منذ عقود وحزب العمال الكردستاني التركي المعارض يشكل هاجسًا أمنيًا واقتصاديًا لتركيا التي تأسس فيها، فقد تأسس الحزب في سبعينيات القرن الماضي ثم تحول للعمل المسلح، وما لبث أن صار له تأثير كبير في عدة دول إقليمية كالعراق وسوريا.
“نون بوست” يفتح ملف الحزب في سلسلة مقالات يسلط فيها الضوء على نشأة الحزب وانتشاره وتأثيره في المنطقة عمومًا والعراق خصوصًا حتى الآن.
نشأة الحزب
في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 1978 تأسس الحزب بشكل سري على يد مجموعة من الطلاب الماركسيين غير المؤثرين في الساحة السياسية الكردية، وكان من بين المؤسسين عبد الله أوجلان الذي اختير لاحقًا رئيسًا للحزب.
يتبنى الحزب التوجه الماركسي اللينيني، ومن أهدافه الجوهرية التي أعلنها في بداية تأسيسه إقامة دولة كردستان الكبرى المستقلة، وتعد اليسارية التوجه الفكري للحزب الذي يعتمد في تمويله على مصادره الخاصة، فضلًا عن أنه مدرج على قائمة المنظمات الإرهابية في الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد الأوروبي وتركيا.
مع اعتقال مؤسس الحزب عام 1999 تحول خطاب الحزب وحوّل أهدافه المعلنة إلى تكوين كونفيدرالية تركية، إذ دعا أوجلان من داخل سجنه في غير ذي مرة إلى وقف إطلاق النار، إلا أن جميع الهدن بين الحزب والحكومة التركية لم تلبث طويلًا.
العمل العسكري
منذ عام 1984 بدأ الحزب نشاطه العسكري، واتخذ مقاتلوه من كردستان العراق منطقة تحمي قواعدهم الخلفية من خلال انتشارهم في السلاسل الجبلية التي تشكل حدودًا برية طبيعية بين العراق وتركيا، فضلًا عن صعوبتها الجغرافية التي ساعدت الحزب في التواري عن أنظار الجيش التركي خلال العمليات العسكرية التي شهدتها العقود الماضية.
لم يكن لحزب العمال الكردستاني التركي المعارض دور عسكري كبير في العراق قبل حرب الخليج الثانية عام 1991، إذ كشف هذا التاريخ عن وضوح القضية الكردية على الساحة الدولية بسبب ثورة الكرد في شمال العراق، ورد الفعل العنيف من جانب النظام العراقي عليها إبان حكم الرئيس العراقي الراحل صدام حسين والتدخل الدولي والإقليمي في العراق وإصدار مجلس الأمن قراره رقم (688) الذي أوجد ما يعرف بالمنطقة الآمنة التي حيَّد فيها مجلس الأمن الدولي قدرة العراق على استعمال الأجواء العراقية في المناطق الشمالية بما فيها إقليم كردستان العراق.
في صيف عام 1991 نقل حزب العمال الكردستاني نشاطه إلى الأراضي العراقية، إذ اتخذ مناطق شمال العراق قاعدة انطلاق لشن عمليات عسكرية ضد الجيش التركي.
ومع معرفة تركيا بمدى تغلغل حزب العمال الكردستاني في مناطق شمال العراق وبعد هجمات دامية نفذها الحزب، شنت تركيا عملية عسكرية واسعة ضد مقاتلي الحزب استمرت شهرين كاملين، إذ امتدت إلى داخل الأرضي العراقية بعمق وصل إلى 40 كيلومترًا عام 1995 وبقوة يصل عدد مقاتليها إلى 35 ألف جندي، مستهدفة القواعد الثلاثة الكبرى لحزب العمال الكردستاني وتخلل العملية آنذاك شن عشرات الغارات الجوية والقصف المدفعي.
علاقة الأكراد العراقيين بتركيا والعمال الكردستاني
مشكلات كبيرة واجهت الأكراد العراقيين بعد عام 1991، إذ يقول الباحث السياسي أحمد العبيدي في حديثه لـ”نون بوست”، إن “الأكراد بعد حرب الخليج الثانية عام 1991 عانوا من ثلاث مشكلات رئيسية تتمثل بالحصار الدولي على العراق وحصار الحكومة العراقية لمناطق الأكراد، فضلًا عن وجود حزب العمال الكردستاني في مناطق إقليم كردستان وشنه لهجمات ضد الجيش التركي ما كان يؤدي في حينها إلى رد تركي عسكري”.
ويضيف العبيدي أن الزعماء الأكراد العراقيين لم يجدوا مخرجًا من وضعهم القائم آنذاك إلا بالتعاون والحوار مع تركيا بغية تخفيف الضغوط السياسية والعسكرية والاقتصادية على مدن الإقليم.
بدأت الاتصالات المباشرة بين أنقرة والقيادات الكردية العراقية منذ مارس/آذار 1991، كما بدأت الاجتماعات بين المسؤولين الأتراك من وزارتي الخارجية والاستخبارات التركيتين من جهة وزعيم حزب الاتحاد الوطني الكردستاني جلال الطالباني وممثل عن الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود بارزاني من جهة ثانية، وأعلنت تركيا عن هذه الاجتماعات وعن حصولها على تعهدات من الزعيمين الكرديين بقطع الدعم عن حزب العمال الكردستاني، وذلك مقابل تقديم الدعم والمساعدة في إقامة علاقات سياسية مباشرة مع الزعيمين الكرديين العراقيين.
وبموجب التفاهمات، زار كل من جلال الطالباني ومسعود البارزاني العاصمة التركية أنقرة في سبتمبر/أيلول 1992، إذ التقى الزعيمان الرئيس التركي حينها توركت أوزال وحصلا على جوازي سفر دبلوماسيين للانتقال في المحيطين الإقليمي والدولي.
كما حصل جلال الطالباني خلال هذا اللقاء على مساعدة مالية تركية مع ضمان عدم مشاركة القوات الكردية (البيشمركة) في القتال المندلع بين الجيش التركي ومقاتلي حزب العمال الكردستاني، وبالفعل، ساندت قوات البيشمركة الكردية الجيش التركي خلال المعارك مع حزب العمال الكردستاني من خلال الدعم اللوجيستي، وبذلك عُدَّت فترة التسعينيات نقطة تحول في العلاقة بين الأكراد العراقيين وتركيا إلى تحالف أمر واقع.
اتفاقية الحكومة العراقية مع الأتراك
في ثمانينيات القرن الماضي وخلال الحرب العراقية الإيرانية، سمحت حكومة بغداد عام 1985 للقوات التركية وفق اتفاق ثنائي بالدخول إلى الأراضي العراقية من أجل مطاردة حزب العمال الكردستاني الذي يتخذ من مناطق شمال العراق والسلاسل الجبلية قاعدة خلفية لشن عملياته.
يقول الصحفي رغيد الحيالي في حديثه لـ”نون بوست”: “الدخول التركي المتكرر للأراضي العراقية لا يزال يعتمد على الاتفاقية التي وقعها العراق عام 1985 مع تركيا، إذ تعتقد تركيا أن هذه الاتفاقية التي لم تقم بإلغائها الحكومات العراقية المتعاقبة تشكل سندًا قانونيًا يتيح للجيش التركي الاستمرار بعملياته العسكرية في الجانب العراقي”.
ويضيف الحيالي “تركيا كانت قد استخدمت هذه الاتفاقية ولا تزال”، مشيرًا إلى أن النظام العراقي الذي أعقب الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 لم يقدم بديلًا أو حلًا لمشكلة وجود العمال الكردستاني في شمال البلاد لعدم قدرته على مواجهة الحزب الذي توسّع انتشاره بشكل كبير داخل الأراضي العراقية، وبالتالي ترى تركيا أن من حقها الدفاع عن أراضيها ضد التهديد القادم من الجنوب.