أدار رئيس الحكومة التونسية المكلف هشام المشيشي، ظهره للأحزاب السياسية عملًا بتوصيات الرئيس قيس سعيد الذي أوصله إلى هذا المنصب، حيث اختار الذهاب نحو تشكيل حكومة كفاءات مستقلة، مستبعدًا دور الأحزاب فيها، حتى التي فازت بأغلبية مقاعد البرلمان.
هذا التمشي جعل العديد من التونسيين يدقون ناقوس الخطر على ديمقراطيتهم الوليدة، خاصة وأن الرئيس ما فتئ يعمل على ترذيل عمل الأحزاب السياسية ودفع الناس لسحب ثقتهم منها في سبيل فرض مشروعه الغامض الشبيه -وفق مراقبين- بمشروع زعيم ليبيا الراحل معمر القذافي.
التنكر للأحزاب
المشيشي، برر المضي في تشكيل حكومة كفاءات مستقلة غير متحزبة، باستحالة إيجاد صيغة لتكوين حكومة تجمع الأطراف السياسية في ظل تباين المواقف بين الفرقاء السياسيين وغياب ضمانات لأي استقرار سياسي للحكومة المقبلة، وفقدان المواطن الثقة في قدرة النخب السياسية على تلبية أبسط حاجياته.
رئيس الوزراء التونسي المكلف، قال إن “الاختلاف الكبير بين السياسيين، يحول دون تشكيل حكومة من جميع التيارات، ما يحتم (تشكيل) حكومة كفاءات مستقلة تمامًا، يتميز أعضاؤها بالنزاهة والتناغم”. وأضاف المشيشي، في مؤتمر صحفي أمس: “المشاورات التي تمّت مع الأطراف السياسية، جعلتني أقدّر أن درجة الاختلاف بينهم كبيرة، وهذا لا يمكّن من تكوين حكومة تجمع السياسيين”.
قرار هشام المشيشي اعتماد حكومة مستقلة، لم يكن ليكون لولا إصرار الرئيس قيس سعيد على ذلك، سعيا منه لترذيل العمل الحزبي
أكد المشيشي أن الواجب الوطني والمسؤولية يحتمان عليه تكوين حكومة إنجاز اقتصادي واجتماعي، مستقلة تمامًا وبعيدة عن منطق التجاذبات والخصومات السياسية، وتتوفر في أعضائها شروط النزاهة والنجاعة والجاهزية، تكون أولى أولوياتها المواطن وطلباته، حسب تعبيره.
وكان رئيس البلاد قيس سعيّد، قد كلف وزير الداخلية الحاليّ هشام المشيشي بتشكيل الحكومة، مستبعدًا الأسماء التي اقترحتها الأحزاب الرئيسية، والمشيشي رجل قانون، وشغل منصب المستشار القانوني للرئيس بعد أن كان مسؤولًا في عدة وزارات، وعُين وزيرًا للداخلية في نهاية فبراير/شباط 2020 في حكومة إلياس الفخفاخ الذي قدم استقالته.
معركة غير معلنة مع كل الطبقة السياسية
قرار هشام المشيشي اعتماد حكومة مستقلة، لم يكن ليكون لولا إصرار الرئيس قيس سعيد على ذلك، سعيًا منه لترذيل العمل الحزبي. ويرى الناشط السياسي التونسي سليم الهمامي في حديث لنون بوست أن قيس سعيد طرح منذ صعود نجمه برنامجًا يرذل العمل الحزبي حين قال في تصريح صحفي إبان حملته الانتخابية الانتخابي: “فليرحلوا جميعًا”.
وضوح الرجل كان مبدئيًا، وفق الهمامي، ولعل ضغطه على إلياس الفخفاخ للاستقالة واستثمار أولويته في اقتراح “الشخصية الأقدر” والتي عارض في اختيارها كل مقترحات الأحزاب والكتل البرلمانية، دليل أولي على نية رئيس البلاد الدخول في معركة غير معلنة مع كل الطبقة السياسية.
ويشير محدثنا إلى أن الرئيس يدفع نحو خيارات تصعيدية عدة، من خلال محاولة فرض شخصية غير متحزبة، رغم مقترحات كتل برلمانية معتبرة وإجماعها على أحد اسمين حين تقديم ترشيحاتها، فكان ذلك بمثابة إعلان عداء مضمر.
اختيار المشيشي، وفق الناشط التونسي، كان متلازمًا مع فرض تمش يقصي الأحزاب ومشاركتها في حكومته، وهو ما أعلم عنه المكلف وكأن بأعماله وتنسيقه مع الرئيس وبطانته يتم في “الغرف المظلمة.” مضيفًا: “ما انتهجه قيس سعيد وبطانته منذ تمرير استقالة الفخفاخ المشكوك فيها نهج صدامي مع أغلب الطبقة السياسية معولين في ذلك على خوف البعض من حل مجلس النواب واجتنابهم إعادة الانتخابات التشريعية، نظرًا لأفول نجمهم وتقهقر سمعتهم”.
بدوره أكد الباحث التونسي عامر الحاجي أن قيس سعيد أقام خطابه منذ البداية على نقيض من المنظومة الحزبية حيث وضح وبين في أكثر من مرة أنه لا يؤمن بها كأداة للفعل السياسي، وأنه يسعى للقضاء عليها.
ويرى عامر الحاجي في حديثه لنون بوست أن الأحزاب هي من سرعت النسق وساعدت الرئيس عن وعي أو دونه في إنجاز مشروعه السياسي بسرعة وسلاسة، فهي من قامت بترحيل العملية السياسية وأساسًا تشكيل الحكومة إلى قرطاج.
وتتمثل كيفية مساعدة الأحزاب للرئيس في تنفيذ برنامجه في لفشلها في إدارة العملية السياسية وتواصل الأزمة داخل مجلس نواب الشعب، مما جعله أقرب إلى حلبة الصراع منه إلى مؤسسة سياسية سيادية وطنية، والصورة السيئة التي روجت للعمل البرلماني داخل تونس وخارجها.
معارضة منظومة الحكم
لم يدخل سعيد في معركة غير معلنة مع كل الطبقة السياسية فقط بل مع منظومة الحكم ككل، حيث سبق أن قال في وقت سابق إنه لا يملك برنامجًا، كما قال إنه معارض لكامل المنظومة القائمة بأحزابها ونظامها السياسي ونظامها الانتخابي.
التفاجؤ من الخطوات التي اتخذها قيس سعيد، وفق الباحث السياسي سعيد عطية مردود على أصحابه، ويرجع عطية الأمر إلى وجود خطأ كبير في قراءة شخصية الرئيس، فالبعض ظن أنه سيقع تطويع الرئيس سعيد وترويضه لكن هذا لم يكن ممكن لأننا إزاء رئيس من خارج الملعب السياسي الكلاسيكي ولا يملكون ملفات ضده، وفق قوله.
تمشي قيس سعيد اعتبره العديد من التونسيين بمثابة الضرب المباشر للديمقراطية التونسية الناشئة
يؤكد محدثنا أن الرئيس يستغل أحسن استغلال فشل حركة النهضة في تشكيل الحكومة في المرة الأولى طيلة شهرين وإسقاط حكومة الفخفاخ من طرف مكوناتها الحزبية لينقض على الفرصة ويأتي بوزير أول يفرض عليه تشكيل حكومة دون أحزاب وفاء لبرنامجه وإمعانًا في إذلال الأحزاب السياسية حتى التي ساندته مساندة مطلقة.
ضرب الديمقراطية
تمشي قيس سعيد اعتبره العديد من التونسيين بمثابة الضرب المباشر للديمقراطية التونسية الناشئة، في هذا الشأن يقول عامر الحاجي، برنامج الرئيس معلوم الملامح وهو غير ديمقراطي، هدفه نسف للساحة السياسية وتقويض تام للانتقال الديمقراطي الذي تعرفه البلاد منذ يناير 2011، وما تبقى من ملامح الثورة.
ويعتقد الحاجي أن رؤية الرئيس تقوم على أربع مراحل، أولها ترذيل الأحزاب والجمعيات وأغلب الفاعلين السياسيين وإثبات فشلهم بل وخطرهم على الدولة، ومن ثم تغيير النظام السياسي، أو حل البرلمان وتعليق العمل الدستور والذهاب للعمل بالمناشير، وصولًا إلى إنهاء منظومة الأحزاب (بالقانون)، والسيطرة على الحياة السياسية.
تكرار لتجربة القذافي
هذا التمشي، شبيه جدًا بما اعتمده الزعيم الليبي معمر القذافي في انقلاب 1969، وفق عامر الحاجي، فيما يقول سليم الهمامي إن سعيد يراهن أمام غياب المحكمة الدستورية على المضي قدمًا في تركيز اللبنة الأولى لمشروع مجهول قاد ليبيا إلى أتون الحرب الأهلية وتفكيك أسس ومقومات الدولة.
بدورها ترى، الناشطة الجمعياتية التونسية منى العابدي أن الرئيس قيس سعيد يستغل الوضع الذي تمر به البلاد، حتى يكون قذافي جديد، فالمتتبع لعمل قيس سعيد قبل الانتخابات وبعدها يدرك أن هذا الشخص لا تهمه البلاد بقدر ما تهمه الأنا الأعلى، وفق قولها.
من مظاهر التشابه بين سعيد والقذافي رفض الاثنان الانتماء للأحزاب، فسعيد يقول “عشت مستقلًا وسأبقى مستقلًا وسأوارى الثرى مستقلًا لوحدي”، فضلًا عن الاشتراك في موضوع توزيع السلطة، فسعيد يطرح فكرة إعطاء دور محوري للمناطق أو الجهات وإعادة توزيع السلطة على المناطق المحلية وهذا عبر تعديل الدستور، وانتخاب مجالس جهوية وهذه الأخيرة تعين بدورها “ممثلين لها” من أجل أن تصل إرادة الشعب للسلطة المركزية، أي أننا أماما نظام جماهيري.