ربما انتهت كبرى المعارك في سوريا بعد سنوات من ضراوة الأحداث واضطرام نار الاشتباكات بين نظام بشار الأسد وقوات المعارضة، لكن هدوء المواجهات العسكرية لا يبدو أنه سيوقف المعارك الجانبية وهي الحلقة الأخطر في سلسلة مضاعفات الحرب وتبعاتها بين الأطراف كافة، حيث تبرز الآن في عموم سوريا عمليات الاغتيال المستمرة بين الأطراف المتعددة.
لم تقتصر الاغتيالات على مناطق محددة كما أنها لم تتخذ شكلًا محددًا أو آلية معينة، إنما كانت على امتداد البلاد باختلاف نسب التوزيع والأرقام. وأثارت هذه الاغتيالات الجدل بين أوساط السوريين، إذ إنها ترافقت مع أوضاع اقتصادية سيئة وعقوبات قاسية طالت رؤوس النظام، كما طرحت هذه الاغتيالات العديد من التساؤلات عن التوقيت والفاعلين ودلالاتها.
لم تستهدف هذه الاغتيالات ذوي الرتب العسكرية فقط، إنما شملت الشخصيات القيادية ذات النفوذ خارج إطار المؤسسة العسكرية، وهو ما حصل من استهداف أعضاء أساسيين في لجنة “المصالحة الوطنية” التابعة للنظام السوري، ليثار الجدل بعد هذا الاغتيال.
اغتيال الأفيوني
في آخر فصول الاغتيالات، قتل مفتي دمشق الشيخ عدنان الأفيوني إثر تفجير سيارته بعبوة ناسفة في العاصمة السورية دمشق، ويعتبر الأفيوني من الحلقة المشيخية المقربة من دائرة الحكم في نظام بشار الأسد، كما أنه لعب دورًا محوريًا في إدارة ملف ما يعرف بـ”المصالحات” بين المدن المنتفضة ضد النظام وقوات النظام، فيما كان عرابًا لتنفيذ الكثير من عمليات التهجير التي ترافق “المصالحات”.
كلف نظام الأسد الشيخ الأفيوني إدارة “مركز الشام لمواجهة التطرف” وهو الذي يصفه الباحث السوري محمد خير موسى بأنه المركز “الذي كان له دورٌ أساسي في صياغة الخطاب الدعوي المتبني رواية النظام فيما يتعلق بمواجهة الثورة الشعبية والمسلحة على حد سواء”، بيد أن اغتيال الأفيوني أثار الجدل على الساحة السورية، خاصة أن هذه العملية حصلت بعد ساعات من مرسوم تشريعي يفيد بإلغاء هيئة المصالحة الوطنية التي كان الأفيوني عضوًا فيها.
خيارات كثيرة تداولها السوريون عن المسؤول عن مقتل الأفيوني، بين قائل إن تصفيته تمت على يد النظام وآخر يقول إن إيران من قتلته، ويميل طرف ثالث إلى أن الخلايا المعارضة للنظام والمنتشرة بالمناطق التي تمت فيها المصالحات هي من أنهى حياته، وكل تحليل قابل للصحة أو الخطأ، إلا أن المؤكد أن من قتل الأفيوني هو “المصالحة التي ظن أنها ستحوله يومًا إلى مفتي الجمهورية عوضًا عن أحمد حسون الذي تدل المؤشرات أن بقاءه في الإفتاء لن يدوم طويلًا” وفقًا لوصف محمد خير موسى.
اغتيالات متبادلة
في دمشق أيضًا، يبدو أن مسلسل اغتيال القادة العسكريين ما زالت حلقاته مستمرة، يذكر أن الشهور الأخيرة شهدت عدة عمليات راح ضحيتها العشرات من عناصر النظام وضباطه، وكان شهر يونيو/حزيران قد شهد إعلان مقتل ضباط ذوي رتب رفيعةن منها مقتل 5 برتبة عميد و2 برتبة عقيد، وهذه العمليات تمت خلال يومين، وتنوعت أماكن الاغتيال، إذ إن بعضهم تمت تصفيته في مكتبه والآخر أمام بيته، وينتمي كل هؤلاء الضباط إلى قوات الفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد شقيق رئيس النظام السوري.
وفي جنوب البلاد وتحديدًا في محافظة درعا، ازدادت عمليات الاغتيال بين الأطراف كافة، حيث شهد شهر سبتمبر/أيلول الماضي أكثر من 30 حالة اغتيال من قوات النظام السوري بينهم عناصر بالفرقة الرابعة، فيما شهدت المحافظة أكثر من 30 عملية اغتيال في شهر أغسطس/آب الماضي، لتكون المحافظة الخاضعة لاتفاق مصالحة هي الأبرز في عمليات الاغتيال والتصفية.
هذه الاغتيالات وغيرها الكثير، يصفها محللون بأنها “غامضة”، خاصة أنها شملت ضباطًا كبارًا لهم يد طولى في المجازر التي حصلت خلال السنوات الماضية في سوريا، كما هو الحال مع العميد فضل الدين علي ميكائيل، أحد ضباط الأسد المشاركين بالمجازر في حماة وإدلب، ففي الوقت الذي قالت فيه حسابات موالية للنظام إنه توفي نتيجة المرض قالت حسابات المعارضة إنه قتل بظروف غامضة.
إلى ذلك، لم تقتصر عمليات التصفية على ضباط النظام، فقد شملت أيضًا قادة لهم وزنهم في المعارضة المسلحة، ومنهم أدهم الكراد أحد أهم القيادات في جنوبي سوريا، حيث اغتيل بعد انفجار استهدف سيارته على طريق درعا دمشق، وكان برفقة الكراد 4 قياديين آخرين، يذكر أن الكراد كان -يوم اغتياله- يمضي يومه في العاصمة دمشق للمطالبة بجثامين المقاتلين الذين لقوا حتفهم في معركة الكتيبة المهجورة في ريف درعا قبل سنوات.
من جهته حمّل الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، نظام الأسد و”حزب الله” مسؤولية اغتيال الكراد، وقال الائتلاف: “الكراد ورفاقه اضطروا تحت ضغط الظروف لعقد تسويات قسرية بضمانة روسية في محافظة درعا قبل سنتين”، وأضاف البيان “نظام الأسد وأجهزته الأمنية ومليشيات حزب الله الإرهابي، يتحملون المسؤولية المباشرة عن عملية الاغتيال هذه وعن جميع ما سبقها من عمليات”.
يحلل محمد سرميني مدير مركز جسور للدراسات عملية اغتيال الكراد وبهذا الصدد يشير إلى أن “اغتيال أدهم الكراد يضمن لأجهزة أمن النظام التمدد في جنوب سوريا لا سيما درعا البلد وتفكيك تكتل مقاتلي المعارضة السابقين الذين ما زالوا يمتلكون سلاحهم وينتظمون في مظاهرات وأنشطة وتجمعات تقودها خلية الأزمة في درعا وعلى رأسها الكراد”.
أما المسؤول عن اغتيال الكراد فيرى سرميني أن: “لإيران مصلحة كبيرة في التخلص من أدهم الكراد الذي كان ومجموعاته يضغطون بناء على وعود وضمانات روسيا لمنع وإعاقة التجنيد المستمر لتحقيق النفوذ الإيراني جنوب سوريا، أيضًا روسيا لم تعد راضية عن مجاهرة أدهم الكراد بمواقفه وشعاراته المناهضة لنظام الأسد ولممارساته”.
وفي إحصائية لـ”مكتب توثيق الشهداء في درعا”، قال إنه منذ سيطرة قوات النظام على محافظة درعا في 2018 “وثق قسم الجنايات والجرائم في مكتب توثيق الشهداء في درعا 76 عملية ومحاولة اغتيال طالت قياديين سابقين في فصائل المعارضة في محافظة درعا”، ووفقًا للمكتب أدت هذه المحاولات لمقتل 42 قياديًا سابقًا في فصائل المعارضة في عمليات تمت بإطلاق النار المباشر أو تفجير العبوات الناسفة أو الإعدام الميداني بعد الخطف.
إحصاءات
تواصلنا في “نون بوست” مع مركز توثيق الانتهاكات في سوريا للحصول على قائمة ضباط النظام الذين قتلوا اغتيالًا خلال 6 أشهر، وأفادنا المركز بقائمة تحتوي أسماء عشرات ضباط النظام القتلى في الفترة بين اليوم الثاني من شهر أبريل/نيسان حتى بداية شهر أكتوبر/تشرين الأول.
تضم قائمة ضباط النظام المقتولين بشكل مستهدف 120 ضابطًا، من بينهم ضباط برتبة عميد وعقيد، وينتمي هؤلاء الضباط إلى مناطق متعددة من البلاد ومن طوائف مختلفة، كما تنوعت طريقة اغتيالهم أو مقتلهم.
أخذ شهر يوليو/تموز النصيب الأكبر من حالات الاغتيال بحق ضباط جيش الأسد بتعداد 24 حالة اغتيال، منها ما هو بمحيط محافظة إدلب وهي منطقة اشتباك مستمر، وأيضًا في دير الزور وحلب وحماة، كما أن هذه العمليات تمت على يد فصائل المعارضة بالدرجة الأولى أو خلايا تنظيم “داعش”، كما شهد شهر يونيو/حزيران 22 عملية تصفية ومثله شهر مايو/أيار أما في شهر أبريل/نيسان فكانت الإحصاءات تشير إلى مقتل 19 ضابطًا.
أقدم تنظيم “داعش” على تنفيذ 26 حالة اغتيال من المجموع الكلي ما يبين عودة خلاياه للعمل بقوة في بعض المناطق التابعة لمحافظتي حمص ودير الزور، يذكر أن قوات النظام خاضت معركة ضد التنظيم في بادية سوريا سقط خلالها 41 قتيلًا لقوات الأسد، ومنذ تلقيه هزيمة قاضية في 2019، يواصل التنظيم هجماته في مناطق البادية ضد النظام والتنظيمات الكردية، كما نفذ هجومًا في أغسطس/آب قتل خلاله ضابطًا روسيًا وجرح آخرين.
بالمحصلة، فإن هذه الاغتيالات والاستهدافات المتبادلة في البلاد لن تتوقف، فالنظام يسعى للتخلص من بعض ضباطه المتورطين بالمجازر التي حصلت في البلاد الذين يسببون له حرجًا دوليًا، وبالطرف المقابل فإن مجموعات المعارضة وخلاياها ما زالت تحاول جاهدةً استهداف ضباط النظام ثأرًا منهم ولكي لا يتركوا للنظام مجالًا للتفكير بأنه أمسك بالبلاد مرة أخرى بعد تهجير أهالي المدن والسيطرة عليها عسكريًا، وفي جهة غير بعيدة تبرز حرب التصفية الروسية بحق الضباط المقربين من إيران وكذا تفعل طهران، لتصبح البلاد ساحةً للتصفية غير معروفة النهاية.