بالكاد مضت بضع ساعات على التصريحات العنصرية للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون التي هاجم فيها الإسلام وطالب بفرض الرقابة على دور العبادة والمراكز الإسلامية في بلاده على خلفية مقتل معلم فرنسي على يد رجل شيشاني في باريس، حتى توالت الحملات التي تستهدف الجالية المسلمة في فرنسا.
وزير الداخلية الفرنسي جيرالد درمانان انضم هو الآخر لقائمة أصحاب التصريحات المثيرة للجدل حين أعرب عن استيائه من وجود “منتجات حلال” في متاجر بلاده قائلًا: “لا ينبغي أن يكون لها أقسام بمتاجر فرنسا”، ليثير بتلك التصريحات حفيظة المسلمين، ليس في فرنسا وحدها بل في مختلف دول أوروبا.
هجمة ممنهجة يقودها ماكرون وحكومته ضد كل ما يمت للإسلام بصلة، تعكس بعيدًا عن الأبعاد السياسية والدعائية لها، حقد هذا الرجل على الدين الحنيف والمنتمين له، لا سيما أن تاريخه منذ قدومه الإليزيه يوثق هذا التوجه العنصري ويعززه يومًا تلو الآخر، ضاربًا بالشعارات التي رفعها خلال حملته الانتخابية بشأن المواطنة عرض الحائط.
التعرض للمنتجات الحلال من باب النكاية بالمسلمين خطوة محفوفة المخاطر، تحمل بين ثناياها تهديدات اقتصادية للدولة التي تعاني من أوضاع معيشية متردية دفعت الآلاف من الشعب إلى الخروج على مدار العامين الماضيين في تظاهرات منددة بالحكومة وسياساتها فيما عرفت بـ”السترات الصفراء”.
ماكرون الذي يسابق الزمن لتعويض شعبيته المنقوصة عبر مغازلة اليمين المتطرف في الداخل والخارج من خلال استهداف المسلمين من الواضح أنه لا ينظر إلا تحت أقدامه فقط، متجاهلًا التداعيات الاقتصادية لهذا التوجه العنصري، فهل يقود الرئيس صاحب التصريحات الجدلية بلاده نحو مزيد من التأزم من خلال فقدان سوق التجارة الحلال؟
يذكر أن الضغوط والمداهمات التي تستهدف منظمات المجتمع المدني الإسلامية بفرنسا زادت بصورة كبيرة خلال الأيام الأخيرة على خلفية قيام شيشاني من أصل روسي بقتل مدرس فرنسي عرض رسوم كاريكاتورية “مسيئة” للنبي محمد، على تلاميذه في مدرسة بإحدى ضواحي العاصمة باريس، وهي الحادثة التي أثارت الكثير من الجدل داخل الشارع الفرنسي وخارجه، فيما وصفها ماكرون بـ”الإرهاب الإسلامي”.
5.5 مليار دولار سوق الحلال في فرنسا
بداية فإن مصطلح “حلال” ورغم ما يحمله من بعد ديني في صياغته، ويقصد به الطعام المُباح أو المسموح بتناوله في الإسلام، وفقًا لضوابط شرعية معروفة، فإنه في الوقت نفسه يشكل أحد المحركات الأساسية للتجارة الدولية، وتشير التقديرات إلى أن هذا السوق في العالم يبلغ نحو 1.5 تريليون دولار.
ويعد اقتصاد اللحم الحلال على وجه الخصوص في فرنسا هو الأكبر في أوروبا، إذ يبلغ بحسب التقديرات 5.5 مليار يورو فيما ينمو بوتيرة متسارعة تبلغ 7.5% سنويًا، الأمر الذي يجعل من هذا المنتج سوقًا مغريةً للكثير من المستثمرين، مسلمين وغير مسلمين.
في إحدى الدراسات التي أجراها المركز الإسلامي لتنمية التجارة التابع لمنظمة التعاون الإسلامي قبل أعوام كشفت أن 80% من إمكانات قطاع الأغذية الحلال تستفيد منها شركات تابعة لدول غير مسلمة، فيما تتصدر تركيا قائمة الدول الإسلامية بنسبة 20%، وتعد من أكبر الموردين لتلك المنتجات لمعظم الدول الأوروبية، أي أن الأمر لا يتعلق بالعوائد الاقتصادية على الشركات المسلمة فحسب كما يردد البعض.
وفرنسا هي الدولة الأوروبية الأكثر استهلاكًا لكميات اللحم الحلال، هذا بخلاف المنتجات الأخرى التي تنضوي تحت هذا المسمى كالحلويات والبيتزا ومواد التجميل وغيرها، فيما تظل طريقة الذبح الإشكالية الكبرى في الشارع الأوروبي، لا سيما بعد الانتقادات التي توجهها جمعيات الرفق بالحيوان، ما دفع حكومة مثل الحكومة البلجيكية بحظر الذبح على الطريقة الإسلامية، كذلك اليهودية.
انعكاسات سلبية من المتوقع أن يشهدها هذا السوق الكبير في فرنسا بعد تصريحات ماكرون العنصرية ضد الإسلام والمسلمين، الأمر الذي ربما يدفع الكثير من زبائن تلك البضائع وتجارها إلى إعادة النظر في البقاء داخل السوق الفرنسي
قبلة اللحوم الحلال أوروبيًا
ساهم أعداد المسلمين في فرنسا الذين تتراوح أعدادهم بين 5-6 مليون مسلم فيما يتحدث اليمين المتطرف عن عشرة ملايين، في انتشار هذا السوق الحلال، الذي حول البلاد إلى قبلة مسلمي أوروبا الباحثين عن هذه النوعية من المنتجات لا سيما من مواطني الدول التي تفرض قيودًا عليها.
وتتميز تلك المنتجات في فرنسا برخص ثمنها مقارنة بنظيراتها في بقية دول القارة العجوز، ما يجعلها هدفًا لمعظم مسلمي أوروبا، فيما ذهب البعض إلى أن انتشار أماكن بيع المنتجات الحلال في مختلف المدن الفرنسية، لا سيما اللحوم، سببًا رئيسيًا وراء انتشارها الكثيف وتزايد معدلات أرباحها.
أحمد شحاتة، مصري الأصل هولندي الجنسية، يقول إنه يسافر من أمستردام إلى باريس كل شهر على الأقل لإحضار لحوم الشهر بأكمله، لافتًا إلى أنه رغم توافر هذه اللحوم في هولندا، فإنها في فرنسا ربما تكون أرخص نسبيًا، هذا بجانب توافر المنتجات الأخرى.
وأضاف الهولندي المسلم في حديث لـ”نون بوست” أنه وعائلته بجانب الكثير من العائلات الهولندية وبعض أصدقائه من ألمانيا وبريطانيا يذهبون لشراء اللحوم الحلال الفرنسية، موضحًا أن هناك بعض الشركات المسلمة تجلب تلك اللحوم وتذبحها، وعلى رأسها الشركات التركية، وهو ما يمثل لهم مصدر ثقة مقارنة بالشركات الأوروبية الأخرى.
ويعد شهر رمضان والأعياد مواسم سنوية لازدهار هذه التجارة، حيث يتسابق المسلمون هناك على اقتناء اللحوم المذبوحة على الطريقة الحلال، حسبما أشار شحاتة الذي أوضح أن الإقبال على هذه النوعية من المنتجات ليس حكرًا على المسلمين فقط، فهناك الكثير من أبناء الديانات الأخرى يميلون لهذه اللحوم لما وجدوا فيها من طعم جيد وفائدة كبيرة.
مسألة جدلية
كان تقديم اللحم الحلال لطلبة المدارس من المسلمين مسألة جدلية في الشارع الفرنسي على مدار الأشهر الماضية، حيث انقسم الشارع بين مؤيد ومعارض، فيما وقف الكثيرون على الحياد مطالبين بتوفير كل الوجبات وعلى الطالب أن يختار وفق ما يتلاءم مع رغباته.
اليمين المتطرف في فرنسا ينظر لتقديم الوجبات الحلال على أنها شهادة وفاة لوجبات “لحم الخنزير” الإجبارية التي تقدم للطلاب في المدارس، التي يراها أنصار هذا التيار أحد مظاهر الهوية الثقافية الفرنسية، يتساوى في ذلك المسلمون واليهود فيما يتعلق باللحم الحلال المقدم لهم.
وكانت نتيجة لهذا الجدل أن قرر عمدة مدينة بيوكير (جنوب) جوليان سانشيز، وهو المحسوب على اليمين المتطرف، حظر تقديم وجبات بديلة لوجبة لحم الخنزير في المدارس العامة، مبررًا ذلك بـ”إن قراري يعني تحقيق الفوز للجمهورية، أن في فرنسا الأولوية للجمهورية، وليس للدين”.
الموقف ذاته تبناه عمدة ضاحية كولومبوس الباريسية، نيكولا جوتيه، الذي شن حملة ضد الشركات المروجة للطعام الحلال، مشددًا على ضرورة عدم وجود كيانات مستقلة تروج لتلك المنتجات فقط، وفي هذا السياق أغلق أحد المحال التجارية الصغيرة “بقالة” بسبب امتناع صاحبها عن تقديم الخمور وبيع منتجات الخنازير.
تأتي التصريحات الأخيرة لوزير الداخلية بشأن اللحوم الحلال لتزيد النار على الزيت المسكوب، كونها تحمل ضمنيًا “بطاقة حمراء” لهذا النوع من التجارة.
عنصرية ماكرون
انعكاسات سلبية من المتوقع أن يشهدها هذا السوق الكبير في فرنسا بعد تصريحات ماكرون العنصرية ضد الإسلام والمسلمين، الأمر الذي ربما يدفع الكثير من زبائن تلك البضائع وتجارها إلى إعادة النظر في البقاء داخل السوق الفرنسي والبحث عن سوق آخر خارج البلاد أكثر أمنًا وحريةً.
الهجمة الشرسة التي يشنها ماركون وحكومته ضد الجالية المسلمة في أعقاب مقتل المدرس وما قبلها طيلة السنوات الثلاثة الماضية، التي تكللت بتعرض سيدتين محجبتين للطعن قرب برج إيفل في العاصمة الفرنسية باريس، أول أمس الثلاثاء 20 من أكتوبر/تشرين الأول، سيكون له تداعيات سلبية على مستقبل المسلمين في البلاد.
وتأتي التصريحات الأخيرة لوزير الداخلية بشأن اللحوم الحلال لتزيد النار على الزيت المسكوب، كونها تحمل ضمنيًا “بطاقة حمراء” لهذا النوع من التجارة، وذلك رغم ما تحققه من إنعاش للاقتصاد الفرنسي المهلهل، وهو ما يؤكد البعد السياسي في الأزمة مهما كان الثمن.
كثير من الزبائن المعتادين للتبضع من الأسواق الفرنسية يفكرون في تغيير وجهتهم، فها هو أحمد مصطفى (يعمل محفظًا للقرآن في بلجيكا) يرى أنه بات من الضروري التوجه إلى أسواق أخرى تبيع المنتجات الحلال، لافتًا إلى أن تصريحات ماكرون ومواقفه العدائية ضد المسلمين سيكون تأثيرها سلبيًا جدًا على البلاد.
مصطفى في حديثه لـ”نون بوست” يشير إلى أن هناك الكثير من الشركات تبيع اللحم الحلال في معظم دول أوروبا كهولندا ونيوزيلندا وبريطانيا، وبعضها يسيطر عليه شركات تركية وسعودية، موثوق في منتجاتها، وعليه ربما يحول الكثير من المسلمين وأصحاب تلك الشركات دفتهم ناحية تلك البلدان، فيما أشبه بمقاطعة اقتصادية لفرنسا بسبب مواقف رئيسها العنصري.
وفي الأخير فإن ماكرون منذ وصوله إلى قصر الإليزيه وشغله الأول التطاول على الإسلام عبر تصريحات ناعمة يفهم من ظاهرها انتقاد التطرف فيما تبطن بداخلها محاربة للهوية الإسلامية، تلك المواقف العنترية التي يبديها الرئيس منزوع الدسم الجماهيري تهدف بحسب مراقبين للتغطية على إخفاقاته الداخلية والخارجية، على المستويين السياسي والاقتصادي والأمني، حتى لو كلف ذلك الاقتصاد الفرنسي مليارات الدولارات في سبيل استعادة كرامته التي أهدرها أصحاب السترات الصفراء في شوارع فرنسا طيلة العامين الماضيين.