العديد من الشعوب الأصلية المنتشرة في أنحاء متفرقة من العالم، ما زالت تعاني في بلدانها من انتهاكات وأخطار كبيرة تهدّد حياة أفرادها ونمط حياتهم، من ذلك قومية الأبورجيين التي تقطن صحارٍ بشمال غربي أستراليا.
في هذا التقرير الجديد لنون بوست، وهو الأخير ضمن ملف “حكايا شعوب”، سنحط الرحال في أستراليا، للحديث عن الأبورجيون، وهم سكان البلاد الأصليين ومعاناتهم المتواصلة لكسب حقوقهم والاعتراف بهويتهم في أرضهم، كما سنتحدث عن خصائصهم الثقافية والدينية.
سكان الصحاري
عندما اكتشف الأوروبيون أستراليا، لم تكن البلاد خالية من السكان، بل كان يوجد بها سكانها الأصليون وهم الأبورجيون، بدائيون جدًا من أهل البشرة الداكنة، حفاة عراة حياتهم تشبه حياة البشر بالعصر الحجري تمامًا.
الأبورجيون هم إحدى المجموعتين المتميزتين للشعوب الأصلية في أستراليا، أما المجموعة الأخرى فهي الشعوب التي تسكن جزر مضيق توريس، ويطلق على الأبورجيون أيضًا مصطلح الشعب الأصلي والجزري، والأمم الأسترالية الأولى، وأيضا الشعوب الأسترالية الأولى، وكذلك الأستراليون الأولون.
ظلت صحاري شمال غربي أستراليا لأكثر من 50 ألف سنة، الوطن الأول للأبورجيين الذين استغلوا هذه الأرض القاحلة للمحافظة على واحدة من أقدم الحضارات والثقافات في العالم، لكن ما زال تاريخ وصول هؤلاء إلى القارة والجزر المجاورة محل جدل بين الباحثين.
على الرغم من أنهم بدو، كان لديهم شعور قوي جدًا بالارتباط بالمواقع والمناطق في أرضهم الأصلية
يُعتقد عمومًا أن السكان الأصليين الأستراليين جاءوا في الأصل من آسيا عبر جنوب شرق آسيا (ماليزيا وسنغافورة وبروناي وتيمور الشرقية وإندونيسيا والفلبين) وكانوا في أستراليا لمدة 45.000-50.000 سنة على الأقل، فيما يقول بعض العلماء إن البشر الأوائل وصلوا في وقت أقرب بكثير، ربما في وقت مبكر من 65000 إلى 80000 سنة.
وتقول بعض الدراسات التاريخية إن هؤلاء المهاجرين الأوائل أنفسهم الذين قدموا إلى أستراليا عبر البحر خرجوا من إفريقيا منذ نحو 70000 عام، مما يجعل السكان الأصليين الأستراليين أقدم السكان الذين يعيشون خارج إفريقيا.
تكيّف الأبورجيون بنجاح مع مجموعة كبيرة من الظروف البيئية والمناخية، من الغابات المطيرة المعتدلة والاستوائية إلى الصحاري القاحلة للغاية في أستراليا، إلى المناطق النهرية والساحلية الخصبة، حيث استغلوا القارة بأكملها.
لم يكن لدى السكان الأصليين رؤساء أو مؤسسات مركزية للرقابة الاجتماعية أو السياسية، فقد أظهرت مجتمعات هؤلاء اتجاهات هرمية ومساواة، حيث سادت روح المساواة بين جميع الفئات والأجناس، حتى لا تعم التفرقة ويتواصل نسلهم.
كان معظم السكان الأصليين ثنائيي اللغة أو متعددي اللغات، فقد تحدثوا بأكثر من 200 لغة مختلفة، فضلًا عن مئات اللهجات، وقد كانت اللغة المحدد للانتماء للمجموعة فلم يكن هناك وعي بهوية وطنية مشتركة.
الاعتماد على البيئة الطبيعية بناء على “الحلم”
وفقًا لكتب التاريخ والدراسات، كان السكان الأصليون من الصيادين والجامعين لثمار الأشجار المنتشرة هناك، فهم لم يزرعوا أي محاصيل ولم يربوا الحيوانات باستثناء كلب الدنغو، لذلك كانوا يعتمدون بشكل مباشر على بيئتهم الطبيعية.
على الرغم من أنهم بدو، كان لديهم شعور قوي جدًا بالارتباط بالمواقع والمناطق في أرضهم الأصلية، حيث كانوا يعملون على تحقيق التوازن بين السكان والموارد، حتى لا يتضرر أحدهما لا الطبيعة ولا هم.
يقوم التراث الشفوي الأسترالي الأصلي والقيم الدينية عندهم على تعظيم الأرض والإيمان بهذا “الحلم”، و”الحلم” هو مفهوم معقد وشامل يجسد الماضي والحاضر والمستقبل بالإضافة إلى كل جانب من جوانب الحياة تقريبًا.
يشمل العصر الإبداعي في فجر التاريخ، عندما شكلت الكائنات الأسطورية الأرض وسكنتها بالنباتات والحيوانات والبشر وتركوا وراءهم قواعد الحياة الاجتماعية، بعد موتهم الجسدي وتحولهم إلى أجسام سماوية أو أرضية، انسحبت الكائنات الخلاقة غير القابلة للتدمير من الأرض إلى العالم الروحي.
يعتقد السكان الأصليون أن الكائنات التي تحلم بالسيطرة على كل القوة والخصوبة، ستطلقها تلقائيًا في عالم الإنسان طالما اتبع البشر مخططهم وشمل ذلك أداء الطقوس بانتظام لضمان استمرار تدفق القوة الواهبة للحياة، وقد تم استخدام الكائنات الروحية كرسل للتواصل مع الأحياء وإدخال معرفة جديدة في المجتمع البشري.
كان لدى السكان الأصليين إحساس قوي بالذات وثقة دينية في قدرتهم على التعامل مع عالمهم المادي والاجتماعي والتحكم به، فمن خلال الأحلام والحالات الأخرى للوعي المتغير، يمكن أن يتلامس الحي مع العالم الروحي ويكتسب القوة منه.
وعادة ما ينظّم الأبورجيون، خاصة الذكور البالغين – الأوصياء الرئيسيين على مواقع المجموعة وأشيائها المقدسة – طقوسًا روحية لتجديد الأرض والحفاظ عليها، حتى يحافظوا على استمرار النسل، فالبيئة الطبيعية هي ما يمنحهم الحياة.
اضطهاد متواصل
يمتلك نحو 3% من سكان أستراليا تراثًا من السكان الأصليين، ويكافح هؤلاء للاحتفاظ بثقافتهم القديمة والنضال من أجل الاعتراف بهم ورد الحقوق من الحكومة الأسترالية، ويعيش بعض الأحفاد في أراضي الأسلاف في 270 محمية نائية، لكن السلطات تهدد بإغلاق هذه المحميات.
يعتبر الأبورجيون إلى الآن، السلطات الأسترالية قوة احتلال، فهم لم يعقدوا يومًا أي معاهدة مع البريطانيين المستعمرين ولم يتنازلوا حتى يومنا هذا عن سيادتهم، ومع مرور قرنين على الاستعمار واستبعاد الأبورجيين طوال هذا الزمن المديد، بات هؤلاء يبحثون عن حقوقهم في الدولة التي أجبروا على العيش تحت سيادتها وعن الاعتراف بهم، لا سيما في الدستور.
سلب المستعمرون الأوائل أرض السكان الأصليون، وحاولوا القضاء على ثقافتهم وحضارتهم، فبمجرد أن وطئت أقدام الأوروبيين أرض أستراليا باشروا بإقامة المستعمرات والاستيلاء على الأراضي الخصبة وزحفوا على كل شيء وأحرقوا الغابات وعمدوا إلى إجلاء الأبورجيين عن أراضيهم قسرًا.
لعبت الشرطة الأسترالية دورًا كبيرًا في إجبار الناس على ترك أراضيهم، حيث شاركت في إخراج أعداد ضخمة من أطفال السكان الأصليين من منازلهم
هذه الانتهاكات تواصلت إلى الآن، وبينما يشكل الأستراليون الأصليون 3% من السكان، فإنهم يمثلون أكثر من ربع السجناء البالغين، كما أنّ أكثر من نصف الأطفال المحكوم عليهم في أستراليا من السكان الأصليين، وتفيد بعض الدراسات أن الصبي المراهق من السكان الأصليين يذهب إلى السجن أكثر من الذهاب إلى الجامعة.
ليس هذا فقط، فقد سجلت سجون أستراليا ومراكز الاعتقال موت العديد من السكان الأصليين فيها، وفي سنة 1987، وجدت لجنة الدفاع عن حقوق السود أن أحد السكان الأصليين يموت في الحجز كل 11 يومًا، ورغم العديد من التحقيقات في هذه القضية لا يوجد إلى الآن سجل واضح في هذا الشأن.
في العقود الثلاث الماضية، مات أكثر من 400 من السكان الأصليين في الحجز، سواء كانوا محتجزين في السجون أم رهن الاعتقال من الشرطة – رغم النتائج والتوصيات الصادرة عن تحقيق وطني في عام 1991، وتوفي العديد في ظروف مريبة، بعضها بسبب الإهمال أو نقص المساعدة الطبية، ولم تتم إدانة أي شخص في أي من تلك الوفيات.
الأجيال المسروقة
لعبت الشرطة الأسترالية دورًا كبيرًا في إجبار الناس على ترك أراضيهم، وحتى سبعينيات القرن الماضي، شاركت الشرطة في إخراج أعداد ضخمة من أطفال السكان الأصليين من منازلهم، لتتبناهم أسر بيضاء أو وضعهم في مؤسسات حكومية.
الإبعاد القسري لأطفال السكان الأصليين عن أسرهم، جاء نتيجة لسياسات الاستيعاب الحكومية المختلفة التي فرضت دونية السود وتفوق البيض، وقد كان الهدف من هذه السياسات السماح للسكان الأصليين “بالموت” من خلال عملية الإقصاء الطبيعي أو الاندماج في المجتمع الأبيض.
تُعرف أجيال الأطفال الذين تم ترحيلهم من منازلهم وعائلاتهم باسم “الأجيال المسروقة” ولا يزال إرث الصدمة والخسارة يطارد العديد من عائلات السكان الأصليين حتى اليوم، وهو ما يذكرهم بإرث الاستعمار البشع.
على هامش السياسة
في مايو 2019، تم اختيار النائب المحافظ البالغ من العمر 67 عامًا كين وايت ليكون وزير أستراليا لشؤون السكان الأصلية، وهو أول شخص من السكان الأصليين يتولى هذا المنصب، وبالتالي أول أسترالي أصلي يجلس في مجلس الوزراء.
يذكر أنه في عام 2010، أصبح وايت أول رجل من السكان الأصليين يتم انتخابه لمجلس النواب، وفاز بمقعد في غرب أستراليا، وقد أصبح فيما بعد وزيرًا لرعاية المسنين وصحة السكان الأصليين، وهو منصب وزاري خارجي، ما يعني أنه لم يكن عضوًا في مجلس الوزراء.
يؤكّد هذا الأمر أن سكان البلاد الأصليين ظلوا عن عمد على هامش السياسة لفترة طويلة، حتى إنهم لم يحصلوا حتى عام 1962 على حق التصويت في الانتخابات الفيدرالية، ويوجد عدد قليل جدًا منهم في البرلمان الفيدرالي.
في سنة 2017، رفض رئيس الوزراء آنذاك مالكولم تورنبول اقتراحًا بإنشاء هيئة تمثيلية لسكان أستراليا الأصليين في البرلمان – تُعرف باسم “صوت البرلمان” – بحجة أنه لن يكون عمليًا، ولا تزال الحكومة تعارض الفكرة إلى الآن.
ليس هذا فقط، بل يعاني سكان البلاد الأصليون من مستويات غير متكافئة من عدم المساواة في العديد من التدابير، بما في ذلك الصحة (ما يحد من أمل الحياة لدى أبناء الأبورجيين) ومعدلات التوظيف والتعليم، وتظل أستراليا الدولة الوحيدة ضمن مجموعة “الكومنولث” التي لم تبرم أبدًا معاهدة مع شعوبها الأصلية.