تعتبر مناطق “سيبيريا” الواقعة في الجزء الشمالي الشرقي لروسيا، ملتقى الشعوب، حيث تعيش فيها عدة مجموعات بشرية صغيرة وقديمة، منها شعب تشوكشي الذي لم تؤثر فيه حياة التطور حتى الآن، وما زال أفراده يعيشون حياة بدائية.
في هذا التقرير الجديد لـ”نون بوست”، ضمن ملف “حكاية شعوب”، نلقي الضوء معًا على شعب تشوكشي التقليدي الذي يمتهن الرعي وصيد الرنة والثدييات على طول سواحل المحيط المتجمد الشمالي وبحر تشوكشي وبحر بيرينغ، الذي فشل الروس في إبادتهم رغم محاولاتهم العديدة.
أقرب الشعوب الآسيوية إلى الأمريكيين
تعيش قبائل تشوكشي في شبه جزيرة تشوكشي وسواحل بحر تشوكشي في روسيا، على أطراف سيبيريا، وهم أقرب الشعوب الآسيوية للشعوب الأصلية في الأمريكتين وفق ما أثبتته العديد من التقارير والتحاليل الجينينة، حيث كانوا مرتبطين بشكل أساسي بالهنود الحمر، عندما كان هناك اتصال بالأرض، قبل الصدع الذي يُعرف اليوم بمضيق بيرنغ.
يقيم غالبية شعب تشوكشي داخل أوكروغ ذات الحكم الذاتي في تشوكوتكا – وهم أحد السكان الأصليين للمنطقة -، لكن البعض يقيم أيضًا في جمهورية سخا المجاورة في الغرب (إحدى الكيانات الفيدرالية في روسيا)، وماغادان أوبلاست إلى الجنوب الغربي، وكورياك أوكروج المتمتعة بالحكم الذاتي في الجنوب.
يطلق على شعب تشوكشي “أفضل الناجين”، وذلك لنجاحهم في الحفاظ على أرضهم وثقافتهم رغم جميع محاولات الاتحاد السوفيتي القضاء عليهم
إلى جانب ذلك، يقيم بعض أهالي تشوكشي في أجزاء أخرى من روسيا الغربية (موسكو وسانت بطرسبرغ)، وكذلك في دول أوروبية عدة وأمريكا الشمالية، ويبلغ عددهم إجمالًا قرابة 16 ألف فرد، ويعود تاريخ أقدم السجلات المكتوبة للتشوكشي إلى عام 1755 عندما ذكرهم تقرير السفر بواسطة أحد المستكشفين الروس.
ينتمي شعب تشوكشي من الناحية الأنثروبولوجية إلى عرق شمال آسيا، فهم أشخاص قصيرون ذوو بشرة داكنة وبنية ممتلئة الجسم، وجوههم عريضة ومسطحة للغاية وعظام الخد بارزة والعينان الداكنتان الضيقتان لها سمة منغولية واضحة، أما الشعر فهو داكن ومستقيم وصلب، وليس لديهم نمو لحية.
كما يُوصف شعب تشوكشي بأنه أكثر شعوب شمال شرق آسيا قوةً، وغالبًا ما يكون غير عقلاني عند الغضب، حيث يميل أفراده إلى إظهار أسنانهم، وحتى شد شعرهم مثل الأطفال الغاضبين، ويؤمنون إيمانًا قويًا بالثأر ويقاومون جميع أشكال السلطة المفروضة عليهم.
مقاومة الروس
يطلق على شعب تشوكشي “أفضل الناجين”، وذلك لنجاحهم في الحفاظ على أرضهم وثقافتهم رغم جميع محاولات الاتحاد السوفيتي القضاء عليهم وإبادتهم في مرات كثيرة، ذلك أنهم من الشعوب القوية التي لا يمكن ترويضها ولا يمكن غزوها بالكامل.
عمل الروس منذ قرون عدة على السيطرة على المنطقة التي يقطنها تشوكشي، لكنهم فشلوا في ذلك، بدأت حملات الروس بداية القرن السابع عشر، حيث أطلقوا سلسلة من الحملات العسكرية القوية ضد شعب تشوكشي، خلالها دافع الشعب عن نفسه بشجاعة، حتى إن الأسرى منهم قتلوا بعضهم بعض مفضلين الموت على العبودية.
بحلول ثلاثينيات القرن الثامن عشر، تم احتلال الأرض، لكن ليس الشعب، وبدأ الروس في بناء القلاع منها قلعة “أنادير” لتثبيت سلطتهم هناك، لكن المقاومة تواصلت رغم المجهودات الروسية الكبرى للقضاء عليها.
علمت الحكومة الروسية أن تكلفة التخلص من شعب تشوكشي ستكون مرتفعة للغاية من حيث المال والقوات، نتيجة ذلك اعتقد الروس أن من الأفضل لهم إبرام معاهدة سلام مع شعب تشوكشي وتم التخلي عن الجمع القسري للجزية، حتى يتمكنوا من التجارة معهم بسلام.
بعد ذلك، بدأت السلطات الروسية تدريجيًا في فرض اندماج هذه المنطقة بالدولة الروسية، وقد مرت المسألة بمراحل وتحولات مختلفة حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن، حيث أجبروا على الدخول في مجموعات اقتصادية خاضعة لإشراف الدولة.
تشوكشي “الرنة” و”البحري”
ينقسم شعب تشوكشي تقليديًا إلى مجموعتين قبليتين منفصلتين: استقرت الأولى – ويطلق عليهم رجال البحر – في الشمال على الساحل والأخرى اختارت التجول مع قطعانهم بشكل بدوي ويطلق على المنتسبين لها “رجال الرنة”.
استقر شعب “تشوكشي البحري” في مساكنهم التقليدية في قرى ثابتة على الساحل، فكانت منازلهم تُقام عادة تحت الأرض، وعاشوا أساسًا من صيد الثدييات البحرية في القطب الشمالي، وخاصة الفظ والفقمة والحيتان وصيد الأسماك، كما يتم اصطياد الدببة القطبية.
ويعتبر صيد الحيتان موسميًا اعتمادًا على هجراتهم، فيما يتم اصطياد الحيوانات الأخرى طوال العام على الساحل وعلى الجليد البحري وفي البحر المفتوح، وتستخدم القوارب الجلدية والحراب والرماح والشباك للصيد.
يسافر “تشوكشي البحري” في قوارب، وقد كانت الوحدة الاجتماعية والاقتصادية الأساسية بينهم تتمثل في هذه القوارب، فهي مشتركة بين أفراد العائلة وحتى الجيران في بعض الأحيان، لذلك كانت هذه القوارب عبارة عن رابط قوي بين العائلات غير المرتبطة.
أما “تشوكشي الرنة”، فقد كانوا من البدو الرحل الذين يعيشون في الخيام، حيث يميلون إلى التجول مع قطعانهم بشكل بدوي، ويغيرون مكان إقامتهم وفقًا للتغيير الموسمي في المراعي، ويعتمدون في النقل على الزلاجات التي تجرها حيوانات الرنة أو الكلاب التي يتم تسخيرها في أزواج.
يتمتع شعب تشوكشي بتاريخ غني من التقاليد الفولكلورية والطقوسية التي استطاعوا المحافظة عليها رغم محاولات الروس طمسها
تتلخص حياة هذه المجموعة في “الرنة”، حيث كانت قطعان الرنة تزودهم بوسائل النقل والحليب واللحوم للطعام والجلود للملابس والمأوى، كما أن الأهالي يهاجرون موسميًا مع قطعانهم من الرنة، وتتم الهجرات الصيفية سيرًا على الأقدام، وفي الشتاء بواسطة زلاجات الرنة.
تتطلب ممارسات رعي الرنة اهتمامًا كاملًا وأسلوب حياة متكامل، فبعض الرحلات تستمر نحو تسعة أشهر، حيث يقطع الأهالي رحلة بطول 200 ميل من أجل الهروب من الحشرات التي تصيب القطيع بالمرض.
طقوس وعادات كثيرة
مِثل العديد من القبائل الأصلية في سيبيريا، يتمتع شعب تشوكشي بتاريخ غني من التقاليد الفولكلورية والطقوسية التي استطاعوا المحافظة عليها رغم محاولات الروس طمسها، فمن عاداتهم مثلًا أن تخرج المرأة عندما تكون حاملًا، كل يوم بمجرد استيقاظها للنظر إلى شروق الشمس وتدور حول مسكنها في اتجاه حركة الشمس، وعندما يحين وقت الولادة لا يمكن للرجال الدخول إلى غرفة النوم حيث تلد، حيث يُعتقد أن الحظ السيئ قد يرافقهم.
كما في الولادة، في الوفاة أيضًا طقوس عدة، حيث يتم وضع المتوفى في غرفة النوم ويتم مراقبته لمدة يوم أو نحو ذلك في حالة عودته إلى الحياة، وفي هذا الوقت، يُحظر ضرب الطبول أو إصدار أصوات صاخبة أخرى، وبعد اكتمال الوقت، يتم تغسيل الجثة وتلبيسها ملابس جديدة، ثم يتم أخذها في التندرا للتخلص منها عن طريق حرقها.
إلى جانب ذلك، يتضمن فولكلور تشوكشي أساطير عن خلق الأرض والقمر والشمس والنجوم ومعارك الشعب القديمة، وحكايات عديدة عن الحيوانات وقصص عن الأرواح الشريرة المسؤولة عن الأمراض وغيرها من المصائب، وقصص عن الشامان (كهنة القبائل) مع قوى خارقة.
تقول إحدى الحكايات الشعبية لشعب تشوكشي، إن العديد من الأهالي سافروا في المحيط وفجأة حدث تسرب في قاربهم، فبدأ مالك القارب في وقف التسرب بمساعدة أرواح الأعشاب البحرية، ومع اقترابهم من الأرض، يقول المالك لأرواح الأعشاب البحرية أن تغادر.
من أهم الحفلات التقليدية لدى هذا الشعب القطبي، المهرجانات التي يتم فيها تقديم التضحيات للأرواح التي يعتمد عليها تشوكشي من أجل بقائهم، وتتم هذه التضحيات في الخريف من أجل رعي الرنة وفي أثناء الصيف من أجل صيد السمك والثدييات.