـ2 من مايو/أيار 2020 وثقت وكالة “الأناضول” تحركات قوات حفتر لتجنيد مرتزقة من السودان، بتمويل من الإمارات، في حربها ضد الحكومة المعترف بها أمميًا، وذلك بعد أن اقتفت أثرهم بعملية مسح للصور ومطابقتها بخرائط الأقمار الصناعية، وذلك لتجهيزهم قبل المشاركة في القتال.
ووفق المعلومات الواردة فإن المرتزقة السودانيين يتلقون تدريبات عسكرية لمدة 3 شهور في منطقة غياثي (230 كيلومترًا غرب العاصمة الإماراتية أبو ظبي)، ثم بعد ذلك يتم نقلهم إلى المطارات القريبة من مدينتي بنغازي (ألف كيلومتر شرق طرابلس) وسرت (450 كيلومترًا شرق طرابلس) وميناء رأس لانوف النفطي (650 كيلومترًا شرق طرابلس)، وقاعدة الجفرة الجوية، ومنها إلى ساحات المعارك للقتال ضد قوات حكومة الوفاق.
توثيق الوكالة التركية تضمّن مقطع فيديو يشرح خط سير المرتزقة السودانيين تحت عنوان “المرتزقة السودانيون يقاتلون في بنغازي من أجل حفتر”، وقد أظهر ما بين 100 إلى 200 مقاتل سوداني وهم يُقسمون على القتال في صف حفتر ومليشاته، وتم رسم خريطة من منظور علوي، من خلال إخراج تسلسل المباني والأشياء التي تظهر في الفيديو.
ورغم الضباب الذي خيم على الصور الملتقطة لأماكن تجمع المرتزقة، فإنه بالبحث والتدقيق تبين أنها عبارة عن مصفاة نفط أكثر من كونها قاعدةً عسكريةً، غير أنه في وقت لاحق تم التحقق من صور الأقمار الصناعية واحدة تلو الأخرى بعد إعداد قائمة عن جميع مصافي النفط في ليبيا، ليتم تحديد المكان بصورة أكثر دقة في منشأة مصفاة بالقرب من الجفرة الواقعة في المرتبة 51 من القائمة.
وعليه تم التوصل في نهاية فيديو القسم على القتال باسم حفتر، إلى أن تصويره كان من من حقل زلة النفطي 74- ب الواقع في محافظة الجفرة (وسط)، وهي حلقة واحدة في سلسلة طويلة من تجنيد وجلب المرتزقة من السودان وتدريبهم في الإمارات أو في قواعد داخل الأراضي الليبية ذاتها تمهيدًا لمشاركتهم إلى جانب مليشات الجنرال الليبي.. كل هذا بدعم وتمويل إماراتي.