“ببساطة.. فلسطين ليست قضيتي” لخصت هذه التغريدة، التي كتبها الأكاديمي السعودي تركي الحمد على حسابه الرسمي في موقع “تويتر”، حجم ومكانة القضية الفلسطينية لدى أجندة بلاده الخارجية، وهو الموقف ذاته، إن لم يكن أعمق بكثير، بالنسبة إلى الإمارات التي قررت التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي رسميًا بعد سنوات من التقارب الناعم.
لم يختلف الموقفان، الإماراتي والسعودي، كثيرًا عن توجه الدول العربية التي تحولت القضية الفلسطينية لديها من قضية العرب المركزية إلى إحدى القضايا الهامشية التي باتت تسبب صداعًا في رأسها وتعرقل مطامع حكامها في البقاء أطول فترة ممكنة على كرسي السلطة.
ببساطة..فلسطين ليست قضيتي..
— تركي الحمد T. Hamad (@TurkiHAlhamad1) August 18, 2020
شهدت القضية الفلسطينية على مدار العقود السبع الأخيرة تحولًا في الموقف العربي، فمن شعار “محو إسرائيل من الخارطة” بعد هزيمة الجيش العربى في 1948، واكتظاظ ميادين العواصم العربية بالمظاهرات المؤيدة للنضال الفلسطيني، إلى مقترح “ضم دولة الاحتلال إلى الجامعة العربية”، ومحاولات التضييق على الفلسطيني أينما حل وارتحل، تلقت القضية عشرات الطعنات في الظهر، أودت بها إلى ما آلت إليه الآن.
التدهور الواضح في الموقف العربي تجاه القضية ساعد المحتل الإسرائيلي خلال الآونة الأخيرة في استقطاب العديد من الأنظمة العربية وتحييد أخرى، ما عبّد له الطريق لتكريس هيمنته داخل الأراضي الفلسطينية، من قتل وتنكيل واستيطان، دون أي رد فعل عربي ولو من باب حفظ ماء الوجه.
وعد بلفور .. إرهاصات الاهتمام
يعود الاهتمام العربي بالقضية الفلسطينية إلى بدايات القرن العشرين، قبيل صدور “وعد بلفور” عام 1917، حيث باتت الشغل الشاغل للعرب من المحيط للخليج، فقد شهدت تلك الفترة ظهور العديد من التحركات العربية الجماعية والفردية لنصرة الشعب الفلسطيني، حيث شارك المئات من الشباب العربي المتطوع في الثورة العربية الفلسطينية عام 1936، فضلًا عن الدعم الذي قدم لهم من حكومات الدول العربية في هذا الوقت.
ورغم فشل الثورة الفلسطينية التي استمرت قرابة 3 سنوات، فإنها كانت إيذانًا رسميًا بمكانة القضية الفلسطينية لدى العرب جميعًا، حتى إن شهدت الساحة وقتها بعض الخذلان من ملوك السعودية والعراق والأردن واليمن الذين استجابوا للضغوط البريطانية من أجل إثناء الثوار عن حراكهم ووقف القتال واللجوء إلى التفاوض، وهو ما أدى في النهاية إلى وضع اللبنة الأولى في مشروع تقسيم فلسطين إلى دولة فلسطينية ويهودية عبر لجنة “بيل” البريطانية.
ومع إعلان بريطانيا إنهاء انتدابها على فلسطين، وقيام دولة “إسرائيل” المحتلة فوق أراضي الفلسطينيين في 15 من مايو/آيار 1948، كان العرب على قلب رجل واحد، حيث بادرت الدول العربية تحت مظلة جامعة الدول باتخاذ العديد من القرارات الحاسمة لوقف العربدة الإسرائيلية والحيلولة دون تفاقم الأوضاع.
ومن رحم حالة الزخم تلك خرجت قرارات المقاطعة الكاملة لـ”إسرائيل” في المجالات كافة، ومقاطعة كذلك كل الدول التي تتعاون معها في الأنشطة المختلفة، كما تم إبرام معاهدة الدفاع العربي المشترك والتعاون الاقتصادي بين دول الجامعة العربية في أبريل/نيسان 1950، التي جاءت في الأصل نتيجة للوضع الفلسطيني وتطوراته.
النكسة وتعميق الجراح
جاءت نكسة الـ5 من يونيو/حزيران 1967 لتعمق الوجع العربي حيال الاحتلال الصهيوني، فالأمر لم يعد حكرًا على الدولة الفلسطينية فحسب، إذ نجح الاحتلال في توسيع دائرة الخصومة المباشرة مع بعض الدول العربية الأخرى على رأسهم مصر وسوريا والأردن.
كان لتلك الحرب آثارها السلبية على المشهد العربي، حيث خيم جو من الإحباط واليأس، وتنحى الرئيس المصري جمال عبد الناصر (عاد بعدها للحكم) واستقالت الحكومة الأردنية، فيما أعلنت أغلب التنظيمات ومنها “شباب الثأر” و”أبطال العودة” و”جبهة التحرير الفلسطينية” توحيد جهودها ضمن “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين”.
وعلى مستوى التحرك العربي، تم الدعوة لعقد قمة طارئة في العاصمة السودانية الخرطوم، عرفت باسم “قمة اللاءات الثلاثة” كان هدفها “إيجاد إطار وفاق وعمل موحد يمكن أن يكون مقبولًا لدى جميع البلدان العربية” وشعارها “محو إسرائيل من على الخارطة”.
وقد خلصت تلك القمة إلى عدد من القرارات أبرزها: عدم تزويد الدول العربية بالنفط للدول الداعمة لـ”إسرائيل”، وإنشاء صندوق تموله الدول العربية الغنية وعلى رأسها السعودية وليبيا لمساعدة الدول العربية التي تأثر اقتصادها وبنيتها التحتية نتيجة الحرب، بجانب توحيد الجهود العربية لوقف التغول الإسرائيلي والعمل على استعادة الأراضي المحتلة.
انتصار أكتوبر واللحمة العربية
يستمر الزخم العربي في مواجهة الانتهاكات الإسرائيلية، ليسطر الفلسطينيون واحدة من أنصع صحف المقاومة بياضًا، وذلك خلال حرب أكتوبر/تشرين الأول عام 1973، حيث قدمت المقاومة الفلسطينية أروع المثل في النضال والوقوف إلى جوار الدول العربية.
آمن الفلسطينيون أن القضية واحدة، فالأراضي المحتلة في سيناء أو الجولان لا تقل أهمية لديهم عن تلك المحتلة في غزة والضفة، وعليه حين أرادت مصر الحرب ضد الاحتلال كانت الدولة الفلسطينية على رأس الأيادي القوية التي ساعدت المصريين في ملحمتهم الخالدة، رغم التجاهل الإعلامي أحيانًا، وهو ما كان يؤكده الزعيم الراحل ياسر عرفات الذي كان يردد دائمًا أن الحرب لم تكن على جبهتين فقط (مصر وسوريا)، بل ثلاث، حيث كانت الجبهة الثالثة هي الجبهة الفلسطينية من جنوب لبنان، وهو ما أقره الإسرائيليون بعد ذلك.
“منذر الدجاني” سفير فلسطين الأسبق في القاهرة، في ذكرياته عن حرب أكتوبر، كشف الدور الفلسطيني في تلك الحرب، موضحًا أن عرفات دعاه إلى مقابلته يوم 22 من سبتمبر/أيلول 1973، بمقر إقامته ببيروت بحضور عدد من قيادات فتح حينها، وأبلغه بأنه تم الاتفاق مع الرئيسين أنور السادات وحافظ الأسد على خطة للقيام بعمليات حرب ضد “إسرائيل” عبر الجبهتين المصرية والسورية.
وعقب الاجتماع تم تكليفه بالتوجه إلى القاهرة والتنسيق مع الجانب المصري لبحث طبيعة الدور الفلسطيني في تلك الحرب، لافتًا إلى أن ما يقرب من 3 آلاف مقاتل فلسطيني كانوا على أهبة الاستعداد للمشاركة في تلك المعركة إلى جانب القوات المصرية والسورية، لكن نتيجة لظروف ما لم تتمكن تلك القوات من الذهاب للجبهة المصرية فحولت دفتها إلى الجنوب اللبناني لتدشين جبهة ثالثة ضد المحتل.
حرصت المقاومة خلال فترة الحرب على تشتيت انتباه العدو، عبر العديد من العلميات العسكرية ضده، تلك التي أرهقته وحالت دون تركيزه في معركته ضد القاهرة، وتشير الإحصاءات إلى أن المقاومة الفلسطينية خلال الفترة من 6 إلى 25 من أكتوبر/تشرين الأول 1973، نفذت 39 عملية في قطاع غزة و14 عملية في الضفة، وقرابة 45 عملية داخل الأراضي المحتلة، أبرزها مهاجمة حافلة عسكري تقل طيارين متجهين إلى القواعد العسكرية، وتدمير أجزاء من مصنع “بورخوف” للقنابل اليدوية، ومصنع “لاهوف” الخاص بصناعة الأسلحة الخفيفة.
أول طعنة في خاصرة الأمة
بعد هذا الحضور القومي المناصر للقضية الأكثر حضورًا على الأجندة العربية، تتلقى القضية الفلسطينية أولى طعناتها مع توقيع اتفاقية كامب ديفيد، بين القاهرة وتل أبيب عام 1979، بعد رحلة مفاوضات استمرت عدة سنوات، منذ نهاية حرب الـ6 من أكتوبر وحتى التوقيع بين السادات وبيغن.
الاتفاقية جاءت بمثابة الصدمة للتيار العروبي، كونها ضربةً مؤلمةً في خاصرة الأمة، انتقصت من زخم القضية الفلسطينية كثيرًا، وهو ما اعتبره الإسرائيليون انتصارًا مؤزرًا رغم هزيمتهم العسكرية في الحرب التي شاركت فيها العديد من التيارات العربية على اعتبار أن مواجهة دولة الاحتلال فرض عين على الجميع.
العزوف الأحادي المصري قوبل بحملة مقاطعة عربية غير مسبوقة، أعادت القضية الفلسطينية إلى مكانتها رغم ما اعتراها من شروخات، فُعلقت عضوية مصر في الجامعة العربية، وتم نقل مقر الجامعة من القاهرة إلى تونس، فيما أقدمت العديد من الدول على المقاطعة الاقتصادية الكاملة مع المصريين.
وظل الدعم العربي لحق الفلسطينيين في الحصول على كامل أرضهم هو الحقيقة الأكثر وضوحًا في رابعة النهار، فيما سارعت العديد من الدول لمؤازة السلطة الفلسطينية في معركتها التاريخية ضد الاحتلال، متهمين القاهرة في هذا الوقت بخيانة القضية والتخلي عنها لصالح مصالحها الشخصية، وهو ما نفاه السادات أكثر من مرة.
الزخم يتراجع
بدأت الأمور تنحدر شيئًا فشيئًا، من رفض أي خطوة للتقارب مع الكيان الإسرائيلي إلى تمييع القضية عبر سياسة المواءمات المبررة للانخراط العربي في قطار التطبيع، وزحزحة القضية الفلسطينية رويدًا رويدًا عن موقعها المتقدم في أجندة أولويات الدول العربية.
وجاء عام 1991 ليعيد تموضع القضية العربية في خريطة الاهتمامات الإقليمية، وذلك في أعقاب مؤتمر مدريد الذي عقدته الولايات المتحدة بمشاركة خمس دول عربية: مصر وسوريا والأردن ولبنان وفلسطين، وكان الهدف منه حث البلدان العربية على التطبيع مع تل أبيب عبر اتفاقيات سلام.
ويعد هذا المؤتمر نقطة تحول محورية في مسار القضية الفلسطينية عربيًا، خاصة بعد تسريب بعض البنود السرية التي كان من المقترح أن تتضمنها الاتفاقيات المزمع إبرامها مع “إسرائيل” وجاء على رأسها منع إقامة دولة فلسطينية بين الأردن و”إسرائيل”، في مقابل الاعتراف بالوصاية الهاشمية على مقدسات القدس الشريف.
اتفاقية أوسلو
العديد من ملامح التغيير انتابت الخطاب العربي تجاه “إسرائيل” في أعقاب مؤتمر مدريد، حتى جاءت اتفاقية “أوسلو” عام 1993، وهو الاتفاق الذي كتب شهادة الوفاة الرسمية للصراع المسلح في سبيل القضية الفلسطينية، الذي وصفه مدير الاستخبارات الإسرائيلي شلومو غازيت بأنه استعمار “ديلوكس” أو “فاخر“.
ورغم أن هذا الاتفاق لم يشمل كل الفصائل الفلسطينية، بل كان قرارًا منفردًا من قائد جبهة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات، الذي أصبح رئيسًا للسلطة الفلسطينية فيما بعد بموجب ما تم توقيعه، فإنه كان نقطة ضعف كبيرة أفقدت القضية الكثير من ثوابتها.
وفي الخطاب الذي بعثه عرفات لإسحاق رابين رئيس الوزراء الإسرائيلي وقتها، جاء فيه: “تعترف منظمة التحرير بحق دولة إسرائيل في العيش في سلام وأمن جديد”، الأمر لم يقتصر على الاعتراف بدولة الاحتلال وحقها في العيش بسلام وأمن وفقط، بل تم حذف كل البنود التي تدعو للمقاومة من الميثاق الوطني لجبهة التحرير.. كل هذا جاء بدعم وتأييد من بعض الدول العربية التي دفعت عرفات للإقدام على هذه الخطوة بدعوى السلام.
شهدت تلك الفترة منذ تلك الاتفاقية وحتى نهاية التسعينيات طفرة كبيرة في التطبيع مع الكيان المحتل، تعددت صوره وأشكاله، ما بين تطبيع اقتصادي وثقافي وأمني، فضلًا عن التطبيع السياسي وإن كان خلف الأبواب المغلقة، فسارعت كل من قطر وتونس والمغرب وموريتانيا وعُمان لإبرام اتفاقيات مع تل أبيب.
سمح هذا الوضع للطرف الإسرائيلي بتوسعة دائرة استيطانه وتهويده للقدس ومناطق عدة في الضفة، فضلًا عن التحكم بمسارات المعابر والحدود بحرًا وبرًا وجوًا.
ومع كل خطوة عربية نحو التقارب مع “إسرائيل” كانت القضية الفلسطينية تتلقى طعنة جديدة تفقدها تأثيرها ومصادر قوتها، حتى وصلت الأمور إلى المرحلة الحرجة التي تحياها القضية هذه الأيام، التي تعد الحلقة الأضعف في سلسلة الصراع العربي الإسرائيلي، وذلك حين نجحت تل أبيب بدعم أمريكي في استقطاب العديد من القوى العربية المحيطة لتمرير ما سمي بـ”صفقة القرن” لإجهاض القضية الفلسطينية ووأدها بصورة كاملة.
صفقة القرن وهرولة التطبيع
وصل الانحدار العروبي لقضية فلسطين مداه حين تبنت بعض العواصم العربية مهمة الترويج لمبادرة السلام الأمريكية التي تحمل في حقيقتها تصفية القضية برمتها، فرغم الانتهاكات التاريخية التي ارتكبتها إدارة الرئيس دونالد ترامب بحق العرب عامة والفلسطينين خاصة حين اعترفت بالقدس عاصمة للكيان المحتل، ونقلت سفارتها هناك، فإن أحدًا لم يحرك ساكنًا، على عكس المتوقع.
وبينما كان الشارع العربي يغلي جراء حالة الصمت والخذلان جاءت بعض الأنظمة العربية لتؤكد تخليها تمامًا عن القضية، وذلك حين حملت لواء الدفاع عن الصفقة والترويج لها، حتى حين قدمت مصر مشروع قرار في مجلس الأمن لرفض الصفقة – حفظًا لماء الوجه – تعمدت إغفال إدانة واشنطن.
ورغم أن الحلقة الأخيرة من مسلسل الخذلان حيال هذا المشروع الاستعماري الجديد لم تكتب بعد، فإن ما تسرب منه يشير إلى مباركة أربع دول عربية مؤكدة له (مصر والسعودية والإمارات وسوريا)، فيما يتحفظ عليها الأردن، وإن كان لا يرفضها، هذا بخلاف دول أخرى لم يكشف الستار عنها بعد.
ثم جاءت الهرولة العربية نحو التطبيع مع “إسرائيل” لتفضح الشعارات المزيفة التي طالما رفعتها تلك الدول المنسوبة للمنطقة العربية بشأن دفاعها عن القضية الفلسطينية والتمسك بها كقضية العرب الأولى، فجاء الاتفاق المزمع بين أبو ظبي وتل أبيب، وما يثار بشأن خطوة مماثلة مع دول أخرى كالسعودية والبحرين وسلطنة عمان والسودان واليمن.
وخلال السنوات الماضية تخلت الجامعة العربية عن دورها بصورة شبه كاملة، بعد تخليها عن استقلالية قرارها لصالح قوى عربية ما عادت ترى في القضية الفلسطينية القضية الأم، فباتت كالجسد المهلهل لا حياة فيه، واكتفت – من باب حفظ ماء الوجه – بتبني خطاب سياسي وإعلامي مكرر تجاه التعامل مع تفاصيل الملف الفلسطيني، لا يقدم ولا يؤخر وليس له أي تأثير يذكر.
حتى بعد أن استبشر الشارع العربي خيرًا بثورات الربيع العربي وإمكانية أن تضخ الحياة للدماء المتجمدة في عروق النخوة حيال القضية الأم، جيشت العديد من الأنظمة العربية جيوشها المالية والسياسية لوأدها عبر موجة ثورة مضادة جابت دول الربيع فأجهضتها تمامًا، وهو ما تدين بفضله تل أبيب وكشفته بعد توقيع الاتفاق مع الإمارات.
خذلان تعرض له الفلسطينيون من أشقائهم العرب (الأنظمة والحكومات في المقام الأول) لم يتعرضوا لمثله من الدول الأجنبية الأخرى، التي انبرى بعضها دفاعًا عن القضية ودعمًا للشعب في الحصول على حقوقه التاريخية، في الوقت الذي يطالب فيه البعض بضم “إسرائيل” للجامعة العربية وتغيير اسمها إلى “جامعة الدول الشرق أوسطية” كما جاء على لسان قائد شرطة دبي السابق، ضاحي خلفان، المقرب من ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد الذي بات هو الآخر على مشارف زيارة تل أبيب إثر دعوة وجهها له الرئيس الإسرائيلي مؤخرًا.